طباعة هذه الصفحة

ترصد حقائق عن الثورة الجزائرية في الشمال القسنطيني

همجية الإستعمار وممارسات الخونة في رواية «كاف الريح»

بقلم الدكتور: وليد بوعديلة جامعة سكيكدة

سفر فني في موضوع سياسي اجتماعي والذاكرة 

عند آخر حرف قرأته في رواية الكاتب الجزائري نوار ياسين المعنونة بـ «كاف الريح»، نشر دار الكتاب العربي الجزائر 2016، تساءلت: هل تجد هذه الرواية كاتب السيناريو والمخرج والمنتج لتحويلها الى فيلم بطريقة تضاهي الأعمال السينمائية الخالدة عن الثورة التحريرة المجيدة؟. انه السؤال المطروح خاصة وان القصة التي يقترحها صاحبها على القارئ فيها الكثير من جماليات الرواية الناضجة والمتميزة في بنائها الفني وفي موضوعاتها المتعددة عن رجال الثورة، وقائعها وحقائقها المعلومة والمجهولة.

الروائي نوار ياسين (من مدينة قالمة) من الجيل الجديد، أبدع نصوصا سردية عديدة منها روايات مثل «ثلاثة أيام»،»رحى الأيام»،»حبة برتقال»... ومجموعات قصصية مثل: «رجل العشق»،»شتاء مشق». ومن يقرأ أعماله يكتشف كاتبا يتقن السفر الفني في الموضوعات الاجتماعية والانشغالات التربوية والدينية والثقافية التي تهم المجتمع الجزائري والعربي، عبر أدوات سردية تتأرجح بين الواقعية والتجريب.
 سنحاول تقديم بعض الخصوصيات التي قرأناها في روايته التاريخية «كاف الريح» التي تعود للنشاط الثوري في جبال الشمال القسنطيني أثناء الثورة التحريرية المجيدة ضد المستدمر الفرنسي.

