طباعة هذه الصفحة

الأمـن مقابـل الاقتصاد

التغلغل النـــاعم يعيـد روسيـا إلى أفريقيـا

د. آسيا قبلي (باحثة في الدراسات الاستراتيجية)

بعد أن غابت عن الفعل والقرار في منطقة حوض المتوسط وأفريقيا لقرابة ربع قرن، عادت الفيدرالية الروسية لتلقي بكل ثقلها في المياه الدافئة من جديد، بدءاً من 2015، مع الأزمة السورية لتمتد إلى أفريقيا، تلاه تدخل في جمهورية أفريقيا الوسطى التي عاثت فيها الحرب فسادا ردحا من الزمن، وصولا إلى عقد قمة روسية - أفريقية، حضرها 43 من رؤساء الدول الأفريقية، إلى جانب منظمات إقليمية أفريقية ونحو 10 آلاف ممثل عن جميع القطاعات الاقتصادية في دول القارة؛ قمة أرادت روسيا من ورائها العودة إلى الساحة الدولية والأفريقية، خصوصا كفاعل بديل عن الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، وإحياءً للمجد السوفيتي لكن بطعم اقتصادي.
نحاول من خلال العرض التالي التطرق إلى التواجد الروسي في أفريقيا، أسبابه وأهدافه، وقراءة التنافس مع فرنسا في بعض مناطق نفوذها.
يرتبط إعلان السياسة الروسية تجاه أفريقيا بعوامل ثلاثة هي، العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة على روسيا عقب ضمها القرم، دخول الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي حيز التنفيذ وبداية الضربات الجوية الروسية على سوريا في 30 سبتمبر 2015، التي نجحت من خلالها بحماية حليفها السوري من السقوط.
وبناء على هذه العوامل، فإن المواجهة بين روسيا والغرب ستكون عنصرا مُهيكِلا للسياسة الخارجية الروسية. لكن لابد من الإشارة إلى أن هذا الفضاء الذي تسعى روسيا للدخول إليه يشهد تنافسا بين القوى التقليدية من جهة والقوى الصاعدة من جهة أخرى، على غرار الصين، الهند، البرازيل وتركيا.
الاقتصاد في معادلة التواجد الروسي في أفريقيا: لا تتمتع روسيا بثقل اقتصادي في أفريقيا، حيث لا تتجاوز التبادلات التجارية بينها وبين دول جنوب الصحراء الخمسة ملايير دولار إلى غاية الثلاثي الأول من العام 2018، بحسب إحصائيات رسمية. و17 مليار دولار إذا احتسبنا دول شمال أفريقيا، مقابل 275 مليار دولار قيمة المبادلات التجارية بين الاتحاد الأوروبي وأفريقيا لعام 2017، بحسب وكالة الإعلام الاقتصادي الأفريقية ECOFIN، و200 مليون دولار مع الصين و70 مليار دولار مع الهند و53 مليار دولار مع الو.م.أ، و20 مليار دولار مع تركيا، وعليه تبقى روسيا بعيدة عن آخر متبادل تجاري مع أفريقيا. لكن، بحسب مهتمين بالشأن الروسي، فإن هدف روسيا من العودة إلى أفريقيا ليس متعلقا باعتبارات السياسة الخارجية، بقدر ما هو مرتبط برؤية حول بعث تعاملات في منطقة لا تخضع للعقوبات الاقتصادية الغربية، حيث تعتبر روسيا نفسها متأخرة عنها.
أما على الصعيد العسكري، تشير أرقام لمعهد ستوكهولم الدولي لدراسات السلام، أن روسيا تصدر نحو 13 بالمائة فقط من السلاح إلى أفريقيا، 78 بالمائة منها موجهة إلى الجزائر. بينما تراجعت صادراتها من السلاح إلى القارة بنسبة 32 بالمائة بين 2013 / 2017 مقارنة بالفترة 2008 / 2012. لكن هذه الأرقام لا تأخذ بعين الاعتبار بعض عقود صيانة السلاح في الدول الأفريقية. ولعل هذا التراجع يفسر تدخلها في كل من ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، من خلال تقديم خدمات عسكرية وأمنية لهذه الدول، مقابل امتيازات اقتصادية.
