طباعة هذه الصفحة

نجوم كثيرة أفلت في سماء الإبداع

سـنة أحـزان الـثّــقــافــة

أسامة إفراح

كان 2020 عام الحزن على الثقافة الجزائرية، التي فقدت أسماءً لامعة ونجوما متألّقة، من بين من صنعتهم الخبرة وصقلتهم السنون، أو من بين من كانوا في عزّ شبابهم فخطفتهم المنون. كان عاما حاول فيه محبّو الثقافة التشبّث بها، باللجوء إلى النشاطات الافتراضية، ولكن المرء يعجز عن التشبث بروح المبدع والفنان والمفكّر وهي تسمو إلى بارئها..أسماء كثيرة غادرتنا..نعيْناها وما زلنا..ولكن أسماء كثيرة أخرى ما تزال بيننا، وتنتظر العناية قبل النعي..
نودّ في البداية أن نشير إلى أن القائمة التي سنذكرها في هذه السانحة، قد لا تضمّ بالضرورة جميع من غادرنا هذه السنة من مثقفين، وإنما هي عيّنة لا أكثر.

صمت الموسيقى

قد لا يكون هنالك داعٍ لتقديم نجمين جزائريين خطفهما الموت هذه السنة، الفنان الكبير إيدير «حميد شريت» الذي غادرنا شهر ماي، والملاك الأبيض حمدي بناني الذي ترجّل ذات سبتمبر.. فنانان تردّد خبر رحيلهما في كبريات المواقع الإعلامية عبر العالم، ومن أجل ذلك، قلنا إنه قد لا يكون هنالك داعٍ لتقديمهما، دون انتقاص من غيرهما من الفنانين، ولكن دون انتقاص أيضا من نجوميتهما.
أما جويلية الماضي، غادرنا بولاية تيارت الفنان الشعبي عبد الرحمن ياموني متأثّرا بفيروس كورونا، عن عمر يناهز 57 عاما. ويعدُ الراحل أحد رموز الأغنية الشعبية في الجزائر، وكان يلقبُ بـ «بوعجاج الصغير»، وكان يرأسُ جمعية الفن الشعبي المعروفة بـ «نسيم الهضاب»، كما أشرف أيضا على تنظيم مهرجان الأغنية «ليالي تيارت».
وجاء شهر أوت، الذي شهد رحيل المؤلف والموزع الموسيقي سعيد بوشلوش، الذي توفي بالجزائر العاصمة عن سن ناهز 45 سنة بعد صراع طويل مع المرض.
تربّع المرحوم على عرش تأليف موسيقى شارات المسلسلات (الجنيريك) دون منازع سنوات التسعينيات، بالإضافة إلى مؤلفاته في المسرح.
كما لحّن الفقيد للعديد من الفنانين على غرار الشاب خالد، سيد احمد الحراشي، علاوة، كادير الجابوني ورشيد كسيلة. فيما كان شهر أكتوبر حزينا أيضا، بانطفاء شمعة الفنان الشعبي محمد زيغم البشاري.
أما نوفمبر، فلم يشأ أن ينقضي قبل أن يخطف منّا الفنان الخدوم، المايسترو حسين بويفْرو، الاسم البارز في عالم الموسيقى في الجزائر، وأحد مؤسّسي الأوركسترا الوطنية السيمفونية الجزائرية.
وكان حسين قد أشرف على تأطير طلبة المعهد الوطني العالي للموسيقى عبر ورشات تكوينية عديدة، وترك بصمته بتوزيعات موسيقية سيمفونية لم يكن يعرف سرّها إلا هو.

