طباعة هذه الصفحة

المقال الأسبوعي

 إسمنت الوحدة و الهويــــة..

بقلم: محمد بوعزارة

 كم تُزعجنا بعض الكتابات التي تكاد تشبه الكتابات الحائطية السخيفة التي كنا نشاهدها تُكتب سرا أحيانا على الجدران في الزمن الذي سبق عصر التواصل الاجتماعي، خاصة تلك الكتابات الخارجة عن المألوف و التي لا هدف و لا معنى لها .
صحيح  أن تلك الكتابات الحائطية لم تكن كلها سيئة، فقد كانت شكلا من أشكال التعبير الثوري، استُخدمت بشكل وطني وثوري أثناء ثورة أول نوفمبر للتعبير عن مساندة الشعب الجزائري لثورته باستعادة الحرية المسلوبة  والاستقلال المغتصب  وتأييد جيش وجبهة التحرير الوطني  ورفض سياسة القمع  والاحتلال، وشكلت مع المنشورات واحدة من الوسائل التي استخدمت لمجابهة الدعاية الاستعمارية بأشكالها المتعددة.

ثم إن الكتابات الحائطية عقب استعادة الاستقلال كانت تعبر عن رفض فردي تارة و رفض شعبي تارة أخرى لبعض القرارات و السياسات التي ينتهجها النظام عبر مختلف المراحل.
كان أصحاب تلك الكتابات الحائطية أحيانا من الناس البسطاء غير المعروفين لدى النظام بالرغم من أن النظام كان يستخدم عيونه لمعرفة من وراء تلك الكتابات، و كان بعض تلك الكتابات تعبيرا عن حالات التذمر الشعبي إزاء بعض القضايا الاجتماعية، و كان بعض رجالات المعارضة وراء تلك الكتابات التي يريدون من ورائها تغيير النظام برمته.
 كتبت تلك الشعارات أو الاحتجاجات خفية في الليل و خصوصا عندما تقل حركة الناس في الشوارع أثناء ساعات النهار ، فيقرأ الناس كتاباتهم بنوع من الفضول أحيانا،  و بنوع من اللامبالاة أحيانا أخرى ، و يقرأها البعض باستغراب أو استهجان ، ثم إن بعض تلك الكتابات كانت تشوه الحيطان خصوصا في الأحياء الراقية ،  و قد تكون محتوياتها غير أخلاقية ، و ربما تسيء للأفراد و للعائلات .
اليوم قلَّت الكتابات الاحتجاجية الجدارية  ، و تغيرت وسائل الرفض و الكتابة ، إذ هجر الناس الحيطان و الجدران بعد أن تحولتْ الوسائل الجديدة إلى منابرَ أكثرَ تأثيرًا و انتشارًا و اتساعا، و شكلت بذلك نقلةً نوعية تختلف عن مختلف الأشكالِ المعهودة من قبل.
تم استحداث الصوت و الصورة و الكتابة مع مختلف التأثيرات الموسيقية و كذا مختلف أشكال الحركات بما في ذلك دمج تلك التعليقات حتى بصور و أشكال قد يكون حتى للحيوانات الأليفة و غير الأليفة عنصر الإثارة فيها.
لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي  إعلام لمن لا إعلام له ، و تحولت إلى منبر أكثر تأثيرا وانتشارا و اتساعا ، و صارت أداة فعالة و نقلة نوعية عن مختلف الأشكال المعهودة من قبل ، بما فيها الكتابات الجدارية و اللافتات التي ما تزال تُرفع خاصة أثناء المظاهرات و المسيرات و الحركات الاحتجاجية الشعبية .
ربما يسألني بعض الناس لم الكتابة عن هذا الموضوع في هذا الوقت بالذات.
  جوابي أن بعض الأشخاص المتعاملين مع وسائل التواصل الاجتماعي باتوا يسيئون اليوم ببعض كتاباتهم و كذا بواسطة الفديوهات التي ينشرونها عبر هذه الوسائل إلى الوحدة الوطنية و إلى الهوية وإلى تاريخ هذا الشعب.
