طباعة هذه الصفحة

البروفيسور عبد الله حمّادي لـ«الشعب ويكاند» (الحلقة الأولى) :

الإفـــراط في التسامح كـان من أسبـاب سقـوط الأندلس

حوار: الخير شوار

العنصر البربري كان الغالب في الهوية الأندلسية 

ظهور الموشحات كان لحاجة اجتماعية وثقافية في زمن حكم البربر

البروفيسور عبد الله حمّادي مرجع أساسي في الأدب الإسباني والأدب والتاريخ الأندلسيين وهو خريج جامعة مدريد المركزية عام 1980، وأثرى المكتبة العربية بكتب مرجعية بما يراقب الأربعين إصدارا بين الشعر والدراسة  على غرار «مدخل إلى الأدب الأسباني الحديث»،
و»المورسكيون ومحاكم التفتيش في الأندلس»، و»الأندلس بين الحلم والحقيقة».
في الجزء الأول من حوارنا مع حمّادي، يكلمنا عن أسباب سقوط الأندلس وعن الموشحات والأزجال الأندلسية، وبعض القضايا ذات الصلة.


الشعب ويكاند: في رأيك، لماذا سقطت الأندلس في ذلك التاريخ بالضبط (1492)، ألا ترى أن «السقوط» كان حضاريا قبل أن يكون عسكريا، وقد اكتملت تلك التجربة وكان لا بد لها من نهاية؟
البروفيسور عبد الله حمّادي: هذا سؤال يحتاج إلى أكثر من إجابة، بل يحتاج إلى كتابة مُصنّفات كاملة للإجابة على هذا السؤال، لأنّ تاريخ الأندلس الذي امتدّ من 711 ميلادية إلى 1492 ميلادية قد مرّ بالعديد من المراحل التّاريخية الحاسمة، ويمكن إجمال هذه المراحل في ثلاث محطات كُبرى وهي كالتالي:
المرحلة العربية من الفتح إلى غاية سقوط عهد أمراء الطوائف، إلى غاية أواخر القرن الحادي عشر الميلادي؛ فهذه المحطة عُرفت بمحطة التمكين للوجود العربي في شبه جزيرة إيبيريا، وخلُص إلى غاية الدّولة العامرية التي تُّوجّت بالانتصارات الكبرى التي حققها المنصور بن أبي عامر وبلغ نفوذ الأندلس فيها إلى أقصى مداه، حيث بلغ إلى أقصى الشمال الغربي مُتوجا باحتلال إمارة جليقية، وبلغ من الجهة الشرقية إلى حدود جبال البرانس ومنطقة كاطالونيا...بهذه الانتصارات الضخمة حقق الأندلس الامتداد الحضاري الطبيعي الذي أنجزه خلفاء بني أمية بالأندلس وخاصة زمن الخليفة عبد الرحمان الناصر وابنه الحكم، حيث تُوّج بإنشاء أكبر المعالم الحضارية التي يأتي في طليعتها «قصر الزهراء» بقرطبة «والجامع الأموي» وكذلك «بمدينة الزّاهرة» التي أنجزها المنصور بن أبي عامر، يُضاف إلى ذلك «المكتبة العلمية» التي جمعها الحكم بن عبد الرحمان النّاصر والتي ضمت أكثر من أربعة ملايين مخطوط جُمعت من مختلف أصقاع العالم.. بمثل هذه الإنجازات وغيرها في مختلف حقول المعرفة وخاصة الأدبية منها تُوّجَ الحُكم العربي في الأندلس، والذي ضرب فيه مثلا لا نظير له في «التعايش السلمي بين الديانات»
و»التعايش السلمي بين العراق»، حيث كانت الأندلس قد انصهرت في بوتقتها كلّ الأعراق من عرب وبربر وصقالبة وإيبيريين وثلتيين، وكذلك الديانات من إسلام ومسيحية ويهودية؛ بحيث تعايش الكل، وساهم الكل في بناء ما بات يُعرف بالحضارة الأندلسية التي مُنحت فيها الفرصة للجميع بما في ذلك العنصر الذي أطلق عليه المؤرخون اسم «المولّدين» و»المُستعربين»... هذه العناصر هي التي بلغت بالأندلس أن يصبح في القرن العاشر الميلادي أكبر حضارة شهدتها العصور الوسطى.