في حكي الهمجية الاستعمارية الفرنسية

الرواية تحكي الكثير من مشاهد الممارسات الاستعمارية الفرنسية ضد الإنسان والأرض، وليست جبال قسنطينة وقالمة وغيرها من المناطق في الشمال الشرقي الجزائري، إلا مثالا عن جبال جزائرية عبر الوطن عانى سكانها في القرى والمداشر من قصف الطائرات وتخويف وتعذيب وتقتيل الجنود والضباط الفرنسيين.
 تقدم الرواية قصة المجاهد البطل كمال الشرشال واسمه الثوري هو رمضان بولحروف قائد العمليات في جبال بني مزلين بالجهة الشرقية لقالمة بجوار جبال هوارة الشهيرة بقالمة، وتصور أحزان الأم وأشواقها لابنها، منتظرة بكوخ قصديري بائس في دشرة من دشر الشرق الجزائري، وتنقل الرواية للقارئ ملاحقات الاستعمار له عبر الجبال والمدن.
  كما نقرأ الكثير من مشاهد الهمجية الاستعمارية عبر صفحات الرواية عندما تأتي المجموعات العسكرية الفرنسية للقرية بحثا عن المجاهدين الجزائريين، بدعم من الحركي الخائن محفوظ ولد الجاي، لدرجة شبههم السارد بالفزاعات التي توضع في البساتين لإخافة الطير وإبعادها(ص12).
 من الممارسات الاستعمارية الفرنسية التي تفضحها الرواية ( و فضحتها كتب التاريخ و تحتاج لتفعيل القانون الانساني الدولي ومواثيق حقوق الإنسان ضد فرنسا الرسمية اليوم من الجزائر نجد تعذيب رجال القرى بحثا عن معلومات حول المجاهدين، كما فعلوا مثلا مع أحد الشيوخ في القرية، فقد قذفه الجنود من منحدر صخري...
كما لم يكتف الروائي بصور التعذيب والقتل الهمجي الفرنسي، بل نقل لنا -عبر تقنيات سردية متعددة- المنظور النفسي والفكري للحركي- الخائن من فرنسا، فهي عنده رمز القوة بكل دباباتها وطائراتها وبأعداد جنودها، فيجمع النص السردي بين تقنيتين لفضح الاستعمار ومحاولاته إركاع السكان في المداشر وجلبهم لصفه، الأولى هي تقنية التخويف عبر الحرق و القتل و الثانية هي التخويف عبر خطاب الخونة عن القوة المادية الفرنسية الاستعمارية، لكن ذلك لم ينفع.
 تدخل الرواية السجون وتنقل مشاهد التعذيب و أصوات الجرحى وصراخ الدم الثائر والأجساد المكهربة والمشوّهة، والوضعية البائسة للسجن (سجن الكدية) التي تقتل إنسانية الإنسان، وجاء الوصف بطريقة فنية جيدة، وبلغة حكائية تدل على البراعة والإتقان...
 لعلّ استعانة الروائي نوار ياسين بشعرية السرد في بعض صفحات الروائية، قد ساعدته في نقل ما يمكن تسميته «سرديات الهمجية الفرنسية»، حيث التنكيل بالأحرار بوسائل مرهبة متنوعة، فيها الكلاب المسعورة والأفران العظيمة لحرق البشر أحياءً وتشويههم قتلى؟؟؟ (هذا يذكرنا بأفران هيليوبوليس بقالمة في ماي 1945 ومجازرها التي لم تعترف بها فرنسا ونسيها الخطاب الرسمي الجزائري؟ فلا اعتذار فرنسي ولا طلب جزائري في مستوى التحدي والمطلوب وواجب الذاكرة؟؟)
قداسة النضال ودنس الخيانة
تسير الرواية في خط تخييلي- فكري واحد، وهو محاولة الارتقاء الجمالي بالجهاد النوفمبري المجيد، من خلال اقتراح الكثير من المقاطع السردية التي تصف وصفا أسطوريا المجاهدين وشجاعتهم وتضحياتهم، وسيجد القارئ هذا الأمر من بداية الرواية لنهايتها، ولم ينشغل الكاتب نوار ياسين بقضية المجاهدين المزيفين، كما لم يكتب الممارسات السلبية في الثورة التحريرية أو نقاط الظل فيها، واكتفى بكتابة نص تمجيدي وسرد ابتهالي لكل شهيد وعن كل شهادة.
فوظّف تقنية «الأسطورة» ، أي التحويل الأسطوري للشخصيات اليومية والشعبية، عبر المبالغة في وصف منجزها الثوري ونبضها الوطني، فالمجاهد «كمال»، مثلا موجود في كل مكان ومقاتل شرس ومقبل على الموت، من دون تراجع ويهابه الصديق والعدو...وغيرها من الأوصاف البطولية الخارقة، لدرجة نتأمل شعرية سرد التضحية (مثل صفحة257)، كما وجدنا في نص الروائي نوار ياسين الحنين والشوق الذي كان يعانيه المجاهدون بعيدا عن أم أهلهم وعن منازلهم وأراضيهم، بأسلوب شاعر رومانسي، يحّن فيه المجاهد الجزائري لكسرة الأم (مثل حنين الشاعر المناضل محمود درويش لقهوة وخبز أمه في قصيدته المشهورة).
 من الملامح التي تجعل الرواية رواية عن الثورة التحررية، نذكر حضور مساهمة المرأة في الثورة، الأعمال الفدائية في المدن، تحركات وانتقالات الثوار الجزائريين بين المناطق والجبال، وضعية المساجين في السجون، الحياة الاجتماعية الصعبة لأسر المجاهدين ولكل الجزائريين، مساهمة أهل الريف في دعم الجهاد بطرق متعددة...
بقدر طموح الكاتب للارتقاء بالنضال الجزائري، بقدر ما كان يريد أن ينقل للقارئ العربي صورا من مواقف الحركى-الخونة، فجسد الروائي بشخصية محفوظ كل ملامح الخائن الذي يقدم المعلومات للمستعمر و يترجم تعليمات الضباط الفرنسيين للأهالي في المداشر. فالكثير من المقاطع في الرواية تعبر عن المشاعر الداخلية الحاقدة والأفكار الدنيئة لجزائريين خانوا الوطن وخدموا فرنسا.
كلمة لا بد منها
ننصح القارئ الجزائري والعربي بقراءة هذه الرواية، وهي تنقل  طهارة الشوق للأرض وهمجية المستعمر الفرنسي وحقد الخونة ونكرانهم للأرض والأهل لأجل متاع دنيوي زائل، ونتمنى أن تكتشف الساحة الثقافية الجزائرية والعربية هذا الروائي الشاب، وان يقترب الباحثون والنقاد من نصوصه السردية المختلفة رواية وقصة، فنوار ياسين مبدع يكتب بطريقة جميلة، ويتقن نقل القناعات الفكرية والسياسية بثوب سردي ممتع مشوق. يعرف كيف يجعل الخطابات المختلفة تتفاعل في رواية واحدة بمرجعيات تاريخية وفنية وتراثية غنية.