طباعة هذه الصفحة

الذكرى 63 لاستشهاد القائد الرمز

بــن بــولعــيـــد شـــخــصـــية ثـوريــــة ذات أبـــعـاد إنـــســـانـــيـة

س. بوعموشة

 عسكري وسياسي يحسن التخطيط والتعبئة

تشاء الأقدار أن يكون مارس شهر إستشهاد أبطال ورموز الثورة الذين لا يمكن تعويضهم، أمثال العربي بن مهيدي، مصطفى بن بوالعيد، العقيد لطفي والعقيد عميروش وسي الحواس، كما أنه شهر النصر على الاستعمار الفرنسي.

 هم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، منهم الشخصية الثورية الملقب بأسد الأوراس، الشهيد مصطفى بن بو العيد القائد العسكري الذي أثبت جدارته في مواجهة الاستعمار الفرنسي. هو قائد سياسي يحسن التخطيط والتنظيم والتعبئة يملك رؤية واضحة لأهدافه ولأبعاد قضيته وعدالتها، كان يتحلى بالانسانية إلى جانب تمرسه في القيادة العسكرية والسياسية. «صفحة التاريخ» تتوقف عند هذه الشخصية وترصد مساره النضالي في تحرير الوطن.

كان مدركا لشمولية الصراع ولأبعاد المعركة ضد العدو الاستعماري. ولد بن بوالعيد بتاريخ 5 فيفري1917، في قرية إينركب بأريس، من أسرة تنحدر من قبيلة أولاد تخريبت التي تنحدر من عرش بني توبة الذواودة. إلتحق بالكتاب لتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم في أريس ثم انتقل به أبوه إلى باتنة وأدخله المدرسة الفرنسية التي تحمل اليوم إسم الأمير عبد القادر، وواصل بها دراسته حتى وصل إلى مستوى شهادة الأهلية، ثم أوقفه أبوه عن مواصلة التعليم الفرنسي وانتقل به إلى قرية «أفره» بين عين الطين وأريس، ليمارس التجارة، بسبب العراقيل التي كانت الإدارة الإستعمارية تضعها أمام التلاميذ والطلبة الجزائريين وتحرمهم من مواصلة الدراسة.
اشترى قطعة أرض للبناء في دشرة راجو وهناك توفي والده عام 1935، ليخلفه أبناؤه عمر ومصطفى في إدارة شؤون العائلة والتكفل بها في ظروف صعبة خاصة في تلك الفترة، بعد وفاة والده اشترك مع أخيه عمر في إعالة الأسرى إلى عام 1937 ثم سافر إلى فرنسا للعمل، وإلتحق به أخوه الاكبر لحاجة العائلة إقتصاديا.
عاد إلى أريس ودعي بن بوالعيد للتجنيد القسري أواخر 1938 لأداء الخدمة العسكرية الإجبارية المفروضة على كل الشبان الجزائريين من السلطات الاستعمارية  اقتيد إلى مدينة سطيف ورقي إلى رتبة رقيب وبقي في القوات الفرنسية إلى أن استسلمت فرنسا للنازية عام 1940 ثم أطلق سراحه.
