طباعة هذه الصفحة

قيس سعيد رئيسا لتونس

خلفيات نجاح .. وتحدّيات المشروع الرئاسي

حمزة محصول

انتخب التونسيون، أستاذ القانون الدستوري والمرشح المستقل، قيس سعيد، رئيسا جديدا للبلاد، في انتخابات وصفت «بالعقابية»، وأنها«جسدت التغيير الشامل»، وعكست إرادة الشعب التونسي، بينما يقول الواقع  أن هناك تحديات جادة سيصطدم بها تصوّره في الحكم وإعادة الإشعاع الخارجي لبلاده.
بعد قرابة تسع سنوات من الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، قطعت تونس خطوة هامة في طريق التجسيد الفعلي للممارسة الديمقراطية التعددية، من خلال مسار انتخابي مكثف انطلق أواخر شهر أوت الماضي. انتهى هذا المسار بتنظيم الانتخابات الرئاسية بجولتين والانتخابات التشريعية، بجملة من المكتسبات وكثير من التحديات المرتبطة بالوضعين الداخلي والخارجي للبلاد.
أول المكتسبات التي حققتها تونس، منذ 2011، هي «التمكن»، من الجوانب الإجرائية للعملية الانتخابية، مهما كان حجمها، من خلال آلية السلطة المستقلة للإشراف وتنظيم ومراقبة الانتخابات.
فقد تجاوزت المواعيد الثلاثة التي انطلقت في 15 سبتمبر الماضي، مسائل «شوائب التزوير»، و»هاجس النزاهة والشفافية»، وتقبل النتائج الأولية والنهائية مهما حملت من مفاجآت غير مسبوقة.
لذلك، يمكن القول بأن تونس، انضمت إلى قائمة الدول الإفريقية والعربية القليلة جدا، التي بإمكانها تنظيم الانتخابات في أي وقت أرادت ومهما كان الظرف السياسي التي تمر به مؤسسات الدولة.
يجدر التذكير، بأن الرئاسيات كانت مقررة شهر نوفمبر المقبل، غير أن وفاة الرئيس السابق الباجي قايد السبسي في 25 جويلية الماضية، جعلت صناع القرار السياسي يقوم بتقديم موعد الرئاسيات إلى منتصف سبتمبر، وليس تأجيلها إلى وقت غير معلوم مثلما كان يحدث في عديد الدول.
بما أن وفاة رئيس البلاد أو مغادرته الحكم لسبب أو لآخر، قبل الآجال الدستورية لحكمه، يعتبر «أزمة سياسية خطيرة»، اختارت تونس آلية الانتخابات لتجاوز الأزمة واستعادة الاستقرار السياسي للبلاد، دون الوقوع في لغط التشكيك والجدل بشأن «النزاهة» و»الشفافية».
تحكم تونس في العملية الانتخابية، تجلى بشكل واضح أيضا، في قبول المترشحين للرئاسيات والقوائم الانتخابية للتشريعيات بالنتائج المعلنة، رغم ما حملته من مفاجآت.
ففي الدور الأول، للاستحقاقات الرئاسية، تغلب قيس سعيد، وهو المواطن البسيط المتخصص في القانون الدستوري على 26 مرشحا، من بينهم رئيسين للحكومة ووزير للدفاع ورئيس أسبق للدولة، وتقبل الجميع النتائج النهائية المعلنة من قبل السلطة العليا للانتخابات.
وعلى صعيد آخر، استطاعت تونس، أن تقدم تسويقا سياسيا لمسارها الانتخابي، بشكل لاقى ترحيبا إقليميا ودوليا، من خلال تنظيم المناظرات والتلفزيونية بالتنسيق بين سلطة الانتخابات وسلطة ضبط السمعي البصري.
بالرغم من ضعف محتوى المناظرات، إلا أن تنظيمها يعتبر إنجازا، في بلد يضع خطواته الاولى على طريق الديمقراطية التعديدية التي تحترم فيها صوت الناخب.

