طباعة هذه الصفحة

البعد الاجتماعي والسياسي في التجربة الإصلاحية لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين

^ بقلم: أ.د. مسعود فلوسي «جامعة باتنة»

جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، كانت جمعية إصلاحية؛ بمعنى أنها سعت إلى إصلاح حياة الجزائريين في كل جوانبها، فكما اهتمت بإصلاح العقيدة والأخلاق والسلوك، اهتمت كذلك بإصلاح التربية والتعليم، وعملت على إصلاح المجتمع، وسعت إلى إصلاح الحياة العامة للجزائريين، وهو ما جعلها تطرق كل المجالات التي يمكن أن تحقق من خلالها الإصلاح الشامل المأمول. وكان طبيعيا أن تتحرك في الإطار الاجتماعي؛ إصلاحا للخلل الذي أصابه، ومحاربة للآفات التي كانت منتشرة ومستفحلة فيه، وأن تخوض في السياسة وأن تكون لها مواقفها وآراؤها في بعض القضايا السياسية التي كانت قائمة في ذلك الحين.
  والحق أنه من الصعوبة بمكان الفصل بين كل من الجانب الاجتماعي والجانب السياسي في الحركة الإصلاحية للجمعية، فالعمل الاجتماعي هو عمل سياسي في حقيقته، والعمل السياسي مجاله الأول هو المجتمع، وهدفه هو ترقية المجتمع والنهوض به. لكن مع ذلك سنحاول أن نتحدث عن كل جانب على حدة.

واقع المجتمع الجزائري عند ظهور الجمعية
  كان المجتمع الجزائري ـ عندما تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ـ في وضع مُزْرٍ يميزه التخلف الشامل في كافة مرافق الحياة، حيث كان يعاني الكثير من الآفات الاجتماعية التي أسهم الاستدمار الفرنسي في استفحالها وانتشارها في حياة الجزائريين، وقد سعت جمعية العلماء ـ في إطار عملها الإصلاحي ـ إلى محاربة هذه الآفات والحد من انتشارها.
  وقد كان على رأس هذه الآفات؛ الفقر المدقع والعوز الشديد الذي ضرب الكثير من الأسر الجزائرية بسبب استيلاء السلطة الاستدمارية على الأراضي الزراعية الخصبة ومنحها إياها إلى المعمرين الذين استقدمتهم من فرنسا، وجعلت الجزائريين عبيدا في أراضيهم يخدمون هؤلاء المعمّرين، في مقابل فتات لا يكاد يسد الرمق كانوا يأخذونه كمقابل عن هذه السخرة.
  والآفة الثانية التي كانت تضرب بجذورها في أعماق المجتمع الجزائري وتشل قواه وتكبل حركته؛ تمثلت في الجهل وغياب الوعي لدى كثير من الجزائريين، بفعل سياسة التجهيل التي فرضها الاستدمار منذ الأيام الأولى من احتلاله للبلاد، وبفعل الدور المشبوه للطرق الصوفية المنحرفة التي دأبت على شل عقول الجزائريين بنشر الأفكار الضارة والمفاهيم المشوهة.
  والآفة الثالثة، تجسدت في الانحراف الأخلاقي والسلوكي الذي اندفع في طريقه كثير من الجزائريين، والشبان منهم خاصة، فقد عملت السلطات الاستدمارية ـ بطرق مختلفة ـ على الدفع بالجزائريين في مسالك الانحراف والغواية، من شرب للخمر وممارسة للرذيلة وانخراط في الميسر والقمار واحتراف للسرقة وقطع الطريق. وقد كان من أهم العوامل المساعدة على انتشار هذه الآفات الأخلاقية والسلوكية؛ تعطيل السلطة الاستدمارية للعمل الديني ومنعها العلماء من النشاط، وفتحها أبواب الفساد والسقوط الأخلاقي وتشجيعها لوسائله.
  والآفة الرابعة كانت هي التفرقة العنصرية والتفاخر بالأصول والأنساب التي شجعها الاستدمار وحرص على شيوعها بين الجزائريين؛ في تفكيرهم، وتعاملهم فيما بينهم، حتى يضمن استمرار النزاعات والخصومات فيما بينهم وعدم توحّدهم على مقاومته ومطالبته بحقوقهم.
  هذه الآفات الاجتماعية كان لها تأثير كبير في انفصام عرى العلاقات الاجتماعية بين الجزائريين وتفكك الروابط بينهم وعدم وجود إطار يجمعهم ويلمّ شملهم.