بعد عامين تزوج ودعي من جديد للخدمة العسكرية في إطار الجنود الإحتياطيين وأقتيد إلى فرقة المشاة بخنشلة ثم إلى قالمة ومنها إلى أريس عام 1945، وأطلق سراحه هناك واشتغل مثل أخيه حرفة التجارة وانخرط في نقابة العمال بأريس، واهتم بتكوين ثروة له ولإخوانه، فاشترى أراضي فلاحية بتازولت وفم الطوب وبستانا وسكنا بأريس وغابة نخيل في مشونش ورحا بالوادي الأبيض، وقام بكراء الطريق الرابط بين أريس وباتنة من شركة فرنسية لنقل المسافرين على حافلة خاصة وذلك عام 1944،  هذه الثروة أنفقها على الفقراء والمعوزين وموّل الثورة عندما شرع في التخطيط لها وإعالة مناضلي المنظمة الخاصة الذين سيفرون إلى الأوراس بعد انكشاف أمرها عام 1950.
افتتح بن بوالعيد عمله النضالي ببلدة أريس عندما سعى مع الشيخ الأمير الصالحي لإنشاء مسجد ومدرسة وكتاب لحفظ القرآن الكريم، وهي المشاريع التي كان يتبناها الشعب الجزائري لوحده على المستوى الوطني، وينفق عليها بسخاء حفاظا على الوجه العربي الإسلامي للجزائر ومقاومة لسياسة فرنسا التنصيرية التي كانت الإدارة الإستعمارية وأذنابها يسعون لتحقيقها منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وقد تم إنشاء هذا المركب بدعم وتشجيع من الشيخ البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء الذي تم الإتصال به وباركه.
إلتحق الشهيد بالعمل السياسي في مجموعة الحاج الزواوي اسمايحي أواخر 1945 وحدد إتجاهه السياسي المستقبلي، وتبني إيديولوجية حزب الشعب الجزائري المطالب بإستقلال الجزائر و أن سكان الأوراس يعانون أكثر من الفقر والجهل والحرمان الصحي والإجتماعي ويتعرضون للتقتيل والتعذيب، من طرف الإدارة الإستعمارية وجيشها والأقلية الأوروبية الطاغية.
 عندما تقرر إجراء إنتخاب أعضاء البرلمان الفرنسي عام 1946، قام بن بوالعيد بدعاية واسعة ضد مرشحي الإدارة الإستعمارية ولفت بعمله أنظار الشرطة الفرنسية التي أخذت تراقبه وتتبع نشاطه وحركاته وتضايقه، وفي هذه السنة اشترى مزرعة  أسلاف قرب فم الطوب التي ستصبح فيما بعد مقرا لتدريب مناضلي المنظمة الخاصة على استعمال الأسلحة وإصلاحها وصيانتها، وصنع القنابل والمتفجرات والعبوات الناسفة، ولجلب الأسلحة وخزنها وإيداعها بها من تونس، وادي سوف وليبيا.