ما بتنا نقرأه و نسمعه ونشاهده بواسطة هذه الوسائل يشكل في اعتقادي جزءا من مجموعة عناصر لا تسيء لتاريخ هذه الأمة ، بل إنه بات بمثابة قنابل موقوتة لضرب استقرار الوطن و المس بوحدة و هوية الجزائر ، بل إنه صار جزء من العناصر العاملة على  ضرب هذه المقاومات التي كانت الاسمنت الذي حافظ على وحدة هذا الشعب و رسخ هويته بأبعادها الثلاثة منذ عدة قرون خلت .
لقد خاض أجدادنا متلاحمين متضامنين قبل ثورة أول نوفمبر 46 مقاومة شعبية شملت الوطن كله ضد الاستعمار الفرنسي ، كما قاوموا قبل ذلك عدة غزاة من بينهم الإسبان خصوصا عقب سقوط الأندلس في 1492 ، و كانت بعض المقاومات لا تبقى محصورة في الرقعة الجغرافية الواحدة التي انطلقت منها ، بل تمتد لتشمل مختلف جهات الوطن،  شرقها و غربها،  شمالها و جنوبها ، و لا يقودها فقط بطل واحد أو عدد من الأبطال الذين ينتمون لتلك المنطقة، بل كانت تلك المقاومات تحمل سمات المشاركة الجماعية و الصبغة الوطنية الحاملة لكل جهات الوطن .
. و في اعتقادي أننا فشلنا منذ سنوات كمؤسسات و كوطنيين و مثقفين و سياسيين لإيصال الرسالة الجامعة للجزائريين و للحفاظ على ما كان عليه الآباء و الأجداد ،و هذا دون أن نغض الطرف عما تعرضت له الوحدة الوطنية من خلل في نهاية أربعينيات القرن الماضي عندما حاولت فرنسا تسييس الخلاف الذي وقع في صفوف مناضلي حزب الشعب الجزائري بخصوص هوية الشعب الجزائري ، وهو الخلاف الذي أدى ما اصطلح عليه بالأزمة البربرية التي حاولت الدعاية الاستعمارية تغذيتها في إطار سياسة فرق تسد لضرب مكونات الشعب الجزائري  .
كما أن مشكلة بعض المؤرخين عندنا أنهم كانوا ينطلقون في كتابة التاريخ من منطلقات ضيقة جهوية أو عاطفية تجعل دراستهم للتاريخ تُكْتب بربع عين بعيدا عن الموضوعية التي يتطلبها علم التاريخ كما وصفت ذلك في أحد مقالاتي ، و هذا دون أن ننسى أن البعض حاول أن يستخدم العَبثية في محاولة استقراء التاريخ .
و العبثية قد تصدق في فنون الإبداع من أدب و مسرح و شعر ، و لكن استخدام العبثية في كتابة التاريخ و في موضوع الهوية و اللغة خصوصا كما وصفتها في بعض كتاباتي و من بينها كتابي : « فن العبث بالتاريخ « الصادر عام 2016 و كتابي « كي لا تكون قنبلة موقوتة الصادر في 2018 تصبح « قنبلة موقوتة يجب إبطال مفعولها و اتقاء شر من باتوا يتفننون في تغذيتها و كل العابثين بوحدة الأمة وتاريخها و مستقبلها « .
إنه لا يمكن إلا لجاحد أن ينكر الجهود التي قام بها خصوصا كل من الدكتور أبو القاسم سعد الله و ناصر الدين سعيدوني و عدد من زملائهم  من أمثال جمال قنان و بلحميسي و محفوظ قدَّاش و العربي الزبيري و تلاميذهم  من أمثال بشير مديني رحمه الله و محمد الأمين بلغيث و جمال يحياوي و رابح لونيسي وغيرهم من المؤرخين لإبراز مدرسة وطنية جزائرية للتاريخ ، ناهيك عن الجهود التي قام بها قبل ذلك الرعيل الأول من أمثال مبارك الميلي و عبد الرحمن الجيلالي و توفيق المدني و محمد دبوز، لكن تلك الجهود يقابلها تيار الهادم للهوية الوطنية و خصوصا هؤلاء العبثيون بالتاريخ من داخل الوطن و من وراء الضفة الأخرى و الذي يسيئهم أن يروا الجزائر قوية بوحدة أبنائها و بصلابة هوية شعبها .
