طباعة هذه الصفحة

قامة إعــلامية وذاكرة سياسية تغادرنا

شاهـد عصـر على بنــاء وطن... وتحولات خارجية

جمال أوكيلي

عزالدين بوكردوس، قامة إعلامية، ذاكرة سياسية، موسوعة في الثقافة العامة، لا تمل أبدا الجلوس معه ولا تسأم من رواياته، عفوا من مغامراته التي بدأها في الإذاعة الوطنية، ثم التلفزيون، رئاسة الحكومة، وجريدة الشعب. لكل هذه المحطات التاريخية التي أشتغل فيها تحكي قصة رجل شاهد عصر على الحرب الأهلية في لبنان، وتنقلاته بين خطوط التماس، لمقابلة آل جميّل وأمراء الحرب، ووصوله إلى غاية دائرة الخميني بعد انتصار الثورة الإيرانية، سجل زاخر بالأحداث الكبرى التي صنعها إنسان ينبذ كثرة الظهور.
ولا تخلو الأحاديث مع عزالدين من تناول مسيرته المهنية، ومهما كان موضوع النقاش، إلا ويعود به اللاشعور إلى الزمن الجميل، بالتفاصيل الدقيقة إلى درجة الدهشة والإستغراب في استحضاره للأسماء والتواريخ بكل حيثياتها، مقرونة بعنصر التشويق، والطابع الهزلي المرح الذي يضفي على اللقاء تلك الحيوية في التواصل، والرغبة الجامحة في الإستماع للآخر.
هكذا، كان المرحوم، يومياته عبارة عن صلة وثيقة بالناس، وهذا هو طبعه الإجتماعي، لا يتوانى في نسج علاقات إنسانية بدون بروتوكولات عندما يلاحظ محاسنَ عند الشخص الذي أمامه، ولا تنتهي قصصه أبدا، ولا يحجم عن الكلام خلال فتح هذا الجانب، إلى درجة أنك تستفيد منه الكثير بحكم تجربته الحياتية، والخبرة التي اكتسبها في تنقلاته القياسية إلى الخارج، وإطلاعه الواسع على رموز التحرر الوطني في آسيا، افريقيا، أمريكا اللاتينية والوطن العربي، ومعرفته الشخصية لقيادات مؤثرة وصانعة للعلاقات الدولية. في كل مرة تتوارد على ذهنه تلك الصور لذكريات خالدة، بالصوت والصورة، التي سجلها معهم أثناء تأدية مهامه، كانت عبارة عن سبق صحفي نادر في الاستجوابات.
عز الدين، عمل مع أساطين الإعلام في الجزائر، منذ أن إلتحق بالإذاعة في أول الأمر، عقب استرجاع السيادة الوطنية. ويتذكر جيدا كل من سار معه على هذا الدرب، من مديرين ورجال إعلام، يعرف كل الفنانين والمطربين والممثلين معرفة جيدة وأخوية، وبمجرد أن انتقل إلى التلفزيون كان ينشط في المجلة الثقافية، ثم الحصص الخاصة والتحقيقات الكبرى.
ويظهر من خلال ما أوردناه من معلومات قليلة خلال مجيئه إلى جريدة «الشعب»، وبقائه فيها مدة ١٨ سنة، أثناء إلتقائنا به يوميا في الإجتماع اليومي لهيئة التحرير «بريفينغ»، أن الفقيد عبارة عن «دائرة معارف» و«خزان لا ينضب» من المعلومات، كان ينوي أن يدوّنها في مذكراته، لكن الظروف لم تسمح له بذلك، وهذا ما كان يأمله دائما، ويصرح به لمقربيه على أن يرى سيرته الذاتية فوق رفوف واجهات المكتبات، وهكذا تشاء الأقدار أن يغادرنا دون أن يحقق هذا الأمل.
وأمام كل هذا الزخم من الأحداث المتسارعة خلال أواخر التسعينيات لم يتردد في مرافقتنا في مهمات عمل إلى الجزائر العميقة من الحواجز المزيفة، وهذا ما وقع ونحن في طريقنا إلى تيارت على مستوى الشلف وتيسمسيلت بعد عودتنا. كما تنقل معنا إلى باتنة وقبوله المأوى في بيت للشباب، لم تكن تهمه البهرجة أو يتقدم لطلب شيء معين، بل شغله الشاغل أن يكون بسيطا إلى جانب الزملاء الآخرين.
هكذا أفنى عزالدين حياته في خدمة الإعلام، مقدما أروع الأمثلة في التفاني والإخلاص.