أرضية ثقافيــة وإنسانيـة موحــّدة ورافـعة تنمويـــة مقتـدرة
أكّد المشاركون في المعارض المقامة ضمن فعاليات تظاهرة “الجزائر..عاصمة الثقافة الحسانية” التي احتضنها قصر الثقافة مفدي زكريا، على عمق الروابط الثقافية المشتركة التي تجمع بين الجزائر والصحراء الغربية وموريتانيا، منوّهين بالقيمة الرمزية لاحتضان الجزائر لهذا الحدث الثقافي، الذي يحتفي بواحد من أعرق الأوعية الحضارية في المنطقة.
عرفت التّظاهرة الثقافية الكبرى تنظيم معارض متنوعة شملت الصناعة التقليدية والكتاب والمخطوطات والسينما، إضافة إلى مساهمات الحظيرة الوطنية للثقافة بتندوف، مع تقديم عروض تعكس العادات والتقاليد الصحراوية الأصيلة، إلى جانب أمسيات شعرية في المخيم التقليدي “المحصر”، وعروض فلكلورية تسلط الضوء على عناصر الثقافة الحسانية.
الحسّانية..لغة توحّد
أوضح إبراهيم سالم أحمد الخليل، المدير العام للصناعة التقليدية والحرف بالجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية، أنّ العلاقات الجزائرية الصحراوية لا تقتصر على البعد السياسي، بل تنبع من أرضية ثقافية وإنسانية موحّدة. وأكّد أنّ الثّقافة الحسّانية تُمثل عنصر تقاطع بين الجزائر والصحراء الغربية وموريتانيا، باعتبارها إرثا لغويا واجتماعيا يوحّد هذه الشعوب، مشيرًا إلى أنّ العديد من القبائل الصحراوية تقطن جنوب الجزائر، وتتحدّث الحسانية باعتبارها لسانًا جامعًا، فيه من العربية كما من الأمازيغية.
أمّا خديجتو محمود، عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الصحفيين والكتاب الصحراويين، فأبرزت أنّ مشاركة جبهة البوليساريو تمثلت في عرض مجموعة من الكتب التي توثق الثقافة الحسانية في بعدها التاريخي والتربوي، منوّهة بالدعم الذي قدمته وزارة الثقافة الصحراوية بالتنسيق مع دور نشر جزائرية وأخرى أجنبية.
ومن موريتانيا، ثمّنت الحرفية مريم محمد المختار دعوة الجزائر لبلدها للمشاركة، معتبرة أن الحسانية ليست مجرد لهجة، بل جسر ثقافي يربط بين الشعبين، وأكّدت أن المنتوجات التقليدية الموريتانية التي عرضتها تعكس عمق الانتماء لهذا الامتداد المشترك.
الشّعر الحساني..تراث حيّ يستعيد مكانته
قدّم محمد مولود مولاي لحسن، مدير النشر والتوزيع باتحاد الصحفيين والكتاب الصحراويين ومسؤول المخطوطات التاريخية بوزارة الثقافة الصحراوية، مجموعة من المخطوطات الدينية والأدبية الحسّانية، بعضها يعود إلى ثلاثة قرون، إلى جانب دواوين شعرية باللهجة الحسانية. وأكد أن الحسانية ليست لهجة محلية، بل إطار معرفي له بنية لغوية وتربوية، مشيرًا إلى أنّ الشّعر الحساني كان وسيلة لنقل القيم والمعارف وتكوين الأجيال.
ومن ولاية تندوف، كشف عبد المنعم تواقين، رئيس المركز الثقافي الإسلامي بالولاية، عن عرض كتاب نادر بعنوان “ديوان حسان في لغتهم ولغة الأعجام والسودان”، يُعدّ أول مؤلف شعري في الأدب الحساني بالمنطقة، وقد أعادت المكتبة الوطنية الجزائرية ترميمه سنة 2005، وهو يشكّل وثيقة تاريخية تعكس ازدهار ثقافة التدوين في بيئة صحراوية كان يُظن أنّها شفوية بالكامل.
كما عرضت “الجمعية الثقافية لخزانة أهل باليل للمخطوط”، برئاسة الباحث باليل حبيب، مجموعة من المخطوطات النادرة، أبرزها مصحف قديم يعود إلى ما يزيد عن أربعة قرون، كتبه أحد أجداده بخط يده، ما يعكس تقاليد عريقة في التوثيق والتدوين داخل المجتمع الحساني.
المحصر..حضور نابض لروح الصّحراء
شهدت التّظاهرة عروضا فنية تفاعلية نظّمتها الوفود المشاركة، أبرزها الوفد الصحراوي الذي قدّم أمسيات شعرية وغنائية داخل “المحصر” التقليدي المنصوب بساحة قصر الثقافة، في أجواء قريبة من مجالس الشعر والرواية الصحراوية، بمشاركة فنانين من الجزائر والصحراء الغربية وموريتانيا.
وأوضح مدي حبيب، رئيس الوفد الثقافي الصحراوي، أن هذه الفعاليات لم تكن ترفا فنيا، بل تجسيدا حقيقيا للحياة الثقافية الحسانية، حيث لا ينفصل الغناء عن الشعر، ولا الفن عن القيم الجماعية للقبيلة والمجتمع.
ومن جانب الجنوب الجزائري، ساهمت ولاية برج باجي مختار في التظاهرة من خلال جمعية “الحلة الثقافية”، بالتعاون مع جمعية “دلال الثقافية”، حيث أبرز رئيس الجمعية، محمد الأمين عقباوي، أهمية “الحلة” كمخيم صحراوي تقليدي، له وظيفة تعليمية واجتماعية وروحية. وقال إنّ المدرسة الكنتية المنتشرة في الجنوب الجزائري كان لها دور محوري في نشر الإسلام والثقافة الحسانية نحو أزواد ومناطق الساحل الإفريقي، وهو دور لا يزال ماثلًا في الذاكرة الجمعية للمجتمع الصحراوي.
من جهته، عدّد الأستاذ محمد بوسكين من الحظيرة الثقافية لتندوف مهام هذه المؤسسة في الحفاظ على التراث المادي واللامادي، مشيرا إلى أنّ تندوف شكّلت لعقود طويلة نقطة عبور للقوافل المتنقلة بين المغرب الكبير وبلدان إفريقيا، ما جعلها خزّانا حيّا لذاكرة متنوّعة وثريّة.