المحطة الثانية التي عرفتها الأندلس تبدأ مع نهاية القرن الحادي عشر الميلادي، وبالتحديد مع نهاية عصر الطوائف ودخول المُرابطين البرابرة لنجدة الأندلس، وانتصارهم التّاريخي على القِوى النصرانية في معركة «الزلاّقة» الشهيرة في عام 1086 ميلادية، بعد هذا التّاريخ الحاسم ستعرف الأندلس مرحة النفوذ البربري وتقلص النّفوذ العربي، وسوف يمتدّ هذا النفوذ إلى منتصف القرن الثالث عشر الميلادي؛ أي حكم المرابطين ثمّ الموحدين، والذي ستعرف فيه الأندلس أزهى محطاته الثقافية والحضارية سواء من حيث العُمران أو من حيث الإبداعات الخارقة
«كالموشحات الأندلسية»، و»الأزجال الأندلسية» وعلوم الطبّ والفلسفة، وذلك بفضل تخلّي حُكام البربر من مرابطين وموحدين من تفضيل اللغة العربية عن بقية اللهجات وهو ما مكّن من ظهور الموشحات والأزجال وكذلك الموسيقى الأندلسية الحقيقية على يد مبتدعيها من أمثال الفيلسوف بن باجة الذي يُعتبر المُبتكر الحقيقي للموسيقى الأندلسية المُتوارثة إلى يومنا هذا، والذي تجاوز بابتكاراته الفنية «مدرسة زرياب» التي نشرت في الأندلس «مدرسة الموصلي المشرقية»... فخبراء الموسيقى الأندلسية يُرجعون الفضل في ابتكار ما صار يُعرف بالموسيقى الأندلسية إلى جهود الفيلسوف الشاعر ابن باجة الذي أقدم على مزج الموسيقى المسيحية المنتشرة بين الأهالي الأسبان والموسيقى العربية البربرية والخروج بطابع ثالث صار يُعرف بالموسيقى الأندلسية، وذلك في القرن الثاني عشر الميلادي، وهذا النّوع من الموسيقى يعود الفضل في ابتكاره إلى ظهور فنين إبداعيين من ابتكار أندلسي بحت هما: الموشحات والأزجال، وهما يُعبّران أحسن تعبير عن الثقافة الأندلسية المحلية التي جاءت كثمرة للتعايش السلمي والديني في شبه جزيرة إيبيريا. وبفضل التسامح البربري الذي آلت إليه مقاليد السلطة في الأندلس.
المحطة الثالثة هي ما أُسميه بمحطة الحكم الأندلسي الصميم، وذلك أنه على إثر تراجع النفوذ البربري ظهرت طوائف الأندلسيين الذين لا يُمكن اعتبارهم بربرا أو عربا بل فئة من أبناء الأندلس الذين هم ثمرة التعايش بين المسلمين والمسيحيين، ويمثل هذه المرحلة بامتياز ما بات يُعرف بإمارة غرناطة التي امتدّ حكمها من 1232 إلى 1492 وهي المحطة الأخيرة التي تقلّص فيها النفوذ العربي والبربري وبات مصير شبه جزيرة إيبيريا بين يدي أحفاد الفاتحين من عرب وبربر، وبين أبناء ذاك التزاوج بين بين عناصر الفتح والسكان الأصليين لأنّ كلّ فرسان الفتح قد تزوجوا من نساء مسيحيات ونتج عن ذلك بروز عنصر ثالث وهم «المولدون» فيمكن اعتبار المرحلة الثالثة والأخيرة من حكم بلاد الأندلس صارت بيد هذه الطائفة الأندلسية التي تحمّلت عبء ما آل إليه الأندلس من ضعف وتقلص من حيث المساحة؛ وصارت غرناطة مأوى للهجرة الأندلسية المنحسرة أمام الزحف المسيحي حتى يُقال أنه بلغ تعداد سكانها في القرن الرابع عشر الميلادي إلى ما يزيد عن مليون نسمة؛ ظلت تقاوم الحروب الاستردادية المسيحية إلى تاريخ السقوط في 2 يناير 1492 .. ومن إنجازات هذه المرحلة التّاريخية الأخيرة معلم عُمراني عالمي وهو