تعامل الجمعية مع هذا الواقع
وقد اجتهدت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في محاربة هذه الآفات ومحاصرتها وعَمَلِ كل ما من شأنه أن يحدّ من تأثيرها في واقع المجتمع الجزائري.
  فعلى صعيد محاربة الفقر؛ شجعت جمعية العلماء تأسيس الجمعيات الخيرية التي تتولى رعاية الفقراء والمساكين والأرامل واليتامى والعجزة. كما شجعت على العمل والسعي في طلب الرزق، وحثت على ممارسة التجارة والحرف المنتجة. وأحيت في نفوس الجزائريين روح التضامن والتكاتف والإيثار والتعاون ومساعدة المحتاجين.
وفيما يتعلق بمحاربة الجهل ومحاصرة تأثيراته، أسست جمعية العلماء المدارس وشجعت التعليم وعملت على توفيره لأبناء الجزائر في حدود ما كان لها من إمكانات، وشجعت أكثر تعليم الفتيات وتثقيفهن، باعتبار الأم أساس الأسرة التي إذا صلحت صلح المجتمع كله، وإذا فسدت فسد المجتمع كله. كما قاومت الجمعية البدع والخرافات وحررت العقل الجزائري من الأوهام التي كانت تكبّله وتسيطر عليه.
  ولمحاصرة الرذائل والمفاسد الأخلاقية واستقطاب الشباب وإبعادهم عن مسالكها؛ جندت الجمعية علماءها لإلقاء دروس الوعظ والإرشاد في المساجد والنوادي والمقاهي ومناسبات الأفراح والمآتم.
  ولمنع تأثير التفرقة العنصرية، عملت الجمعية على ربط الجزائريين بدينهم وتاريخهم المشترك، وسعت في إقرار الوحدة الوطنية وتفعيلها ومحاربة كل ما من شأنه أن يزعزعها ويفكك أوصالها. حيث سخرت لذلك صحافتها وجهود علمائها في محاضراتهم ودروسهم ومواعظهم. كما أسست النوادي الرياضية والجمعيات الكشفية والفرق الموسيقية، التي كانت تجمع الشباب من مختلف الطبقات ومن شتى جهات الوطن تحت راية واحدة وتوجه جهودهم وطاقاتهم لعمل واحد.

عناية خاصة بالجالية الجزائرية في فرنسا
  ولم تكتف جمعية العلماء بالعناية بالمجتمع الجزائري داخل الوطن فحسب، بل إنها مدت نشاطها إلى الجالية الجزائرية في فرنسا، يقول الشيخ عبد الرحمن شيبان، رحمه الله: «بذلت الجمعية ـ ضمن برنامجها الإصلاحي ـ جهودا جبارة من أجل أن تحافظ تلك الجالية على ذاتيتها وتتعلم دينها ولغتها، حتى لا تنسلخ عن أصالتها وتفقد هويتها الحضارية... فأوفدت الجمعية الدعاة إلى المناطق الصناعية حيث تقيم تلك الجاليات من ديار الغربة، ابتداء من سنة 1936، وفي مقدمتهم العالم العامل الداعية الشيخ الفضيل الورتلاني الذي وفق إلى جمع شتات العمال الجزائريين ونظمهم في جمعيات عبر المدن الفرنسية، وأنشأ عدة مدارس وأندية تحمل اسم (التهذيب) لتعليم العربية والإسلام، وبث الوعي السياسي وترسيخ الوطنية، فما هي إلا حقبة قصيرة حتى أصبحنا نرى أولئك المهاجرين الذين كانوا تائهين، يعودون إلى وطنهم في المدن والقرى بقلب تنير جوانحه عقيدة صحيحة، ولسان يتكلم العربية، ويد صانعة ماهرة، جيب عامر بالمال، وطموح وطني نحو التحرر والانعتاق. على أن عمل جمعية العلماء هذا في تلك البلاد الغربية لم يقتصر إشعاعه على الجالية الجزائرية هناك فحسب، ولكنه عمّ الجاليات العربية والإسلامية مشرقية ومغربية، ممن يتوارد أبناؤها على تلك الديار» اهـ.