تكفل بتدريب مناضلي المنظمة الخاصة الفارين وإيوائهم
 
انخرط الشهيد في حزب حركة إنتصار الحريات الديمقراطية، الذي أنشأه حزب الشعب المنحل في أكتوبر 1946، ليشارك بواسطته في الإنتخابات المقبلة وعندما أنشأ المنظمة الخاصة في منتصف فيفري 1947 خلال مؤتمره الأول عين على رأسها المرحوم محمد بلوزداد، الذي اختار الشهيد العربي بن مهيدي وعينه على رأس جهازها في الجنوب الشرقي، وفي الأوراس عين عبد القادر العمودي، ثم لما نقل إلى بسكرة عين بن بوالعيد مكانه في الأوراس، فأسس عدة خلايا للمنظمة في كل من أريس والحجاج والمدينة وفم الطوب، وجند لها عددا من المناضلين الذين تكفلوا بجمع الأسلحة وصنع القنابل والمتفجرات.
 وواضب على الإلتقاء بهم ودراسة كل المشاكل والبحث عن مصادر لجمع الأسلحة وتدبير الأموال اللازمة، ومن ضمن مساعديه اسمايحي بلقاسم والشيخ محمد الأمير صالحي، وعندما تم إعلان إجراء الإنتخابات لإختيار نواب المجلس الجزائري الذي نص عليه ما يعرف بدستور 20 سبتمبر 1947، وذلك في أفريل 1948 قرر حزب حركة الإنتصار للحريات الديمقراطية المشاركة فيها.
 كما شارك في إنتخاب المجالس البلدية عام 1947 من أجل إيصال صوته ونشر إيديولوجيته الإستقلالية في أوساط الشعب بصفة مكثفة، ورشح في أريس بن بوالعيد لكفاءته النضالية ومستواه الرفيع فكريا وسياسيا ومكانته داخل الحزب والمنظمة.
خلال الدور الأول الذي جرى في 4 أفريل 1948، نجح بن بوالعيد وحصلت عدة حوادث في فم الطوب، وكيمل وبوزينة وتيغانمين دبرتها الإدارة الإستعمارية لتخلق مشاكل له ومبررات لإسقاطه في الدور الثاني، وزورت الإنتخابات بعدما رفض الشهيد أن يكون أداة في يدها، وبعد هذه التجربة المريرة من الناحية السياسية قرر الإهتمام بأمر المنظمة الخاصة أكثر وتكثيف العمل لتجنيد المزيد من المناضلين فيها وجمع الأسلحة والتدريب عليها.
 في مارس 1950 انكشف أمر المنظمة الخاصة واضطر الذين لم يقعوا في أيدي الشرطة أن يعتصموا في المخابئ، ونظرا لحصانة جبال الأوراس وعدم انكشاف سر المنظمة بها توجه إلى هناك عدد من مناضلي بلاد القبائل، فاستقبلهم بن بوالعيد وأسكنهم في مزرعة بأسلاف وقرية بولفرايس وكلف من يدربهم على استعمال الأسلحة وصيانتها.
يبدو أن الإدارة الإستعمارية تسربت إليها بعض الأخبار عن إعتصام مناضلي المنظمة الخاصة في الأوراس، فشنت حملة تمشيط كبرى عام 1951 وأخرى في 1952 تواصلت إلى غاية 1953، ومارسوا عمليات قمع بلغت الذروة في الوحشية بحثا عن المناضلين.
أعتقل بن بوالعيد في 11 فيفري 1955، وفي 3 مارس 1955 قدم للمحكمة العسكرية الفرنسية بتونس التي أصدرت يوم 28 ماي 1955 حكما بالأشغال الشاقة المؤبدة، بعدها نقل إلى قسنطينة لتعاد محاكمته من جديد أمام المحكمة العسكرية في 21 جوان 1955 وبعد محاكمة مهزلة أصدرت الحكم عليه بالإعدام، ونقل إلى سجن الكدية الحصين، وفي السجن خاض بن بولعيد نضالا مريرا مع الإدارة لتعامل مساجين الثورة معاملة السجناء السياسيين وأسرى الحرب بما تنص عليه القوانين الدولية.
نتيجة تلك النضالات ومنها الإضراب عن الطعام مدة 14 يوما، ومراسلة رئيس الجمهورية الفرنسية تم نزع القيود والسلاسل التي كانت تكبل المجاهدين داخل زنزاناتهم وتم السماح لهم بالخروج صباحا ومساء إلى فناء السجن. وفي هذه المرحلة واصل بن بولعيد مهمته النضالية بالرفع من معنويات المجاهدين ومحاربة الضعف واليأس من جهة والتفكير الجدي في الهروب من جهة ثانية، وبعد تفكير متمعن تم التوصل إلى فكرة الهروب عن طريق حفر نفق يصلها بمخزن من البناء الاصطناعي وبوسائل جد بدائية شرع الرفاق في عملية الحفر التي دامت 28 يوما كاملا، وقد عرفت عملية الحفر صعوبات عدة.