«قصر الحمراء»، الذي ظلّ شاهد عيان على منجزات الحضارة الأندلسية حتّى في آخر أيّامها... هذه هي المحطات الأندلسية الكبرى باختصار شديد، التي عرفت بها الحضارة الأندلسية..
- أمّا أسباب سقوط هذه الحضارة المتناهية في طول العمر فيعود في رأيي إلى عدّة أسباب لعلّ أبرازها:
— الإفراط في التسامح لأنّ الشيء إذا زاد على حدّه انقلب إلى ضدّه؛ والفضيلة دائما كما نعرف هي وسطٌ بين طرفين مذمومين، ولعلّ الأندلس قد وقع حكامه في مثل هذا المطب حيث أشركوا أعداءهم في تسيير شؤونهم الخاصة وهو ما مهّد السبيل إلى معرفة نقاط ضعفهم، ومن هناك الإطاحة بهم رغم طول مدّة بقائهم في هذه الأرض.
— ثاني هذه الأسباب قد يعود إلى ما يُرف بالحتمية التّاريخية كما يقول ابن خلدون، وهي حتمية تجعل المُحتل مهما طالت مدّة إقامته بتلك الأرض تأتي الحتمية التّاريخية لتُنهي وجوده.
— الاحتمال الثالث وهو الدّورة الحضارية، فلا يُرف إلى اليوم أنّ هناك دورة حضارية تجاوزت المدّة التي قضّاها المسلمون بالأندلس وبالتالي كان مآل الأندلس لا محالة إلى زوال بمشيئة الأقدار والدورة الحضارية وكذلك الحتمية التاريخية...
أمّا العوامل الأخرى فهي كذلك كعدم التجانس الذي طبع الوجود الإسلامي بالأندلس والذي أوشكت شرارته أن تندلع في بداية الفتح بين عناصر الفتح الأولى من بربر وعرب وهذا ما جعلنا لا نعرف إلى حدّ الآن مصير كلّ من طارق بن زياد وموسى بن نُصير.
والعامل الآخر وهو الإصرار التّاريخي الذي ظهر لدى سكان الأرض الأصليين، رغم الكثرة منهم التي اندمجت في زمرة الفاتحين، فإنّ الطائفة التي ستُرف بمن تبنّى فكرة «الحروب الإستردادية» هي من أظهر ذاك الشعور بالوطنية والانتساب لتلك الأرض ومن هناك، كما تقول المصادر التاريخية الأندلسية، أنّ هناك أقلية اعتصمت بجبال الشمال أمام زحف الفتح الإسلامي، وجمعت أمرها وأنشأت أول إمارة استردادية، وراحت تتحين الفرص لتتمدّد على حساب الوجود العربي في الأندلس حتى بلغت مرحلة تقاسمت بموجبها أرض إسبانيا بين الفاتحين والسكان الأصليين من الأسبان ولولا معركة الزلاقة في 1086 لكان مصير الأندلس قد انتهى في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي...
ثمّ هناك عوامل أخرى ساهمت في تراجع المدّ الأندلسي، وهي نسيان الهدف الأسمى الذي دفعهم أول مرّة لدخول تلك الأرض، واندماج أحفادهم كلية في تلك الأرض وارتباطهم بها من حيث الأصل والمصير وهو ما جعلهم يجدون أنفسهم بين عدوّ متربص بهم وأطماع من خارج شبه جزيرة إيبيريا تترصدهم، وفي نهاية الأمر واجهوا مصيرهم بمفردهم واضطروا إلى تسليم مفاتيح آخر معاقلهم وهي غرناطة...