أذكر أنني كنت أنشط ندوة تاريخية في المتحف الوطني للمجاهد يوم 4 ديسمبر حول المقاومة التي قادها البطل الناصر بن شهرة انطلاقا من الأغواط ، و كان إلى جانبي اثنان من المؤرخين المشهود لهم بالكفاءة و النزاهة العلمية و هما المرحوم بشير مديني رحمه الله و محمد الأمين بلغيث.
و قد فوجئت عقب المقدمة التي ألقيتها في تلك الندوة و محاضرتي الأستاذين  بشاب يسأل : هل هناك مقاومة في الجنوب ؟
و قد  وجدتني حينها استأذن الأستاذين الجامعيين في الإجابة عن ذلك السؤال الذي بدا لي مستفزا وغريبا ، و لكنني وجدت العذر لصاحبه ، لأن مَنْ لا يقرأ تاريخ بلاده يمكن له أن يقع في أخطاء جسيمة ، ويمكن له أن يسيء للوحدة الوطنية و يمكن له كذلك أن يلحق الضرر بالهوية .
لقد قلت لذلك الشاب:  
أن الجزائر عرفت 46 مقاومة كبرى سبقت ثورة أول نوفمبر 1954 تتوزع كالتالي :
ــ 15 مقاومة في الجنوب الجزائري .
ــ 12 مقاومة في الوسط
11ــ مقاومة في الشرق .
ــ 8 مقاومات في الغرب .
و لكن أول مقاومة انطلقت من الغرب الجزائري و  أعادت تأسيس الدولة الوطنية الجزائرية كانت بقيادة الأمير عبد القادر ، و امتدت تلك المقاومة التي دامت سبعة عشر عاما إلى مختلف ربوع الوطن ، و كان يساعد الأمير عبد القادر عددٌ من المقاومين جاؤوا من مختلف جهات الوطن .
فقد كان من بين الرجالات الذين هبُّوا من مختلف ربوع الوطن للمقاومة مع الأمير فرحات بن سعيَّد من الزيبان ، و من القبائل أحمد الطيب بن سالم ، و من العاصمة ثلاثة قادة كبار من بينهم سيدي السعدي وأحمد بوضربة ، و من سطيف محمد الخروبي ، و من القليعة بسهل متيجة خليفة الأمير الزعيم محمد بن علال ، و من الأغواط قدور بن عبد الباقي  .
و على ذكر الأغواط ، أود أن أذكر أن أطول مقاومة عرفتها الجزائر هي تلك التي قادها البطل الناصر بن شهرة ، فقد دامت مقاومة هذا البطل الذي كانت فرنسا تصفه تارة بملاح الصحراء ، و أحيانا وبالملثم أكثر من ربع قرن، و امتدت إلى العديد من جهات الوطن ، إذ كان كلما سَمع باندلاع مقاومة في أية جهة من الوطن إلا و هب هو شخصيا أو أرسل جزء من جيشه للمشاركة فيها دليلا على المنظور الوطني الذي كان يتميز به هذا البطل و نظرته لمفهوم الوحدة و التضامن بين أبناء الشعب الواحد ، أو لم يكن هو من قام بتهريب رفاق الحاج المقراني نحو الجنوب التونسي .
كما أن قيادة الناصر بن شهرة لم تكن قيادة فردية،  بل إنها تبنت أول مفهوم للقيادة الجماعية بالنسبة للمقاومات الشعبية .
فقد كان يساعده كل من التلي بن الأكحل من الجلفة و محمد بن عبد الله من ورقلة و محي الدين بن الأمير عبد القادر.
وأكثر من هذا الناصر بن شهرة عندما وقع التضييق على مقاومته داخل الوطن نقل تلك المقاومة للجنوب التونسي لتكون بذلك مقاومة مغاربية مع المقاوم التونسي محمد الكبلوتي الذي نفي معه في جويلية 1875 على متن باخرة واحدة قادتهما نحو بيروت و منها إلى دمشق حيث يوجد ضريحه .  
