طباعة هذه الصفحة

العلامة علي مغربي أحد رموز التربية والإصلاح

من مدير مدرسة الرشيدية بشرشال إلى عضو دائم بالمجلس الإسلامي الأعلى

بقلم: أحمد بن السائح الحلقة 3 والأخيرة

موسوعة دينية وثقافية لها وزنها في  الفكر الإسلامي

مسار علمي متشبع بمبادئ جمعية العلماء إلى آخر أيامه

وبالموازاة مع دروسه المسجدية كان الشيخ الشاب علي يتطوع بتعليم الناشئة في فرفار، ولَمْ يمض على ذلك وقت طويل حتى عَلِمَ بدروسه أهل الزاب، فجاءته وفود الطلبة من المداشر المجاورة والمتاخمة لبلدته للإفادة من درسه على مدى عامين كاملين . وفي تلك الأثناء بدأ الشاب علي مغربي نشاطه العلمي وهوفي تلك السِّنِّ المبكِّرة، جَرَّبَ الكتابة وراسل البصائر الأولى، وعَبَّرَ عن طموحه وتطلعاته الفكرية، وأدمن من جهة أخرى على متابعة ما يُنشرُ قي الصحافة الإصلاحية، وتعرف على كُتَّابها، وربط صلات الْوُدِّ والعلاقات الأدبية مع المبدعين من شعراء وناثرين وكتبة للمقال التحليلي ـ السياسي والعلمي والاجتماعي ـ . وواكب المسار الإصلاحي على الرغم من حداثة سِنِّهِ، وجاءت باكورة كتاباته ثمرة أنضجتها الدربة وغذّاها شغفه بالعلم وصقلتها إرادة الكتابة التي لا تهدأ بداخله شأن كل قلم مبدع ينبجس بالأفكار كما تتفجر الحجارة بالأنهار، وهذا نموذج من بواكير كتابته الأولى مدرج في سجل جمعية العلماء جاء فيه: الحمد لله معز الحق ومذيله، ومذل الباطل ومزيله، ذوالحجج البوالغ، والنعم السوابغ . وصلاة وسلاما على سيدنا محمد الذي أدى الأمانة مخلصا وصدع بالرسالة مبلغا وملخصا .

(( أما بعد : أيها السادة الأعلام، والإخوة الكرام ـ والحق يعلوـ إني ما كنت أظن أن السعادة بلغت بي إلى هذا الشأوالبعيد، وما دار بخلدي يوما ما أن أكون من خطباء هذا اليوم المبارك، وأن أقف هذا الموقف العظيم بين هؤلاء الأسود الضراغم وأنا ما زلت لم أبلغ أشدي، ولم يشتد ساعدي ؛ ولكن الذي جرأني على هذا علمي بأنني شبل لهؤلاء الأسود ؛ لذلك تراني واقفا هنا وقفة ابن بار بين يدي والده الحنون ليؤدي له واجب الإجلال والاحترام . أقف كبقية إخواني في هذا اليوم لا لآتيكم بشيء جديد يطربكم سماعه، ويحرك أوتار قلوبكم الزكية ؛ وإنما هي كليمات أخرجتها القريحة الخاملة . فإن أردتم سماعها فقد نلتم أجرا، وإن أبيتم لم تأتوا نكرا .
(( أيها السادة : أردت أن أحدثكم عن شباب الجزائر من الناحية العلمية . إن ابن الجزائر رجل حزم وجد ونشاط بفطرته الموهوبة ولكنه ـ ويا للأسف ـ لم يجد السبل موضحة، والطرق معبدة، حتى يفرغ مواهبه الالهية فيما خلقت لأجله، من نشر العلم والفضيلة ولم يجد وسائل العمل بقدر ما عنده من عزم وحزم .
 (( بقي شبابنا ردحا من الزمن ليس باليسير يتخبط في جهالة عمياء وانحطاط عظيم . وكان مما نشأ عن هذا وصول الأمة الجزائرية إلى ما تعانيه اليوم من تأخر مادي وأدبي ؛ لأن حياة الأمة بحياة شبابها . فالمتعلم من الشبان جامد الجمود الأكبر إلا من رحم ربك . حتى سنة 1912 فتح الله للجزائر بابا جديدا للرقي والكمال حتى أصبحت تضاهي الأمم الحية في هذه السنة بسطوع نجم يضيء في أفقها الكدر وظلامها الحالك . ذلك النجم هوأستاذها اليوم ومربي روحها ونشئها وشبابها أبوالنهضة العلمية الجزائرية الأستاذ الأكبر الشيخ سيدي عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين . )) . أ . هـ .