-   ولماذا كان سقوط الأندلس في ذلك التاريخ بالضبط؟
  لماذا كان سقوط الأندلس في ذلك التّاريخ بالضبط وأعني به 1492، فالأمر واضح للعيان فأرض الأندلس في ذلك التّاريخ قد تمّ استرجاعها من طرف الأسبان كاملة، والقوى المسيحية الأسبانية توحّدت من حول هدف واحد وهو «طرد المسلمين»، والإصرار كان قويا إذْ حُوصرت مدينة غرناطة لمدّة عشر سنوات متتالية، لا يصلها مدد ولا يُغيثها مُغيث نتيجة الحصار، وغرناطة من الدّاخل كانت تتآكل لصالح أعدائها، حيث تقاسم فيها السلطة الوالد وابنه وعمّه، وتكاثرت فيها النزاعات إلى درجة جعلت أحد أطراف النزاع الداخلي بغرناطة يستنجد بالملكين الكالثوليكيين: إيزابيلا وفرنانادو، ويُسهل عملية دخول العدو إلى عاصمة الإمارة ومن هناك يبدأ التفاوض على الاستسلام، وهو ما مكّن للزحف النصراني الإستردادي من التوغل في أسرار غرناطة وتأليف أطرافها المتنازعة على بعضها حتّى تمكن من القضاء على الجميع، والضحك عليهم بوثيقة استسلام تضمن حقوقهم لكن بمجرد تسلمهم لمفاتيح قصور الحمراء أُلغيت بنود تلك الاتفاقية وتمّ القضاء المُبرم على الوجود العربي الإسلامي بالأندلس بعد مرحلة ستُعرف بالمحطة «المورسكية» الأخيرة.
- يذهب البعض إلى تحليل غريب، يقول إن سبب «السقوط» يعود إلى بروز شعر الموشحات باللهجة العامية، الذي «ضرب الهوية العربية» للبلاد، كيف تقرأ هذا الطرح؟
 ليس هناك هوية عربية في الأندلس بالمُطلق منذ الفتح الأندلسي، فالمصادر في مُعظمها تؤكد أنّ العنصر البربري كان هو الأكثر، أمّا العنصر العربي فظل يتوافد تباعا عبر العصور في شكل هجرات فردية وجماعية في حين أنّ الأندلس كانت الأرض المفتوحة على تعاقب الهجرات البربرية إمّا في شكل جماعي أو في شكل حملات للنجدة، وكذلك بسبب قرب المسافة، أمّا النفوذ العربي في الأندلس فيعود إلى أسباب أخرى مثل التمكين لسلالة بني أمية من جمع شتات الأندلس وتوحيد رايتهم بحكم الماضي التاريخي المعروف، لكن ظهور الموشحات والأزجال في الأندلس كان لحاجة اجتماعية وثقافية تطلبها المجتمع في زمن حكم البربر للأندلس والذي يعود لهم الفضل في التخلص من عُقدة اللسان العربي، وتمكين العامة من التعبير عن احتياجاتها الفنّية بما يتناسب ووضعها الاجتماعي؛ فالقرن الثاني عشر الميلادي الذي شهد الحكم البربري كان عصرا اندماجيا بامتياز بين الساكنة الأصليين من المستعربين والبرابرة والعرب وكذلك المسيحيين، حيث ابتكروا لغة شعبية مشتركة عبّرت عنها الموشحات والأزجال أحسن تعبير والدّليل على أنها موروثا شعبيا هو نأيُ المصادر الأدبية الأندلسية الرسمية عن الاهتمام بها وتدوينها إلاّ فيما ندَر من الوثائق التّاريخية، لكن تبقى هذه الظاهرة هي إفراز حضاري يعكس مدى الاندماج الثقافي واللغوي الذي عرفَ في الأندلس في تلك الفترة ولا علاقة له بالضعف أو القوّة بقدر ما كان عامل إثراء وتنوع حظيت به الحضارة الأندلسية ومكّنها من إبراز شخصيتها التي قدمت إضافة نوعية إلى الرصيد الحضاري العربي الإسلامي.