قيس سعيد .. الرئيس

انتخب التونسيون وبأغلبية فارقة، المرشح المستقل والأستاذ الجامعي قيس سعيد، الذي لا يملك انتماء حزبيا ولا خبرة في دواليب الحكم، ولا باعا في عالم المال والأعمال.
تأكيدا لنظافة المشهد الديموقراطي، تلقى سعيد تهنئة من منافسه المباشر في الجولة من الاستحقاقات، رجل الأعمال نبيل القروي، الذي تمنى «له النجاح» ووعده بأنه وحزبه قلب تونس «سيكونان له من الداعمين والمساندين».
جرت الحملة الانتخابية للدور الثاني والمناظرة الأخيرة بين المرشحين، في جو عال من «الأخلاق» السياسية، حيث لم يسجل تراشق أو تبادلا للاتهامات ولا توظيفا سيئا لملفات وقضايا.
لاحظ المتابعون للشأن التونسي، الفارق الكبير في الأداء والقدرة على الإقناع بين قيس سعيد ونبيل القروي، خلال المناظرة النهائية، ما جعل انتخاب الأول بنسبة 75 بالمائة تقريبا، أمرا متوقعا ومنطقيا.

السّر والظاهرة

برز قيس سعيد كظاهرة سياسية، مع إعلان نتائج الدور للانتخابات الرئاسية، حيث تفوق على مرشحين يعتبرون من رجالات الدولة الذين خبروا الحكم لسنوات طويلة.
المتابعون للشأن التونسي، أطلقوا قراءة «الانتخاب العقابي»، على ما حدث، بمعنى أن الناخبين عاقبوا السياسيين الذين خبروهم خلال السنوات التسعة الماضية، بسبب عدم وفائهم بوعدهم.
غير أن الواقع، يشير إلى انتخاب قيس سعيد رئيسا، ليس نكاية في السياسيين السابقين، وإنما لكفاءته ولقدرته على إقناع المواطنين بالالتفاف حول مشروعه، بوسائل بسيطة ومبتكرة في نفس الوقت.
لقد عكست شخصية سعيد، نفسية غالبية التونسيين التواقين إلى قدر أدنى من الرفاه الاجتماعي، وكسر الفوارق وتحقيق العدالة الاجتماعية، حيث يظهر من خلال سلوكهم الانتخابي، أنهم اختاروا واحدا يستوفي شروط واقعهم المعيشي وتطلعاتهم، بدلا من التعامل بالوعود على السياسيين التقليديين.
بالنسبة لهم، يعتبر رئيسهم الجديد، «إنسانا فقيرا، لا يملك في حسابه غير مدخرات التقاعد من مهنة»،  ويتسم بأخلاق «الإخلاص والنزهة والاستقامة في أداء مهامه في مدرجات الجامعة».
ما زاد من حظوة سعيد لدى التونسيين، هو «زهده» في البريستيج، وعزوفه عن التكاليف الباهظة للتسويق السياسي الحديث، ورفضه الحصول على إعانات الدولة للمترشحين، ما جعله ينجح في إيصال رسالة إلى عقول الناخبين، مفادها «أنه راغب في خدمة البلاد، لا أكثر ولا أقل».
وراهن سعيد، في حملته على عنصر الشباب وبساطة الوسائل، والسير راجلا في المدن التونسية العميقة، أين التقى بالناس وحمل همومهم ونقل لهم تصوراته في حل المشاكل المعقدة.

