طباعة هذه الصفحة

إستشراف

الثـأر الإيـراني لمحسـن فخري زاده بـين الفعـل والانفعال

وليد عبد الحي

بين يناير 2020 وأواخر نوفمبر من نفس العام، تلقت إيران ضربتين موجعتين، في الأولى تم اغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس وأحد مهندسي النشاط الإقليمي العسكري لإيران، وفي الثانية تمت تصفية المشرف على البرنامج النووي الإيراني محسن فخري زاده، وما بين الضربتين عاشت إيران مع استمرار العقوبات والمماحكات الأمريكية والخليجية وبعض الحوادث الأمنية الداخلية، وهو ما يضع صانع القرار الإيراني في موقف يحتاج لقدر من السيطرة على الانفعال وتحويله إلى رد فعل يوازي الفعل المعاكس.
من جانب آخر، لابد من التذكير أن قائمة العلماء الإيرانيين الذين تمت تصفيتهم جسديا تستحق التذكير بها، للتأكيد أن هذا النمط من العمليات ليس نمطا عشوائيا، بل هو إستراتيجية استقرت لدى خصوم النظام السياسي الإيراني، مثل إسرائيل والولايات المتحدة ودول خليجية ومعهم تنظيمات إيرانية معارضة لها خبرة بمجتمعها وعلى رأسها منظمة مجاهدي خلق...
ففي الفترة من 2007 إلى 2020 تم اغتيال سبعة علماء إيرانيين، ثلاثة منهم قتلوا خلال عام 2010، واثنان قتلا عامي 2011 و2012، وواحد تضاربت الأنباء حول موته هل هو بحادث تسمم (الرواية الإيرانية) أو قتلته السلطات الإيرانية (الرواية الغربية والإسرائيلية)، وهذا يعني أن 5 من 7 تم اغتيالهم (أو محاولة اغتيالهم حيث لم يمت أحدهم بعد المحاولة وهو فريدون عباسي) خلال الفترة من 1010-2012 (أي بنسبة 71% من الاغتيالات)، لكن الفترة من 2012 إلى 2020 توقفت الاغتيالات على ما يبدو بسبب توجهات إدارة أوباما التي كانت تعمل على لجم المشروع النووي الإيراني وحصره في إطار مقبول دوليا، وهو ما تحقق عام 2015.
وعليه بدأت خلال عام 2012 سلسلة الاجتماعات بين إيران والقوى الدولية (5+1) في استانبول وبغداد وموسكو، مما يعني أن إسرائيل أدركت ان أية محاولة للاغتيال ستنظر لها القوى الدولية بطريقة سلبية وبخاصة ستراها الولايات المتحدة نوعا من «العرقلة لدبلوماسيتها الهادفة للاتفاق مع إيران في حينها»، لذلك رأت إسرائيل أن تنتهج سياسة جديدة بدلا من الاغتيالات وهي إستراتيجية «جمع الأدلة» عن البرنامج النووي الإيراني والتحريض عليه، وتوقفت عن سياسة الاغتيالات من 11 يناير 2012 (آخر اغتيال نفذته ضد العالم مصطفى احمد روشان) حتى عام 2020 أي لحوالي تسع سنوات متتالية.
 وبدأت دبلوماسية «جمع الأدلة» بدلا من الاغتيالات تظهر خلال الفترة من 2012-2020، فبعد انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي في مايو 2018، عرض نتنياهو وفي نفس الفترة وثائق قال إنه حصل عليها بخصوص البرنامج النووي الإيراني، مؤكدا أن إيران تواصل برنامجها النووي، وهو ما يعني العودة للمواجهة مع العلماء الإيرانيين من جديد، ويكفي الإشارة إلى أن نتنياهو قال في مؤتمر صحفي في ابريل 2018 ما نصه: «محسن فخري زادة هو المشرف على البرنامج النووي الإيراني.. تذكروا هذا الإسم».
رد الفعل الإيراني:
ما أن وقعت عملية اغتيال العالم الإيراني في نهاية شهر نوفمبر الماضي، بدأت إسرائيل في سلسلة من التحذيرات الأمنية شملت:
أ- العلماء الإسرائيليين الذين عملوا أو يعملون في مفاعل ديمونا أو أساتذة الجامعات من المتخصصين في الفيزياء النووية.
ب- المسافرين الإسرائيليين للخارج.
ت- البعثات الدبلوماسية الإسرائيلية.