أضواء السّينما تنطفئ

في جويلية الفارط، ترجّل بالجزائر العاصمة الفنان الممثل عبد القادر بوجاجة، عن عمر يناهز 76 عاما، وذلك إثر مرض عضال. بدأ الراحل مساره التمثيلي ستينيات القرن الماضي في الإذاعة، لينتقل بعدها إلى التلفزيون ثم السينما، وقد عرف خصوصا بمشاركاته في الأعمال الدينية الرمضانية، كما عمل مدقّقا لغويا للعديد من المسلسلات.
فيما شهد أوت الماضي وفاة الممثل والمخرج المسرحي الجزائري الفرنسي جمال بارك، عن عمر ناهز 54 سنة، بعض صراع طويل مع المرض. أدى الفنان أدوارا في عدة أعمال على غرار فيلم «الوهراني» للمخرج الياس سالم، والمسلسلين «الخاوة 2» (2017) و»أولاد الحلال» (2019)، قبل أن يمثل آخر دور له في فيلم «La vie d’après 2020 للمخرج أنيس جعاد، وهو الآن في مرحلة ما بعد الإنتاج. ولعل من أشهر الأفلام التي شارك فيها «ميونخ» للمخرج ستيفن سبلبرغ، و»رجال أحرار» لإسماعيل فروخي و»العائدون» لروبن كامبيلو، إلى جانب «إخوة أعداء» و»بعيدا عن الرجال» لدفيد أولهوفن. فيما شهد ديسمبر الجاري رحيل الفنانة والممثلة أنيسة قاديري، وذلك بعد صراع طويل مع المرض الخبيث.

المسرح..أكبر المتضرّرين

كانت بداية السنة مؤلمة للفن الرابع الجزائري، حيث شهد جانفي وفاة الممثلة ومصمّمة ملابس العروض المسرحية لبنى بلقاسمي، في حادث مرور بوادي سوف، وعمرها لم يتجاوز 34 ربيعا.
وقد سجّلت الفقيدة اسمها بحروف من ذهب في المشهد المسرحي الباتني على وجه الخصوص، وكان آخر عمل تعاونت فيه الفقيدة مع مسرح باتنة، مسرحية «رهين» التي أخرجها شوقي بوزيد وشاركت في مهرجان المسرح العربي من 10 إلى 16 جانفي الجاري بعمان (الأردن)؛ حيث صمّمت ملابس المسرحية.
أما شهر مارس، فكان شهر وفاة السينوغرافي نور الدين زيدوني، الذي اعتبر أول فنان عربي يغادرنا بسبب فيروس كورونا، ما جعل العديد من وسائل الإعلام تتناقل خبر وفاته. وكان لزيدوني إسهامات مميزة في إنجاز تصاميم سينوغرافية لعشرات المسرحيات، كما شارك في عدة لجان تحكيمية، وعمل أستاذا بالمعهد العالي للفنون الدرامية ببرج الكيفان.
ثم أتى شهر ماي، ليخطف روح الفنان عبد الحميد حباطي، الذي غادرنا عن عمر ناهز 75 سنة. وعرف حباطي في عدد من الأدوار التاريخية والاجتماعية وفي أفلام مميزة، بالإضافة إلى مشاركاته البارزة في المسرح والتلفزيون، منها «ريح السمسار» و»القانون والناس» و»السيد الوزير» وغيرها، بالإضافة إلى حضوره السينمائي اللافت من خلال أعمال على غرار «الطاحونة» والعمل التاريخي «دورية نحو الشرق».
وكان ابن قسنطينة قد بدأ مسيرته الفنية في الستّينيات، وشارك منذ ذلك الوقت في العشرات من الأعمال المسرحية مخرجاً وممثّلاً.
وكأنّ الأخبار الحزينة لم تكن تكفي أهل المسرح، ليُفجعوا شهر أوت الماضي في الفنانة الكبيرة نورية عن عمر ناهز 99 عاما..»خديجة بن عياد»، والمعروفة باسم «نورية قزدرلي»، واحدة من رائدات المسرح الجزائري، واسمها رديف أكثر من 60 عاما من العطاء الفني في المسرح والسينما والتلفزيون. نورية اسم ارتبط بأعمال كثيرة وكبيرة، ويكفي أن نذكر «أبناء القصبة»، أو «خذ ما عطاك الله»، أو مسلسل «المصير»، أو حتى مسرحية «بيت برناردا ألبا».
هذه الأيقونة، وهي زوجة الفنان «مصطفى قزدرلي»، بدأت مشوارها الفني عام 1945، وانضمت لاحقا إلى المسرح الوطني في عام 1963، وعُرفت بألقاب عدة، منها «أيقونة الفن الرابع في الجزائر»، و»زهرة المسرح الجزائري»، وقد منحتها الدولة الجزائرية وسام الاستحقاق الوطني في 2017.
ولأن الفواجع لا تأتي فرادى، غادرنا في ذات الآن الفنان الكوميدي بشير بن محمد المعروف باسم «الشيخ الخيّر»..الفنان البشوش الذي ترك بصماته رفقة فناني قسنطينة، في أعمال شهيرة على رأسها «أعصاب وأوتار»، «يا عامر يا ناسي»، وبعدها «ناس ملاح سيتي».
وقبل نورية بيوم واحد، توفي بسيدي بلعباس الممثل المسرحي الشاب موسى لكروت، عن عمر يناهز 33 عامًا. وقد كان الفقيد ناشطًا بارزًا في الحركة المسرحية لسيدي بلعباس، وأدّى أدوارًا في العديد من الأعمال منها «القراب والصالحين» للمسرح الجهوي للعلمة، و»الحي القديم» لهشام بوسهلة و»موسوساراما» للمسرح الجهوي لسعيدة.