و لن أتكلم هنا عن ثورة أول نوفمبر التي كان قادتها الـ 22 من جميع جهات الوطن ، و قد ودعنا الأسبوع الماضي فقط الراحل سي عبد القادر العمودي ابن الواد و ابن الجزائر رحمه الله الذي ترك رفيقه عثمان بلوزداد أطال الله عمره ليكون آخر الرجال من تلك الكوكبة الرائعة التي عرفت كيف توحد الشعب لخوض غمار ثورة مكنتنا من استعادة الاستقلال للوطن و الكرامة للشعب .
لقد كانت الهوية الجزائرية المتميزة واحدة من عناصر وحدة الجزائريين منذ القدم و بالأخص منذ الاحتلال لمقاومة المحتلين و العمل على تحرير الوطن.
 هوية الانتماء للوطن الواحد و التاريخ المشترك و الثقافة هي التي أججت مختلف تلك المقاومات لتكون الإسمنت الجامع لشعبنا رغم سياسة فرق تسد التي عمل الاستعمار على تكريسها منذ احتلاله للجزائر في 1830  و إلى غاية رحيله في 1962 .
الأكيد أن العديد من أبنائنا استعادوا هذه الأيام بعض ذكرى مجازر الثامن ماي 1945 التي ارتكبت في حق  الشعب الجزائري أثناء الفترة الاستعمارية،  و شملت العديد من مدن و قرى ومداشر الشمال القسنطيني و التي أشارت بعض المصادر إلى أنها تكون قد وصلت إلى حدود تسعين ألف و ليس 45 ألف كما تجمع على ذلك مختلف المصادر ، و هي تضاف إلى السجل الدموي للاستعمار الفرنسي في الجزائر  .
فإذا كانت الأرقام تحدثت عن 5 استشهاد ملايين من الجزائريين منذ الاحتلال إلى غاية استرجاع الاستقلال عام 1962 ، فإنني أعتقد أن هذا الرقم يتجاوز هذا العدد بكثير .
تصوروا أن عدد الجزائريين عند الاحتلال عام 1830 كان4.500.00  حسب المصادر الفرنسية نفسها ، قد انخفض إلى 2.210.000 عام 1871 .
أي أن ما يزيد عن المليونين مضافا لهم عدد الولادات قد أبيدوا أو ماتوا بسبب المجاعة و الأمراض خلال فترة الـ 42 عاما التي تلت الاحتلال ؟.
 كما أن الفرنسيين اعترفوا أن عدد سكان الجزائر لم يزد بعد مائة عام عن احتلالهم للجزائر،  أي عام 1931 سوى ب 88000 شخص ، إذ أصبح سكان الجزائر ذلك العام  5.588.000 ، و الأكيد أن هذا الرقم يوجد ضمنه عدد المعمرين الأوروبيين الذين توافدوا على الجزائر و استولوا على أجود و أخصب أراضي الجزائريين بعد أن طردوهم منها أو قتلهم أو أو أبادهم الجيش الفرنسي ، مع الإشارة أن عدد الأوروبيين قُدر نفس العام أي 1931 بـ 833359. ، و إذا ما أضفنا عدد جنود الاحتلال لهذا الرقم،  فمعنى ذلك أن عدد الجزائريين بقي في حدود أقل من 5 ملايين لمدة مائة عام ، و هو أمر فظيع يبين أن عدد الجزائريين لم يزد طيلة 100 عام من الاحتلال،  بل تناقص عما كان عليه أثناء بداية الاحتلال،  مما يؤكد أن من استشهدوا كان بالملايين .
ما أود التأكيد عليه في النهاية أن من يقرأ تاريخ هذا الشعب العظيم لا يمكن للعبثيين من أي طرف من أي طرف كان أن يتمكنوا من النيل من وحدته الضاربة في عمق التاريخ ، و لا أن يسيئوا لهويته بمكوناتها الثلاثة التي تبقى كالصخرة التي تتحطم أمامها أحلام من لم يقرؤوا تاريخ هذا الشعب سواء كانوا مندسين بيننا ، أو مأجورين مأمورين هناك في الضفة الأخرى .