رجل دولة

يقدم قيس سعيد المنتخب حديثا رئيسا للجمهورية التونسية، على أنه «مستقل» لم يختبر دواليب الحكم في المؤسسات التنفيذية أو التشريعية للدولة.  وبرر في خرجاته الإعلامية المتتالية، قدرته على قيادة البلاد دون خبرة مسبقة، بالتأكيد على أنه «صاحب مشروع احتضنه الشعب، والمشروع أقوى من الخبرة». لكن التمعن في تفاصيل خطاباته ومشروعه للحكم، يتضح أن للرجل قدر عال من ثقافة الدولة.
من الجلي أن تخصصه في القانون الدستوري، الذي مكنه من تشكيل فكر واسع في بناء أنظمة الحكم الحديثة وتكيفها مع الواقع المعيشي للشعب وتطلعاته، يجعل منه «رجل دولة» حتى وإن لم يختبر الحكم يوما.
فالرجل، شديد الحرص على تطبيق القانون بالعدل على الجميع دون استثناء ورفع شعار»الانتقال من دولة القانون إلى مجتمع القانون»، كما شدد في عديد المناسبات على مبدأ «استمرارية الدولة بقوانينها وبكل تشريعاتها وبتعهداتها الدولية».
برهن سعيد، أنه يدرك جيدا ماذا تعني الدولة ومؤسساتها، عندما قال:
« أن الشعب التونسي أعطى درسا للعالم كله، هي ثورة بمفهوم جديد في إطار الدستور مع التمسك بالشرعية الدستورية».
نجح في الظهور، كسياسي متزن، مبتعد عن «الشعبوية»، متشبع بثقافة الدستور والقوانين، غير صدامي مع الفعليات السياسية التقليدية  والشركاء الأجانب.

تحدّيات الراهن والآتي

وصل قيس سعيد إلى حكم تونس، وفي جعبته تصورا جديدا للحكم، غير مبني على الوعود الانتخابية، وإنما على إشراك المواطن في تنفيذ خياراته لإدارة شؤونه التنموية. لكن لا مركزية القرار والتفاعلية مع المواطن، التي يطرحها سعيد، تصطدم بصلاحيات دستورية له كرئيس للجمهورية، مقارنة بصلاحيات البرلمان والحكومة.
كتب الرجل في أكثر من منشور على صفحته الرسمية بموقع تويتر، أن صلاحيات الرئيس التونسي ضئيلة، لكنها تبقى مقبولة، خاصة فيما يخصّ «التوقيع على القوانين والمبادرة على تعديل الدستور».
لكونه مستقبلا، فهو لا يملك غطاء حزبيا يدافع به عن تصوراته للحكم على مستوى البرلمان، وبالتالي سيكون مجبرا على عقد تحالفات ولو غير معلنة مع الأحزاب المسيطرة.
أفرزت التشريعات الأخيرة في تونس، تركيبة برلمانية فسيفسائية، حيث لا يملك حزب معين الأغلبية ما يعني أن حركة النهضة المتصدرة بـ 52 مقعدا ستعقد تحالفات من أجل تشكيل الحكومة.
قال قيس سعيد في مناسبات عديدة، أن أي صدام محتمل بينه وبين الحكومة، سيكون «الشعب» سندا له فيه، وعلى الحكومة أو الأحزاب المسيطرة على البرلمان تحمل مسؤولياتها السياسية.
لكن قواعد اللعبة السياسية القائمة، تعطى الدور الطلائعي في الاستجابة لانشغالات المواطنين للأحزاب التقليدية التي تملص منها سعيد،  وسيكون صعبا جدا عليه أن يحدث اختراقا في النظام السياسي القائم.
 
صعوبات

بعيدا عن جمالية المشهد السياسي لغاية الآن، تنتظر الرئيس الجديد لتونس تحديات صعبة للغاية، خاصة ما تعلق بالاستجابة العاجلة للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تغرق فيها البلاد.
ومعروف أن تونس، تعاني من ثقل مديونية خارجية ثقيلة، ونسبة بطالة عالية، وتأخرا في التنمية المحلية، ناهيك عن التحديات المتعلقة بمكافحة الإرهاب وصون الأمن القومي.
وقد تضعه الآمال المعلقة عليه من قبل المواطنين، تحت ضغط كبير، خاصة من حيث سرعة تحقيق مؤشرات إيجابية للاقتصاد والواقع التنموي.
فيما ستكون السياسة الخارجية أحد أكبر الورشات التي سيتعامل معها، من خلال مبدأ «الحياد الإيجابي»، مع السعي لبعث الإشعاع الثقافي والاقتصادي لبلاده في محيطها المغاربي والقاري.