على رأس المدرسة الرشيدية

نقتصر على هذا المقطع الذي يعتبر مهادا وديباجة للمقال الذي غطى أربع صفحات تقريبا . ثم اختارته الجمعية سنة 1937 ليكون على رأس إدارة المدرسة الرشيدية بشرشال، وهي مدرسة جديدة أقيم حفل خاص بمناسبة افتتاحها وحضر هذا الحفل بعض الأعضاء من جمعية العلماء وأساتذة من مدرسة الشبيبة منهم الأستاذ فرحات بن الدراجي وشاعر الجزائر محمد العيد الذي ألقى قصيدة بمناسبة الافتتاح .
 وبتعيينه مديرا للمدرسة الرشيدية أصبح الأستاذ علي مغربي تحت مجهر الإدارة الفرنسية التي ترصد نشاط التعليم العربي الحر، وتتابع أساتذته والداعين إليه، وتختلق المبررات الواهية لوقف زحف ذلك النشاط الذي تتسع دائرته ويتنامى عدد المقبلين عليه، ومن الطبيعي أن يكون الشيخ علي في قائمة المشبوهين، طالما أنه على رأس إدارة المدرسة، كما أنه من الطبيعي ـ أيضا ـ أن يُستدْعَى من طرف محافظ الشرطة للتحقيق معه، لأن ممارسة التعليم العربي تُعْتَبَرُ تحديا صارخا لقوانين فرنسا التي تُجَرِّمُ التعليم باللغة العربية وتَسْجُنُ وتُغَرِّمُ من يتعاطاه .
 وبدأ الشيخ علي كغيره من معلمي العربية يعرف ضربا جديدا من ضروب الصراع، ويذهب إلى مخافر الشرطة للاستجواب، ويتصدى بكبرياء للكيد الاستدماري متحملا صنوفا من الأذى والعسف في سبيل الرسالة التي آمن بها وأخلص لمبادئها، ورأى في تحقيق غاياتها مستقبل أمته وأمل شعبه .
وطوال إقامته بشرشال استطاعت الإدارة الفرنسية ـ من خلال تعاملها مع ملفه ـ أن تعرف سلوكه وتوجهاته ومدى إيمانه بجدوى الخط الإصلاحي، واستمساكه بنهج جمعية العلماء، وتفانيه في الدفاع عن مشروعها الذي ترى فيه فرنسا أنه المشروع الوحيد الذي يهدد وجودها وبقاءها في الجزائر . وظل الأستاذ علي مغربي ثابتا في موقفه يتحدى ظلم إدارة الاحتلال، وكان لا يعنيه سوى تحرير العقل وتوعية الأمة الجزائرية بواقعها المرير ومصيرها المجهول . واقتنعت الإدارة الفرنسية في نهاية المطاف أن هذا الصنف من الناس لا يتراجعون عن مبادئهم بالإنذار والتهديد، ولا يجدي معهم التخويف، ولا يأبهون لملفاتهم الدسمة بمواقفهم الثابتة، بَلْهَ سلوكياتهم المتحدية التي يمتزج فيها الرهان والنضال ويقترن فيها الأمل بالعمل، ويتآلف فيها الواقع القائم بالتطلع نحوآفاق النصر .
وأمام مثل هذه الإرادة الصلبة ـ التي غرستها جمعية العلماء في شبابها ـ لَمْ يبق لمحافظة شرطة شرشال إلا اللجوء إلى اختلاق التهم غير المؤسسة، ودعمها بالإدعاء الزائف الذي لا علاقة له بقانون حظر التعليم العربي، لتصبح التهمة الملفقة ـ ليست تهمة تعليم أوعدم تعليم !!! ـ تهمة متعدية إلى موضوع آخر يَمَسُّ حرية العلاقات القائمة بين الأشخاص والمؤسسات . وفحوى التهمة المختلقة هوإقدام الشيخ علي مغربي على إرسال حوالة إلى طلبة الجامع الأخضر بقسنطينة، فكانت تهمة كافية ومكتملة العناصر ترتبت عليها الإدانة التي كانت سببا في نفيه من شرشال سنة 1939 .

