طباعة هذه الصفحة

لأنّها أقصر الطرق لبناء الأمن والاستقرار في المنطقة

الجزائر تراهن على الدبلوماسية الوقائية

فضيلة دفوس

لا أحد يمكنه أن يجهل المخاطر الأمنية التي باتت تسكن منطقتنا والأزمات المعقّدة التي أصبحت تعصف بها، كما لا يمكن لأحد أن يغفل عن حقيقة أن الجزائر باتت بالفعل محاطة بطوق ناري ومحاصرة بحدود ملتهبة من كلّ الاتّجاهات.
 شرقا، مازالت الأزمة الليبية مشتعلة، ورغم أن أطراف الصراع هناك وقّعت على اتّفاق لوقف القتال، إلاّ أن الأصابع مازالت على الزناد والانتكاسة الأمنية قد تفرض نفسها من جديد خاصة مع تلويح وتهديد بعض زعماء الحرب هناك بالخيار العسكري لحسم المعركة لصالحهم، أمّا جنوبا وتحديدا بمالي، فرغم التقدّم المسجّل في عملية الانتقال السياسي التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي أطاح في أوت المالي بالرئيس إبراهم بوبكر كيتا، إلاّ أن مؤشّرات الاستقرار الحقيقي تبدو بعيدة، كما هو بعيد أيضا تجسيد اتّفاق السلم والمصالحة الذي انبثق عن وساطة الجزائر، وغربا، أو تحديدا الغرب الجنوبي، فقد التهب الوضع فجأة، لكن الأكيد ليس صدفة، حيث اشتعل القتال بين الاحتلال المغربي والجيش الصحراوي بعد هدنة دامت ثلاثة عقود، وتبعه بعد أسابيع معدودة قرار لم يكن في الحسبان، هو أشبه بوعد بلفور جديد، أهدى من خلاله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الصحراء الغربية المحتلة للمغرب مكافأة له على كسر المحظور والارتماء في حضن إسرائيل.
الجزائر ومن خلال التصعيد الذي يشهده محيطها، تدرك جيّدا بأنها مستهدفة، وتعلم بأن ما يجري حتى وإن كان خارج حدودها، فتداعياته وشظاياه ستلحقها، لهذا فهي لم تدّخر جهدا للعمل على تطويق الأزمات المتفجّرة بالجوار، وخلال السنة المودّعة بذلت الدبلوماسية الجزائرية جهودا كبيرة لتمكين الليبيين من وقف الحرب والجنوح إلى السلام، كما شهدنا زيارات مكوكية لوزير الخارجية صبري بوقادوم إلى دولة مالي لمّا حدث الانقلاب العسكري وأطيح بالرئيس كيتا في الصيف الماضي، وفعلا لقد سمح التدخّل الجزائري ومقاربة الحل التي طرحتها خارجيتنا من محاصر الأزمة هناك وإقرار سلطة انتقالية، ووضع قطار اتفاق السلم والمصالحة على سكّته الصحيحة بعد تعثّر وتعطّل دام سنوات.

غير بعيدة عن مسارات حل الأزمة الليبية

رغم غياب الجزائر عن بعض مسارات الحل في ليبيا التي كانت عديدة هذه السنة، حيث رحلت الأزمة الليبية وارتحلت بين عدّة عواصم عربية وغربية، إلا أن مقاربتها للحلّ كانت حاضرة بقوّة، حيث تمحورت حولها كلّ اللقاءات والاجتماعات التي عقدت، إما في مصر أو بوزنيقة المغربية أو في تونس أو سويسرا.
فرضت مقاربة الجزائر لتسوية الصراع الليبي والقائمة على الحلّ السياسي ورفض التدخلات الأجنبية والحفاظ على الوحدة الليبية شعبا وأرضا نفسها على كل مسارات الحل، وحتى إن حاولت بعض الدول إقصاء الجزائر وإبعادها عن الملف الليبي، إلا أن هذه الأخيرة لم تترك الحبل على الغارب، ولم تكن مطلقا بعيدة بل حاضرة بطرحها المحكوم بهدف واحد وهو تحقيق الاستقرار في الجارة الشرقية.
لقد حاولت بعض الأطراف إبعاد الجزائر عن جهود حلّ الأزمة الليبية، واتّهمتها أطراف أخرى بمحاولة عرقلة خطّة الأمم المتحدة للتسوية، لكن الجزائر لم تصمت أمام هذه الاتهامات ولم تنسحب من الملف الليبي لأنها معنية أكثر من غيرها بحلّه، وقد قالها الرئيس عبد المجيد تبون بكلّ صراحة وشجاعة: «قلت سابقاً إن الشأن الليبي هو شأن جزائري، وإنه لن يحدث أي شيء في هذا البلد دون موافقة الجزائر، نفس الكلام أكرره اليوم. سنفرض أنفسنا للمشاركة في الحل، وإذا لم يشاركونا سنتحمل مسؤولياتنا..والجزائر لن تعرقل خطة الأمم المتحدة، لأننا نأمل في حل دائم وليس حل لأشخاص».
هذا الموقف الجزائري الثابت والشجاع المدفوع برغبة صادقة في عودة الأمن والاستقرار إلى ليبيا، جعل الأمم المتحدة على لسان المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دوجاريك تثني على جهود الجزائر الايجابية لحل الازمة التي تعصف بالجارة الشرقية منذ عقد من الزمن، كما جعل مبعوثة الأمين العام بالإنابة إلى ليبيا تلتقي الرئيس الجزائري ومسؤولين آخرين في العاصة الجزائر لتنسّق معهم مسار التسوية السلمية الرامي إلى حقن دماء الليبيين وتحريرهم من التدخلات الخارجية.