رثائية الشّعر

في ثاني شهر من 2020، غيّب الموت الصحافي والباحث والشاعر عياش يحياوي، بالعاصمة الإماراتية أبوظبي، عن عمر يناهز 63 سنة. وكان الفقيد خضع لعملية جراحية مستعجلة. ويُعتبر ابن المسيلة من الشعراء الجزائريين الّذين تركوا بصمات في المشهد الثقافي، وله أكثر من 12 مؤلفا.
أما شهر جويلية، فكان موعد وفاة الفنان الطاهر رفسي بوهران، عن عمر ناهز 68 سنة. وقد دخل الفنان الراحل عالم الفن من بوابة الموسيقى كمؤدٍ، قبل أن يتجه للشعر الملحون وكتابة الأغاني، كما عمل في التمثيل.

الفن التشكيلي بلا ألوان

شهدت نهاية مارس رحيل الفنان التشكيلي الجزائري الكندي امْحمد ساسي، بالجزائر العاصمة، عن عمر يناهز الـ 60 عاما متأثّرا بفيروس كورونا.
وكان الفنان يقوم بزيارة إلى الجزائر بدأها في شهر فيفري، وانتقل إلى عدّة مناطق، وزار الصحراء التي لطالما جسّدها في لوحاته. ولم يتمكّن الفنّان من العودة إلى كندا شهر أفريل بغية الالتحاق بعائلته التي تقيم في مونتريـال.
أما جويلية، فكان موعد رحيل الفنان التشكيلي عمار علالوش، الذي انتقل إلى رحمة الله بقسنطينة، عن عمر ناهز 81 سنة. عمار علالوش المولود بالميلية بولاية جيجل سنة 1939 تلقى تكوينه بالمدرسة الوطنية للفنون الجميلة بالجزائر العاصمة، ودرّس على مدار سنوات بمدرسة الفنون الجميلة بقسنطينة، وكان يحلم بإنشاء «فضاء ثقافي مغاربي وأفريقي من أجل فهم أفضل للفن».
أما في أكتوبر، فقد غادرتنا الفنانة التشكيلية مونية حليمي فرناني، عن عمر 57 سنة، بعد مسار فني دام 30 سنة كرسته لخدمة الموروث والثقافة الجزائريين. اشتغلت الفنانة أستاذة بعد مسار طويل في مجال العمران، ولكن الفقيدة التي درست الهندسة لم تستطع أن تحبس نفسها عن التعبير بأدوات الفن التشكيلي.

الجامعة في حِداد

ما أكثر الأكاديميّين والباحثين في مختلف التخصصات، الذين غادرونا هذه السنة بالذات..ونخشى هنا أن نذكر بعضهم وننسى آخرين، ولكن من سنذكرهم مثال فقط عمّن خسرتهم مدرجات الجامعة ورفوف المكتبات.
شهدت هذه السنة أسماء مثل المؤرخ وعالم الاجتماع البروفيسور عبد المجيد مرداسي، عن عمر ناهز 75 عاما، وهو الذي درّس في جامعة قسنطينة والسوربون.
كما غادرنا عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا عبد القادر لقجع، الذي قال في حوار للدكتورة وسيلة عيسات: «من أهم العراقيل التي تقف في وجه قيام علم اجتماع عربي أننا لا نقرأ لبعضنا، ولا نعرف ببعضنا كباحثين ومفكرين، وكأنها مسلّمة أن العلم لا يأتي إلا من الغرب».
ونذكر أيضا من الأكاديميين عبد الله مساهل، عمر بوجمعة، المؤرخ عصمت تركي حساين، بوعبد الله قاسمي وعالم الاجتماع الفذ وذائع الصيت علي الكنز.
كما توفّي جرّاء كورونا البروفيسور بوخاتم مصطفى، الأستاذ بمدرسة الدراسات العليا التجارية بالقليعة، والبروفيسور محمد بلحمرة، مدير مركز البحث العلمي والتقني للمناطق الجافة ببسكرة، وغيرهما كثير.