العاصمة وجهة أخرى للمسيرة لها تاريخ

ومن شرشال توجه نحوالعاصمة ليمكث فيها بضعة أشهر متوجسا خيفة من متابعة دوائر الشرطة التي لا تزال تأتمر به لإلقاء القبض عليه ضمن تلك الحملة التي شنتها عقب اندلاع الحرب الكونية الثانية، وألقت بالكثيرين من رجالات الإصلاح في غيابات ( جنان بورزق ) .
ولما ألقي القبض ـ عقب مجازر الثامن ماي الأليمة ـ على أشياخ الجمعية ( محمد البشير الإبراهيمي، العربي التبسي، محمد خير الدين ) كان الشيخ علي مغربي واحدا من الثلاثة الذين خلفوهم للاضطلاع بتسيير شؤون الجمعية، وإدارة مكتبها بمعية زميليه الأستاذ حمزة بوكوشة والأستاذ فرحات بن الدراجي، وبالإضافة إلى ذلك فقد كان عضوا بالمجلس الإداري لجمعية العلماء، وقد أسندت إليه إدارة العديد من مدارس الجمعية، وكان مربيا مثاليا للنشء . وفي بسكرة أدار المدرسة، وعَلَّمَ إلى جانب زمرة من زملائه كالشيخ محمد العابد الجلالي، والأستاذ محمد الصادق مراوي ـ المحامي ـ، والشيخ بلقاسم بن عمار ميموني الغسيري، والشيخ أحمد الطيب معاش الباتني، والشيخ الصالح بن مدور الغسيري، والشيخ بلقاسم القماري والشيخ محمد مغزي بخوش، والشيخ محمد الشريف بلال القنطري . كما كان من أعضاء شعبة بسكرة كالشيخ الشهيد عبد الرحمن بركات ( رئيس الشعبة )، والشيخ الحافظ والمقرئ مصطفى قرفي الغسيري، والشيخ صولي أحمد بن الدراجي، والشيخ محمد الغريبي القماري والشيخ عمر نوار، والقائد الكشفي مدني فطناسي .
وبعد الاستقلال واصل رسالته التربوية في ثانوية الأمير عبد القادر بالعاصمة، وفي سنة 1966 عين عضوا دائما بالمجلس الإسلامي الأعلى، ثم عين نائبا لرئيسه، وفي سنة 1975 عين رئيسا لوفد لجنة الحج، وفي سنة 1976 عين عضوا في مجمع الفقه الإسلامي، كما ترأس العديد من لجان التوصيات لملتقيات إسلامية، فضلا عن مشاركته في نشاطات فكرية وثقافية متنوعة إلى جانب مواظبته على حضور ( ملتقيات التعرف على الفكر الإسلامي ) التي كانت تعقد بالجزائر .
كان ـ عليه رحمة الله ـ يتمادى في نكران الذات، ويكره الحديث عن نفسه، ويبتعد عن الأضواء ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ويحرص على العمل في صمت، وكان يعمل لغيره على الرغم من ثقل السنين وزحف الشيخوخة، وكان لا يتخلف عن حضور مجالس العلم، يشارك بالمحاضرة ويتدخل معقبا ومناقشا ومصححا، أخلاقه تتجلى في سمته ووقاره، يصادق الجميع، ولا يحمل حقدا لأحد، يحن باستمرار للعهود الزاهرة للجمعية، حاولت أكثر من مرة بمعية صديقي الأستاذ الشاعر الأخضر رحموني أن ننتزع منه ترجمة، فكان يتمنع بأدب جم، ويُسَوِّفَنَا بأن هذا الطلب سوف يتحقق مستقبلا . حدثني مرة ـ وكنا في الحافلة عائدين من طولقة إلى بسكرة بمناسبة انعقاد الأيام الدراسية الثانية حول الشخصيات العلمية والنضالية لدائرة طولقة من 3 إلى 5 جوان 1987 ـ أنه وضع اللمسات الأخيرة على مذكراته، وذكر لي أنه وضع تأليفا عن حياة العلامة عبد الرحمن الأخضري الذي اشتغل عليه طويلا، ولعل سبب اهتمام الأستاذ علي مغربي بشخصية الأخضري يرجع إلى تلك النزعة الإصلاحية التي تضمنتها ( القدسية ) وما انطوت عليه من أفكار تعكس منهج السلف الصالح، وتتقاطع مع روح السلفية العلمية التي تقودها مدرسة المنار التجديدية التي ازدهرت بفكرها المعتدل في مطالع القرن العشرين .

اعترافات شيخ المؤرخين سعدالله

وقارئ ( قدسية ) الأخضري يلاحظ تلك الوقفات العلمية التي نافحت عن عقيدة أهل السنة والجماعة، ويلحظ ـ أيضا ـ حملات الأخضري العاصفة وصرخاته الغاضبة في مواجهة جهالات عقائد الطرقية المتطرفة وما تدعوإليه من شرك وضلال وقبورية مهلكة .
ولا شك أن أستاذنا الراحل علي مغربي قد تأثر بالأخضري تأثرا بليغا، وفحص قصيدة ( القدسية ) فحصا علميا وأفاد من إشراقاتها الإصلاحية التي تستضيء من مشكاة السلف الأول، وتقاوم الأوهام المتطوحة في أودية التصوف المرذول وأتباعه من المقبوحين .
وإن تعجب فعجب أن يرتبط اسم الأخضري بالتصوف !!! وكم كان شيخ المؤرخين الأستاذ الدكتور أبوالقاسم سعد الله ـ عليه شآبيب الرحمة والغفران ـ صادقا حين قرر بعد دراسته المعمقة لشخصية الأخضري: (( ... فكان الأخضري قد جُعِلَ مُتَصَوِّفًا وصاحب طريقة رغم أنفه)) . أ . هـ . ( انظر : الدكتور أبوالقسم سعد الله،  «تاريخ الجزائر الثقافي»، ج : 1 ص : 510، الطبعة الأولى، ـ الشركة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائر 1981ـ .
وظل الشيخ علي مغربي مستمسكا بمبادئ الجمعية مرابطا في خندق الإصلاح إلى آخر أيامه، على الرغم من وطأة المرض وتثاقل السنين، فقد كان إلى عهد قريب ـ قبل وفاته ـ متطوعا بالخطابة في مسجد عبد الحميد بن باديس بالعاصمة، وكان من المساهمين بإيجابية في مختلف النشاطات الخيرية والعلمية إلى أن لقي ربه يوم التاسع عشر من رمضان عام 1419 هِـ الموافق لِـ : السادس جانفي سنة 1999 مِ، نسأل الله أن يجعله مع : (( ...الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) .

انتهى