ث- زوار المعابد الدينية اليهودية في الخارج.    
وطبقا لتقديرات الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، تم التأكيد على بعض الجوانب:
1- -أن احتمالات الرد الإيراني في الداخل الإسرائيلي هي الأكثر صعوبة.
2- أن الرد قد يكون في مناطق رخوة أو «خطرة» مثل جورجيا أو أذربيجان أو الإمارات والبحرين أو تركيا أو كردستان العراق أو القارة الإفريقية أو بعض دول أمريكا اللاتينية، كما حصل عام 2012 عندما اتهمت إسرائيل إيران بأنها تقف وراء انفجار سفارتها في الأرجنتين ومقتل 29 إلى جانب وقوع هجمات متباعدة في الهند وجورجيا وتايلاند...الخ.
3- أن أعياد الميلاد القادم قد تكون فرصة للرد.
ضوابط الرد وطبيعته: تشير المعطيات المتوفرة إلى ما يلي:
1- لما كان ترامب يعيش آخر أيام ولايته، فإن إيران لا تريد أن تعطيه فرصة الانتقام الأخير من ناحية، وان تخلق من ناحية ثانية جوا غير مناسب لولاية جو بايدن الديمقراطي، لاسيما مع تلميحات بايدن بموقف تراه إيران في موضوع البرنامج النووي «شبه إيجابي» ومشجعا أو أنه أفضل من مواقف ترامب بأي شكل من الأشكال.
2- تدرك إيران رغبة نتنياهو في استثمار الاغتيال لتعزيز موقفه الداخلي الضعيف في ظل مجموعة عوامل ضده: مثل تراجع شعبيته التي كان آخر مظاهرها الانشقاقات في حزبه واحتمالات الانتخابات القادمة، إلى جانب مواجهته لتداعيات التهم القضائية الموجهة له بالفساد، ثم كانت الكورونا وانعكاساتها السلبية ثالثة الأثافي له، وعليه فالرد الإيراني المتسرع قد يعطيه فرصة إطالة عمر ولايته.
3- الوضع الاقتصادي الهش في إيران نتيجة لسلسلة من العوامل، أبرزها العقوبات الأمريكية وبعض الأوروبية عليها، ثم تداعيات الكورونا على الاقتصاد، إلى جانب عبء النفقات الإقليمية لها لمساعدة حلفائها في المنطقة، ناهيك عن تذبذبات أسعار النفط الذي يشكل موردا هاما للخزينة الإيرانية.
الرد المتوقع:
رغم دعوات وردت على صفحات صحيفة كيهان الإيرانية (القريبة من المرشد الأعلى) بالرد على إسرائيل بقصف ميناء حيفا وتدمير منشآت وإيقاع أعداد كبيرة من القتلى، ورغم التهديدات التي توالت من القيادات الإيرانية العسكرية والمدنية على حد سواء، إلا أننا نرى أن الاحتمالات للرد هي على النحو التالي:
أ‌- الأرجح أن لا يحدث الرد قبل تولي بايدن لسلطاته وإعطائه فترة كافية لترتيب أموره وعرض سياسته بخصوص إيران، لكن جهات إيرانية بخاصة في الحرس الثوري، قد تكون أميل لمفاجأة إسرائيل بالرد بغض النظر عن الاعتبارات السابقة، وأن يكون الرد في مكان غير متوقع وبطريقة غير متوقعة وبألمٍ لا يقل عن الألم الإيراني، وهو احتمال يحتاج لتحضير طويل المدى يكون فيه بايدن قد تولى السلطة وبدأت المساومات ومحاولات العودة لدبلوماسية أوباما (القريب الصلة جدا من بايدن وأحد أهم مسانديه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، مما يترك له دورا في إبداء الرأي في الموضوع الإيراني).
ب‌- أن يحدث رد رمزي يبدو وكأنه وفاء بالتهديد (على طريقة الرد على اغتيال قاسم سليماني) لكنه لا يرقى إلى درجة منح ترامب ذريعة الرد الكبير.
لذا نعتقد أن إيران ستعض على جراحها- للأربعين يوما الباقية لترامب- لتمنح بايدن فرصة لعلها تستعيد بها عافيتها الاقتصادية والدبلوماسية، وقد تكون نتائج هذا الخيار من المنظور الاستراتيجي أجدى من رد فعل حتى لو كان بنفس مستوى الفعل الإسرائيلي... ربما.