أصدقاء الجزائر

فقدت الجزائر في أول شهور السنة صديقة من صديقاتها، الفنانة المصرية ماجدة الصباحي، التي اشتهرت بتجسيدها دور المجاهدة جميلة بوحيرد، في فيلم «جميلة» (1958) من إنتاج ماجدة، إخراج يوسف شاهين وسيناريو نجيب محفوظ.
وكانت آخر زيارة للفنانة الراحلة إلى الجزائر في ديسمبر 2006، للمشاركة في إحياء الذكرى الـ 46 لمظاهرات 11 ديسمبر 1961 التاريخية.
أما شهر ماي، فقد شهد رحيل الممثل الكوميدي الفرنسي غي بيدوس، عن سن ناهز 85 سنة. اشتهر بيدوس بالتزامه ومواقفه الإنسانية المناهضة للاستعمار، وهو من مواليد 1934 بالجزائر العاصمة، واستهل مشواره المهني كمخرج وممثل مسرحي سنة 1951 إلى جانب جان بول بيلموندو. وقرّر وضع حدّ لمسيرته الفنية على الخشبة في 2013، بالجزائر العاصمة، من خلال آخر عرض له «Rideau» (ستار). واختار بيدوس أن يوارى جثمانه الثرى بجزيرة كورسيكا، التي لطالما وصفها بـ «الجزائر البديلة».
وفي جويلية، رحل موسيقار عالمي، ولكن اسمه ارتبط، في واحد من أشهر أعماله على الإطلاق، بالجزائر: حيث غادرنا عن عمر ناهز 92 سنة، الموسيقار الإيطالي إنيو موريكوني، ملحن موسيقى الفيلم الجزائري الأشهر «معركة الجزائر». وقد عرض «معركة الجزائر» قبل سنتين بمناسبة عيد ميلاد الموسيقار الإيطالي التسعين.

حينما تعجز التّصنيفات

وددنا أن نشير هنا إلى أن التصنيفات التي اعتمدناها، إنما هي لتسهيل المطالعة والتخفيف على القارئ، ولكن يصعب جدّا تصنيف هذا المبدع أو ذاك في خانة من الخانات، لا يخرج عنها أو يحيد..فكيف نصنّف مسرحيا في المسرح فقط وهو الذي يبدع في السينما والتلفزيون؟ وكيف نصنّف شاعرا في الشعر فقط وهو الذي له من الأبحاث الجامعية ما له؟
لنأخذ مثالا آخر: هل يجوز أن نصنّف أسقف الجزائر السابق هنري تيسيي، الذي غادرنا هذه السنة، ضمن أصدقاء الجزائر، وهو الجزائري الذي «أحب الجزائر وتبناه بلد الفاتح نوفمبر بمنحه الجنسية عام 1966، وهو الوريث الجدير للأسقف دوفال الذي انحاز إلى الشعب الجزائري خلال الثورة المجيدة، بحيث يعكس الأسقف تيسيي صورة أولئك الأساقفة الكاثوليكيين الإنسانيين»، كما يقول عنه البروفيسور مصطفى الشريف؟
هل يجوز أن نمنع عن مدير الثقافة لولاية تيسمسيلت محمد داهل، الذي غادرنا جويلية الماضي عن عمر ناهز 55 سنة، صفة «المثقف»، وهو الذي أشرف على الثقافة بولايته منذ 2011؟
هل يجوز ألّا نعتبر رجالات الإعلام الذين رحلوا عنّا (ولعلّي أختصّ بالذكر هنا فقيديْ جريدة «الشعب» مديرها الأسبق عز الدين بوكردوس ورئيس تحريرها الأسبق ومدير «الجمهورية» السابق مختار سعيدي) من غير المثقفين؟ أم أن الإعلام صار، شئنا أم أبينا، رافدا من روافد الثقافة والإبداع، تجتمع فيه جلّ الفنون، لا من حيث المعلومة فقط، بل من حيث طرائق إيصال هذه المعلومة ووسائطها؟
رحم الله موتانا هذه السنة، على أمل أن تكون السنة المقبلة أحسن..أو على الأقلّ، أقلّ ألما..