طباعة هذه الصفحة

أستـاذ التاريـخ بجامعة وهران1 د. بلحاج لـ «الشعـــب»:

السياسة الاستعمارية القمعية فرضت الهجرة على الجزائريين

حوار وهران: براهمية مسعودة

 الجاليـة موّلــت الثــــورة منـذ انطـــلاقتها

أكّد الدكتور بلحاج محمد، أستاذ التاريخ بكلية العلوم الإنسانية والعلوم الإسلامية بجامعة وهران 1 «أحمد بن بلة»، أنّ ذكرى 17 أكتوبر 1961 والتي أصبحت تؤرخ لليوم الوطني للهجرة « قمة التضحية في سبيل الوطن وعزته وكرامته والذود عن وحدته الترابية»، معتبرا أن هذا الحدث الهام، ترجمة لتراكمات سنين من وفود وموجات الهجرة منذ فترة الاحتلال سنة 1830.

التهجير القسري في الثقافة الشعبية الجزائرية

تطرق الدكتور بلحاج في تصريح صحفي إلى السياسة الفرنسية القمعية والعقابية التي فرضت على الجزائريين التهجير القسري، كوسيلة للترهيب والتثبيط من كلّ حركة تغييرية، من خلال إبعاد الجزائريين إلى مناطق نائية، وهو ما تجسده الثقافة الشعبية من حيث توظيف بعض المصطلحات المتداولة، على غرار «الثلث الخالي» ويقصد بها كاليدونيا الجديدة، وكلمة «الغار» الدالة على جزيرة مدغشقر، و»الكيان» التي يقصد بها غويانا الفرنسية.
كما أشار إلى نوع آخر من أنواع الهجرة التي مارسها الجزائريون إبان الاحتلال، اصطلح عليها بالهجرة الطواعية والاختيارية، على غرار الهجرة الجماعية لسكان تلمسان في 1911، استجابة لفتوة أحد مشاييخ الطريقة الدرقاوية المدعو «محمد بن يلس والذي أفتى بضرورة هجرة الجزائريين حتى لا يمس قانون التجنيد الإجباري أبناءها، وذلك عقب إعلان التحضير لقانون التجنيد الإجباري الذي صدر في 1921، وبالتالي المشاركة في حروب لا تعنيهم.
أبرز الباحث وأستاذ التاريخ، بأن الهجرة في ذاك الزمن تحولت إلى ظاهرة فرضت نفسها بأعداد هائلة، وكانت الوجهة نحو العالم الإسلامي، ولاسيما المغرب، وتونس وخاصة بلاد الشام التي كانت بمثابة السند القوي للشعب الجزائري وعاملهم على أساس المهاجرين والأنصار في كنف التعاون والارتباط القوي الراسخ إلى يومنا هذا، قبل أن ينوّه إلى التجنيد الإجباري وعلاقته بالتهجير المفروض، قائلا: «وجد الجزائريون أنفسهم بجبهات القتال وفرضوا أنفسهم في معارك كبيرة راح ضحيتها مئات الجزائريين، لكن فرنسا الاستعمارية ناكرة للجميل، وحتى يومنا هذا لم تعترف بتضحيات الجزائريين والأفارقة في تحريرها من الألمان».
أوضح أنه في نهاية الحرب العالمية الأولى، ازدادت عمليات الهجرة بقوة بسبب الطلب المتزايد على اليد العاملة بعد خراب فرنسا جراء هذه الحرب المدمرة التي أودت بحياة أكثر من 10 ملايين شخص، ومارس حينها الجزائريون مختلف الأعمال الشاقة، كالبناء والترميم ورفع القمامة، وهنا تتحول الهجرة من وسيلة للبحث عن الرزق إلى أداة للمقاومة. وأوضح بأن الهجرة في تلك الفترة، مست خاصة المناطق التي تتميز بصعوبة تضاريسها كبلاد الشاوية والقبائل بالشرق الجزائري ومناطق الونشرين والغزوات وغليزان وتيارت بالجهة الغربية وغيرها من المواقع التي عانت من ضيق مصادر الرزق، قبل أن تتوسع الهجرة إلى مناطق أخرى بالجزائر نحو بلدان أوربية أخرى من أجل لقمة العيش، وخاصة في الثلاثينات وفترة الأربعينات، على غرار بلجيكا.