علاقة الجمعية بالسياسة
ظل قادة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، منذ تأسيسها، وخلال مراحل نشاطها، يعلنون أنهم ليسوا سياسيين، وأنه لا علاقة لهم ولا لجمعيتهم بالسياسة، وأن مهمتهم تربوية تعليمية تثقيفية. وقد جاء في القانون الأساسي للجمعية أنَّه «لا يسوغ لها بأيّ حال من الأحوال أنْ تَخوض أو تتدخَّل في المسائل السياسيَّة، وأنَّ القَصد منها هو مُحاربة الآفات الاجتماعيَّة؛ كالخمر والميسر، والبَطالة والجهل، وكلِّ ما يُحرِّمه صريحُ الشرع، ويُنكِره العقل، وتَحجُره القوانين الجاري بها العملُ».
  ولذلك حرص قادة الجمعية على أن يبعدوا عنها تهمة احتراف السياسة، وأن يؤكدوا في كل مناسبة على أنها جمعية دينية ثقافية تربوية إصلاحية. وقد صرح الإمام ابن باديس «أن الجمعية يجب أن لا تكون إلا جمعية هداية وإرشاد، لترقية الشعب من وهدة الجهل والسقوط الأخلاقي، إلى أَوْج العلم ومكارم الأخلاق، في نطاق دينها الذهبي وبهداية نبيّها الأميّ، الذي بُعث ليتمم مكارم الأخلاق، عليه وآله الصلاة والسلام، ولا يجوز بحال أن يكون لها بالسياسة وكل ما يتصل بالسياسة أدنى اتصال، بعيدة عن التفريق وأسباب التفريق...».
والحقيقة أن قادة الجمعية، وهم يصرحون بذلك، كانوا يقصدون بالسياسة التي لا يمارسونها ولا ينخرطون فيها؛ السياسة بالمفهوم المادي النفعي التي تعني أن الغاية تبرر الوسيلة، السياسة التي هي ركض وراء المصالح الخاصة ومصدر للثراء والوجاهة على حساب المبادئ والقيم الدينية والوطنية.
هذا النوع من السياسة رفضت جمعية العلماء أن تنخرط فيه أو تمارسه، وحرصت فعلا على أن تكون بعيدة عنه.

المفهوم الخاص للسياسة عند قادة الجمعية
  لكن هناك سياسة من نوع آخر آمنت بها الجمعية وانخرطت فيها بعمق ومارستها إلى أبعد حد، هذه السياسة هي خدمة الأمة بصدق وإخلاص في جميع مناحي حياتها، وتدبير شؤونها الدينية والدنيوية: إحياء لمقوماتها، وتمسكا بقيمها، وذودا عن حقوقها، ونشرا للعلم والفضائل بين أبنائها، وحثا لهم على الإقبال على الحياة والأخذ بأسباب العزة والتقدم فيها.
  وهذا الذي ألمح إليه أو إلى بعضه الإمام ابن باديس في معرض حديثه عن مبدإ حركته في العمل السياسي، حيث يقول: «مبدؤنا في الإصلاح السياسي هو المحافظة التامة على جميع مقوماتنا ومميزاتنا كأمة لها مقوماتها ومميزاتها، والمطالبة بجميع حقوقها السياسية والاجتماعية لجميع طبقاتنا دون الرضا بأي تنقيص أو أي تمييز».
وهذا الذي قرره ابن باديس عن مفهومه للعمل السياسي يؤكده الإبراهيمي بأوضح بيان، فالسياسة عنده «إحياء المقومات التي ماتت أو ضعفت أو تراخت من دين أو لغة وجنس وأخلاق وتاريخ وتقاليد وتصحيح قواعدها في النفوس، ثم المطالبة بالحقوق الضائعة في منطق وإيمان، ثم الإصرار على المطالبة في قوة وشدة، ثم التصلب في الإصرار في استماتة وتضحية».
  فالعمل السياسي عند جمعية العلماء المسلمين الجزائريين هو جزء من العمل الإصلاحي يدور في فلكه ويتوخى مقاصده ولا يخرج عن دائرته، وليس عملا مستقلا بحد ذاته له أهدافه ومقاصده الخاصة.
  في إطار هذا المفهوم للسياسة عند قادة الجمعية، يمكننا أن نفهم منهج الجمعية الإصلاحي وكذلك مواقفها من مختلف القضايا السياسية التي شهدتها حياة الجزائريين تحت الاحتلال الفرنسي طيلة ربع القرن الذي نشطت خلاله الجمعية، أي ما بين 1931 و1956.
  فالعمل الإصلاحي الذي نهضت به الجمعية ووجهت له معظم جهودها، وهو التربية والتعليم والثقافة، كان عملا سياسيا في جوهره، حيث أحيت الروح الإسلامية والوطنية في نفوس الجزائريين، وعرّفتهم بهويتهم وتاريخهم وحقوقهم المسلوبة، وجعلتهم يتطلعون إلى استردادها واستعادتها ممن استولوا عليها. فكان عملها هذا سببا أساسا في فشل سياسة فرنسة الجزائريين وتجنيسهم نهائيا ودمجهم في فرنسا، وهي السياسة التي وجهت لها السلطات الاستدمارية كل جهودها وسخرت لتحقيقها على أرض الواقع كل الوسائل والإمكانات.
  ويجدر بالذكر هنا ما قامت به صحف الجمعية من دور كبير في بث الوعي السياسي وبلورة الفكرة الوطنية والتوجه نحو الاستقلال والحرية، فقد حملت جرائد الجمعية لواء الدفاع عن حقوق المواطن الجزائري المهضومة، والدفاع عن هوية الشعب الجزائري، كما عملت تلك الجرائد على إحياء الروح الوطنية وحب مقومات الشخصية الجزائرية في نفوس الجزائريين.
«يتبـــع