طباعة هذه الصفحة

قيم ألهمت نضال الشّعوب وحرّرتها

فضيلة دفوس

لن نجانب الصّواب بالتّأكيد، لو قلنا بأنّ الأسس والمبادئ  التي تؤطّر الدّبلوماسية الجزائرية اليوم، تعود إلى سنوات ثورة التحرير الكبرى قبل أزيد من ستّة عقود، ففي هذه المرحلة الزّمنية الهامّة والصّعبة من تاريخها، أدركت الجزائر أهمية النّضال السياسي المواكب للكفاح المسلّح والمكمّل له، فراهنت عليه، كما راهنت على بناء آلة تتولى العمل الدبلوماسي، وتحدّد معالم النّشاط السياسي الخارجي، الذي نجح في تدويل القضية الجزائرية وتوّجها بالنصر بعد سنوات طويلة من المقاومة والكثير من التضحيات.

وإذا كانت معالم الدّبلوماسية الجزائرية قد بدأت تتحدّد خلال مرحلة الكفاح المسلّح، حيث عملت على نقل القيم التحريرية للثورة إلى الخارج، وألهمت العديد من الثورات وساهمت في موجة التحرير التي عرفتها إفريقيا، إذ نالت 12 دولة استقلالها دفعة واحدة، فإنّ وهج ودور هذه الدبلوماسية برز بشكل كبير بعد الاستقلال، من خلال دعم كفاح الشّعوب الساعية إلى الحريّة، وإقامة علاقات تقوم على الاحترام وتبادل المنفعة، وتبني قيم تقوم على عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول، والمرافعة للحلول السلمية للأزمات والابتعاد عن الخيارات العسكرية، وغيرها من المبادئ التي أصبحت من ثوابت السياسة الخارجية الجزائرية.
لقد أدركت الجزائر مباشرة بعد استقلالها أنّها يجب أن تكون من اللاعبين الأساسيين في المغرب العربي وإفريقيا، وحتى في الوطن العربي ومنطقة المتوسط بحكم خصائصها الجيوسياسية على المستوى الإقليمي والقاري، فكان اصطفافها إلى جانب من كانوا يناضلون لأجل تخليص إفريقيا من الاستعمار، والتاريخ يسجّل كيف دعّمت الجزائر مقاومة جنوب إفريقيا لنظام الميز العنصري، وكيف استفاد الزعيم نيلسون مانديلا من التدريب على استعمال السّلاح على أرض الجزائر.
عربيا، لم تدّخر الجزائر جهودها لتكون عنصرا فاعلا في الحاضنة العربية، وظلّ همّها وشغلها الشاغل، هو تحقيق الأمن والإستقرار بالوطن العربي الذي ظلّ ولا زال يشكّل منطقة جذب للصوص الثروات ومؤجّجي الحروب وسفّاكي الدّماء، والتاريخ يسجّل بفخر وساطة الجزائر بين العراق وإيران لإنهاء خلاف حدودي كاد أن يشعلها حربا بين الجارتين، وقد توّجت الوساطة باتفاقية وقّعت في 6 مارس عام 1975 من طرف نائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين وشاه ايران محمد رضا بهلوي، ولم تتوقّف الإنجازات الدبلوماسية عند هذا الحدّ، حيث شهدنا كيف أن الجزائر ظلّت بمواقفها الدّاعمة تشكّل قوّة دفع للشّعبين الفلسطيني والصّحراوي في مقاومتهما للاحتلال، كما وقفت ببسالة ضدّ التدخلات الخارجية في دول الربيع الدموي، وراهنت مند البداية وإلى غاية الآن على المقاربة السّلمية لتجاوز كلّ الأزمات الأمنية التي تعصف بالعالم العربي، خصوصا المعضلة الليبية، وحتى بإفريقيا، حيث أظهرت الجزائر عزما قويا على تحقيق الأمن والاستقرار بحديقتها الخلفية.
لهذا ومنذ بداية الأزمة في مالي سنة 2012، بل، ومنذ تسعينيات القرن الماضي، وهي تؤدّي دور الوسيط بين الفرقاء هناك، مستندة إلى ثقافتها الإستراتيجية المستمدة من تاريخها السياسي والنضالي، ومن مبادئ أول نوفمبر ومن خبراتها الطويلة في العمل الدبلوماسي، بحيث تتبنّى الجزائر دبلوماسية وقائية وسياسة استباقية تجاه ما يحدث من مشاكل ونزاعات وأزمات في إقليمها، سواء في المغرب العربي وشمال إفريقيا أو منطقة الساحل الإفريقي، كما تتمسّك بعقيدة أمنية دفاعية تسير وفق خط الشرعية الدولية، الذي يراهن على الحل السلمي والحوار وجلوس الفرقاء إلى طاولة المفاوضات، وقد لوحظ ذلك في الوساطة الجزائرية في الأزمة المالية التي توّجت باتفاق السلم والمصالحة الموقّع عام 2015.
ورغم تواطؤ جهات وأطراف خارجية تسعى إلى زرع الأشواك في طريق الدبلوماسية الجزائرية، إلاّ أنّ هذه الأخيرة تتقدّم بثقة وثبات ونجاح نحو الواجهة الإقليمية والدولية.