أوّل حزب طالب باستقلال الجزائر أسسّه هؤلاء المهاجرون

وهنا نوّه إلى أول حزب طالب باستقلال الجزائر «نجم شمال إفريقيا»، الذي أسسه هؤلاء المهاجرين، وعلى رأسهم الأب الوطني للجزائريين، مصالي الحاج، في أحضان الحزب الشيوعي، كنقابة تدافع عن حقوق العمال المغاربة، ولاسيما التونسيين والجزائريين والمغاربة، وذلك استجابة لظروف العمل القاسية والاستبداد الممارس ضدهم، قبل أن يتحول إلى حزب سياسي، يحسب له ألف حساب، لافتا في الوقت نفسه إلى المضايقات التي تعرض لها مناضلي هذا الحزب، ولاسيما بعد العلاقات القوية التي أقامها مع قيادات تحررية عالمية، مثل هوشي منه في سنة 1927، وغيره من الشخصيات التي ظهرت في الحرب العالمية الثانية.
أبرز بأن الحرب العالمية الثانية، زادت من وتيرة الهجرة، لأن الخراب كان أكبر وكانت الحاجة المتزايدة لليد العاملة الجزائرية، ولاسيما في فرنسا، والتي اعتبرها محدثنا أنها كانت بمثابة معاقل للمقاومة، في إشارة منه إلى تعاظم نشاط الحزب الاستقلالي والجمعيات، ومنها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي كانت ترسل بعثات إلى فرنسا لتعميق بعد الانتماء العربي الإسلامي لهذه الجالية.
 عاد ليؤكد بأن الظروف كانت قاسية على أبناء الجالية بفرنسا، عكس تصورات البعض، فأغلبهم سكنوا البيوت القصديرية والأكواخ وجعلهم المستعمر يلهثون وراء لقمة العيش التي يحصلون عليها بشق الأنفس، كما سمحت هذه الهجرة لبعض الجزائريين فترة العشرينات والثلاثينات بجمع المال واسترجاع بعض أملاكهم والأراضي التي سلبها المعمرون وأذناب الاستعمار، وهو ما يبيّن، بحسبه دائما، ارتباطهم الدائم والوثيق بالوطن.

محطات تاريخية وشخصيات هامة هُمِّش دورها

 تحدث في هذا الشأن عن محطتين هامتين في تاريخ الجزائر، أكّد أنهما لم ينالا حظهما من الإهتمام، في إشارة منه إلى ذكرى 14 جويلية 1951، وهو عيد وطني فرنسي، يبيّن أن النضال الوطني موجود في ثنايا هذه الاحتفالية، التي خرج فيها الجزائريون حاملين الأعلام الوطنية وصور مصالي الحاج والشعارات الوطنية المطالبة باستقلال الجزائر في شوارع مدينة فرنسا، وأيضا أحداث 14 جويلية 1953، الجريمة المنسية بشهادة مؤرخين فرنسيين، والتي أسفرت عن وفاة 6 جزائريين، استشهدوا في شوارع مدينة باريس على يد الشرطة الفرنسية، بعد رفعهم لنفس المطالب.
أضاف بأنّ هذا الاحتفال له ارتباط وثيق بالمهاجر، وبلغت تداعياته مدينة وهران، حيث حولت السلطات الفرنسية رفاة الشهداء الستة «06» إلى أرض الجزائر، أربعة منهم 4 منهم نقلوا رفاتهم لميناء الجزائر واثنين نقلوهم إلى ميناء وهران، واحد من منطقة جبالة اسمه ضراريس عبد القادر والآخر يدعى الضاوي العربي، وأقيمت صلاة الجماعة عليهما بمسجد الباشا بوهران، قبل تحويلهم إلى عائلاتهم...
كما أشار إلى الإضراب الذي قام به عمال الموانئ في وهران والعاصمة، تضامنا مع هؤلاء الشهداء وعائلاتهم، تلاها إضراب عن العمل وعقد جمعية عامة طالبوا خلالها بتنحية المسؤول الأول على نقابة عمال الموانئ الفرنسي «شان شاز»، كونه لم يقف بجانبهم في هذا الموقف، ليحلّ مكانه جزائري اسمه «بلبشير بوعلام محمد»، فأصبح قائد عمال الموانئ بوهران، يضيف نفس المصدر: «وهذا دليل آخر على الترابط بين هؤلاء الجزائريين والمهاجرين».
كما نوّه المصدر بدور الجالية الجزائرية البالغ في تمويل الثورة منذ انطلاقها في الفاتح نوفمبر، وكلنا يعلم ويضيف قائلا: «أنّ أول شحنات التسليح كانت مموّلة بأموال المهاجرين واشتراكاتهم وتبرعاتهم، ليتعاظم دورهم في الثورة بعد التحاق أعداد كبيرة منهم بالجبال وانعقاد مؤتمر الصومام وقرار إنشاء فيدارلية أو ما سمي بالولاية السابعة، دون أن ننسى المحاولات التي سبقتها.
 نتحدث في هذا الصدد عن شخصية وهرانية فذّة، اسمها صحراوي براهيم محمد، الذي كان من بين الأوائل في تأطير هؤلاء المهاجرين، رفقة محمد بوضياف وأحمد محساس، ليكون عملهم في بوثقة العمل الثوري، وهنا بدأ شعور الفرنسيين بنوع من الخطر، لأن الثورة سوف تنتقل إلى ديارهم، وحقا بدأت أعمال فدائية في فرنسا، استهداف الخونة ورموز الاستعمال وكذا الاقتصاد الاستعماري، وحتى العائلات الفرنسية التي أصبحت ترفض أن يشارك أبناءها في الخدمة العسكرية خوفا عليهم...»
 ربط هذا اليوم بشخصية «موريس بابان»، باعتباره السبب المباشر والوجه المخرج بامتياز لهذا اليوم، يقول محدثنا: «وإذا عرف السبب بطل العجب، ففي الوقت الذي سالت دماء الجزائريين ضد عدو فرنسا الألمان، هذه الشخصية المعقدة المريضة نفسيا، كان في الحرب العالمية الثانية من رجال حكومة «مرشال بيتان» الموالية للألمان، وقبل أن يتحول إلى المسؤول الأول على الشرطة الفرنسية في باريس، كان يحتل منصب والي ولاة الجزائر بقسنطينة، وجاء بأساليب جديدة مربوطة بنموذج «جاك سوستان» الذي جاء بما يعرف بالمكاتب الإدارية (SAS) المختصة في اختراق الثورة والتضييق عليها في الأرياف.
 وأوضح أن موريس جاء بخطة عسكرية وسياسية مماثلة طبقها في المدن للاقتراب أكثر من الجزائريين وتقصي المعلومات، على غرار قسنطينة، وكان الجنيرال «ديغول» حينها قد أعطاه وسام الشرف، نظير ما قام به ضد الثورة الجزائرية، قبل أن يحول إلى فرنسا في حدود 1960 لتطبيق تجربته على الجزائريين في مدينة باريس، حيث اهتم أكثر بجانب الاستخبارات والمعلومات، من خلال وضع فرق خاصة بالمطار ومحطات القطار الرئيسية بباريس، وصار يتكفل شخصيا بتسهيل مهمة المهاجرين الجزائريين.