^ من مخططي ثورة الفاتح نوفمبر 19٥٤

تمكن من الفرار من هذا السجن الحصين والمرعب كل من مصطفى بن بولعيد، محمد العيفة، الطاهر الزبيري، لخضر مشري، علي حفطاوي، إبراهيم طايبي، رشيد أحمد بوشمال، حمادي كرومة، محمد بزيان، سليمان زايدي وحسين عريف، وبعد مسيرة شاقة على الأقدام الحافية المتورمة والبطون الجائعة وصلوا إلى مراكز الثورة.
 في طريق العودة إلى مقر قيادته انتقل إلى كيمل حيث عقد سلسلة من اللقاءات مع إطارات الثورة ومسؤوليها بالناحية، كما قام بجولة تفقدية إلى العديد من الأقسام للوقوف على الوضعية النظامية والعسكرية بالمنطقة الأولى «الأوراس».
 تخلل هذه الجولة إشراف بن بولعيد على قيادة بعض أفواج جيش التحرير الوطني التي خاضت معارك ضارية ضد قوات العدو وأهمها: معركة إيفري البلح يوم 13-01-1956 ودامت يومين كاملين والثانية وقعت بجبل أحمر خدو يوم 18-01-1956، وقد أحدث فراره من سجن قسنطينة ضجة كبيرة في أوساط الجيش والإدارة الإستعمارية، وحضر جاك سوستيل الوالي العام بنفسه إلى مدينة قسنطينة للإطلاع على ظروف هروبه وأسبابه.
نظرا للمكانة التي يحظى بها بن بولعيد فقد أسندت إليه بالإجماع رئاسة اللقاء الذي انجر عنه تقسيم البلاد إلى خمس مناطق وعين على كل منطقة مسؤول وقد عين مصطفى بن بولعيد على رأس المنطقة الأولى: الأوراس كما كان أحد أعضاء لجنة «الستة» «بوضياف، ديدوش، بن بولعيد، بيطاط، بن مهيدي، كريم». ومن أجل توفير كل شروط النجاح والاستمرارية للثورة المزمع تفجيرها، تنقل بن بولعيد رفقة: ديدوش مراد، محمد بوضياف ومحمد العربي بن مهيدي، إلى سويسرا خلال شهر جويلية 1954 بغية ربط الاتصال بأعضاء الوفد الخارجي «بن بلة، خيضر وآيت أحمد» لتبليغهم بنتائج اجتماع مجموعة 22 من جهة وتكليفهم بمهمة الإشراف على الدعاية لصالح الثورة.
مع اقتراب الموعد المحدد لتفجير الثورة تكثفت نشاطات بن بولعيد من أجل ضبط كل كبيرة وصغيرة ، بحيث تنقل بن بولعيد إلى ميلة بمعية كل من محمد بوضياف وديدوش مراد للاجتماع في ضيعة تابعة لعائلة بن طوبال وذلك في سبتمبر 1954 بغرض متابعة النتائج المتوصل إليها في التحضير الجاد لإعلان الثورة المسلحة ودراسة احتياجات كل منطقة من عتاد الحرب كأسلحة والذخيرة. وفي 10 أكتوبر 1954 التقى بن بولعيد، كريم بلقاسم ورابح بيطاط في منزل مراد بوقشورة بالرايس حميدو وأثناء هذا الاجتماع تم الاتفاق على:

-  إعلان الثورة المسلحة باسم جبهة التحرير الوطني.
-  إعداد مشروع بيان أول نوفمبر 1954.
-  تحديد يوم 22 أكتوبر 1954 موعدا لاجتماع مجموعة الستة لمراجعة مشروع بيان أول نوفمبر وإقراره.
- تحديد منتصف، ليلة الإثنين، أول نوفمبر 1954، موعدا لانطلاق الثورة المسلحة.

خلال إجتماعاته بوادي عطاف علم بحصول خلافات بين المجاهدين في ناحية سوق أهراس، وأرسل في الحين العيفة محمد وعبد الوهاب عثماني لإصلاح ذات البين وانتقل هو إلى الجبل الأزرق وترأس إجتماعا لإطارات المنطقة الغربية في تافرنت يومي 22 و23 مارس 1956، وخلال الإجتماع أحضر له أحد المجاهدين مذياعا ملغما عثر عليه في الغابة صحبة عدد من الرسائل بثتها مصالح الإستخبارات الفرنسية، فوضعه على جانب ومنع على أي أحد أن يلمسه أو يدير أحد أزراره، وبعد نهاية الإجتماع يوم 23 مارس 1956، وعلى الساعة السابعة والنصف، لمس مصطفى بن بوالعيد أحد أزرار المذياع فانفجر عليه، وعلى أحد عشر من رفاقه، انتثرت أشلاؤهم في كل مكان وكانت كارثة حقا ولم يستطع أحد من رجال الولاية أن يخلف مكانه.