الحل في مالي سيكون 90 بالمائة جزائريا

عاد الوضع في مالي في السنة المودّعة لينتكس، حيث شهدت هذه الدولة الواقعة في الساحل الافريقي احتجاجات واضطرابات شديدة بعد أن انتفض الشارع ضد الرئيس ابراهيم بوبكر كيتا، الذي حاز على ولاية رئاسية جديدة رفضها الشعب، وقد اشتدّ التوتر في الصيف الماضي لينتهي بانقلاب عسكري أطاح في أوت بكيتا، وخشية من تداعيات هذه التطورات الخطيرة على أمنها، سارعت الجزائر إلى تحريك آلتها الدبلوماسية على أقصى سرعة لمنع أي انزلاق نحو العنف، خاصّة وأنّ هذه الجارة تعتبر مستقرّا لعدد كبير من التنظيمات الارهابية والارهابيين ومحطّ أطماع دول كثيرة بعضها لا يريد خيرا للجزائر.
لقد قالها الرئيس عبد المجيد تبون صراحة «الحلّ في مالي سيكون 90 في المائة جزائريا لأنّنا الامتداد الطبيعي للشقيقة الجنوبية، ما يبرر - كما أضاف - زيارتي وزير الخارجية (صبري بوقادوم) لباماكو، واقتراحنا عليهم (يقصد المجلس العسكري) أن لا تتجاوز فترة الحكم الانتقالي السنة والنصف، كما أنّنا شدّدنا عليهم بأن الرئيس القادم يجب أن يكون مدنياً، مع حتمية الالتزام باتفاقية الجزائر في التعاطي مع الوضع في الشمال».
لقد قام وزير الخارجية الجزائرية بزيارات عديدة إلى باماكو حتى لا يترك المجال مفتوحا للذين يعملون على تأزيم الأوضاع واستغلالها لصالحهم، واستطاع بفضل الجهود الكبيرة التي بدلها أن يقنع الانقلابيين بمرحلة انتقالية من 18 شهرا تتوّج بانتخابات تحفظ المسار الديمقراطي ومدنيّة النظام، ولم يتوقّف تدخّل الجزائر عند هذا الحدّ، حيث عملت من موقع قيادتها للجنة متابعة تنفيذ «اتفاق السلم والمصالحة « الموقع بفضل وساطتها سنة 2015، على إشراك جميع شرائح الأمة المالية في الدفع نحو تجسيد هذا الاتفاق على أرض الواقع، باعتباره أولوية إستراتيجية والطريق الأقصر لعودة الاستقرار إلى مالي.
وقد عكست نبرة الرئيس تبّون الحازمة في تناول أزمة مالي والتطورات التي رافقت تحرك الجزائر، برأي مراقبين، مركزها القوي كفاعل إقليمي مؤثر، وأيضا امتعاضها من تمدّد نفوذ بعض الدول.

دعم المسار الأممي في الصّحراء الغربية

ولأنّ المصائب والأزمات لا تأتي فرادى، فقد التهب الوضع في الجوار الجنوبي الغربي فجأة لكن بكلّ تأكيد ليس صدفة، لتكتمل الدائرة النارية التي تحيط بالجزائر، التي استشعرت بسرعة الخطر الذي يستهدفها وتحرّكت بقوّة، لكن هذه المرّة في إطار المنتظم القاري الذي تعتبر الصحراء الغربية من مؤسّسيه، وعليه تقع مسؤولية الدفاع عنها وعن حقّها في الاستقلال كونها آخر مستعمرة في افريقيا.
لقد أعادت الجزائر القضية الصحراوية مجددا إلى أجندة مجلس السلم والأمن خلال القمة الاستثنائية الـ 14 التي انعقدت تحت شعار «إسكات صوت البنادق» بما يضع حدّا لمحاولات المغرب اقصاء الاتحاد الافريقي من الجهود الرامية إلى ايجاد حل للنزاع في الصحراء الغربية يكفل للشعب الصحراوي حقه غير القابل للتصرف في تقرير المصير والاستقلال.
الجزائر التي تستمدّ موقفها تجاه القضية الصحراوية من القرارات الأممية التي تقرّ صراحة بأن النزاع المغربي - الصحراوي لا يمكن حلّه بالقرارات الأحادية بل باتفاق مقبول من الطرفين، تدرك خطورة الوضع خاصة مع استئناف الحرب في الصحراء الغربية واعتراف ترامب بمغربة الاقليم المحتل، لهذا فهي تولي الأمر أهمّية بالغة وتبدي جاهزية كبيرة لأيّ مستجدات، كما أنها متمسّكة بمساعدة الصحراويين على استعادة حقّهم وفق ما تقرّه الشرعية الدولية.
في الواقع التحديات التي تحيط بالجزائر كثيرة وخطيرة، ورغم صعوبة الوضع فإن بلادنا لا تقف مكتوفة الأيدي، بل على العكس تماما، ومقابل الجاهزية العسكرية والأمنية، فهي تتحرّك دبلوماسيا في كلّ الاتجاهات لتطويق الأزمات التي تحاصرها بداية بالأزمتين الليبية والمالية وانتهاءً بالقضية الصحراوية، وأيضا الإرهاب في الساحل الذي يشكّل لوحده معضلة خارقة تستدعي اليقظة والاستعداد لدرء خطره.