إجحاف مستمر في حق الجزائريين

كما تطرق الأستاذ الباحث إلى المضايقات الكبيرة التي تعرضت لها الجالية، ومنها القرار التعسفي بمنع الجزائريين من التجوال ابتداءً من الساعة السابعة، وهو ما اعتبره الرأي العام وحتى الأصوات الشريفية في فرنسا تمييز عنصري، دفع الجزائريين إلى التظاهر سلميا ضد الإجراءات التعسفية، لكن رد فعل إدارة «موريس بابان» كانت قوية جدا، طغى عليها القتل العشوائي بالرصاص الحي، وهنا تحدث على شخصية منسية من مدينة سيدي بلعباس، كان له دورا في هندسة هذه المظاهرات، اسمه مصطفى الزواوي.
أشار في هذا الصدد إلى دور «جون لوك اينودي»، المناضل المستميت من أجل كشف الحقيقة حول مجازر 17 أكتوبر 1961 في باريس، والذي كشف بالدليل القاطع عيوب الإدارة الفرنسية وخاصة «موريس بابان»، وذلك في عهد وزيرة الثقافة الفرنسية، المحسوبة على الحزب الإشتراكي «كاترين تروتمان» في سنة 1977، وكانت حينها مسؤولة على بعض مراكز الأرشيف، فسمحت لهذا المؤرخ الفرنسي بالاطلاع على أرشيف هذه الأحداث، خاصة الشرطة الفرنسية، لكنها تعرضت لانتقادات لاذعة من بعض الأوساط الفرنسية.
أوضح بلحاج محمد، بأنّ الأرشيف المتحصل عليه، يؤكد تبني الشرطة الاستعمارية سياسة القتل المباشر ورمي الأجساد الموتى والأحياء من الجرحى بنهر السين لتصفيتهم، وذلك بمحاذاة مؤسسات سيادية، كمقر الأمن ووزارة العدل الفرنسية، وقد تحدث الفرنسيين عن وفاة حوالي عشرين جزائري، لكن البعض تكلموا على 200 وفاة، كما أن الباحثين في المجال لم يتوصلوا إلى شريف الفرقة الإقليمية «فلوريان» الناشطة بنهر سان والمكلفة حينها بالتحقيق، وهو في حد ذاته جريمة، ختم محدثنا برسالة وجهها إلى الأجيال الجديدة: قائلا: «هذا الحدث التاريخي، محطة هامة ورسالة للعالم، تبث قوة العلاقة الوثيقة بين الهجرة وبين حب الوطن والتضحية في سبيله، فتمسكوا بتاريخ بلادكم الصحيح.»