وعليه، عقدت القمة الروسية - الأفريقية في مدينة سوتشي، المطلة على البحر الأسود يوم 23 أكتوبر 2019، حضرها 43 رئيس دولة أفريقية، و10 آلاف ممثل عن جميع قطاعات الاقتصاد الأفريقي، إلى جانب منظمات إقليمية سياسية واقتصادية. وأعلنت القمة في بيانها الختامي، أن المجتمعين اتفقوا على مواجهة الإملاءات السياسية وابتزاز العملات عند تنفيذ السياسة الدولية والتعاون الاقتصادي، وإحباط رغبة بعض الدول في أن تمنح نفسها حق الاستئثار في تحديد الجدوى والمعايير المسموح بها للتفاعل المشروع بين البلدان الأخرى»، ورفض السياسات والقرارات الأحادية التي تفرضها الدول الغربية والتي تقوض أسس التعاون وعمل مجلس الأمن، وكذا رفض التدخل في شؤون الدول الأخرى وإسقاط الحكومات الشرعية، وسياسة ازدواجية المعايير، ومنع التلاعب بمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية بهدف الضغط على الدول الأخرى، والتنافس بشكل غير عادل. يتضح من خلال هذا البيان، أن روسيا تنتقد بطريقة مباشرة النهج الغربي خلال فترة الأحادية القطبية، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، معلنة عن بداية نهاية تلك الفترة، وبداية عودتها التي تليق بماضيها السوفييتي والقيصري.
التواجد الروسي في أفريقيا يبحث أساسا عن مزايا اقتصادية مقابل بيعها العتاد والخدمات في المجال الأمني. ومن أجل تحقيق ذلك وتحسين مكانتها في أفريقيا، استعملت روسيا ترسانتها الإعلامية بداية من 2013، من خلال تقديم أفريقيا على أنها احتياطي اقتصادي قوي، وأن أفريقيا مهمة بالنسبة لروسيا والعكس صحيح (على النقيض من الصورة السلبية التي طالما روج لها الإعلام الغربي عن القارة).
كما كثّفت مراكز البحث الروسية نتاجها الأكاديمي حول أفريقيا وأهميتها بالنسبة لروسيا، وتراجعت النظرة الروسية المبنية على تقسيم ثنائي: «شمال أفريقيا باعتباره الجزء الأكثر فائدة بالنسبة لها وأفريقيا جنوب الصحراء غير المهمة». وفي هذا السياق، قام وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف، بزيارات إلى عدد من الدول الأفريقية جنوب الصحراء: أنغولا، ناميبيا الموزمبيق، زيمبابوي وإثيوبيا في الفترة بين 5 و9 مارس 2018 (حيث تعتبر روسيا تواجدها ضعيفا هناك، رغم العلاقات التي ربطتها بروسيا في الفترة السوفيتية، باعتبارها زبونا للسلاح الروسي وكذا تكوين النخب العسكرية). وهدفت الزيارة إلى ترقية ثلاث دعائم في العلاقة بين روسيا وهذه الدول تمثلت في: تجديد وترقية التعاون العسكري والأمني، فتح الاقتصادات الوطنية أمام الاستثمارات الروسية، وإعادة بعث التبادلات الثقافية والجامعية؛ بمعنى أن روسيا تريد أن تضمن حصة من الأسواق والموارد الطبيعية الأفريقية، وترقية التعاون العلمي والتقني، وتقديم نفسها على أنها فاعل مؤثر في مجال مكافحة الإرهاب.
ترتكز روسيا في محاولة العودة إلى أفريقيا على عدد من الموجهات، نذكر منها: الإرث السوفييتي: حيث ربط الاتحاد السوفييتي - سابقا، علاقات وثيقة بالدول الأفريقية التي انتهجت الاشتراكية، وكان المزود الرئيس لها بالسلاح. لكن دون أن يكون له سياسة تجاه أفريقيا، لأن ذلك التواجد كان في إطار المواجهة الشاملة للمعسكر الغربي.
التعاون الثقافي والأكاديمي: حيث تشير الأرقام الرسمية الروسية إلى تكوين نحو 400 ألف طالب أفريقي في روسيا منذ سبعينيات القرن الماضي. لكن خلال السنوات الأخيرة تراجع عدد الطلبة الأفارقة في روسيا ولم يتعدّ 5000 طالب في أحسن الأحوال، ولذلك تحاول هذه الأخيرة التركيز على جانب التعاون العلمي والأكاديمي لاستقطاب هؤلاء الطلبة مجددا، لما يعنيه ذلك من انفتاح على روسيا ومنها القدرة على التأثير في تكوين النخبة المستقبلية بما يخدم أهداف تواجدها في القارة مستقبلا.
عنصر الإعلام: يتجلى التنافس في القارة أيضا من خلال وسائل الإعلام، وعليه خصصت روسيا جانبا منه لأفريقيا من خلال موقعي «روسيا اليوم» و»سبوتنيك»، اللذين يحظيان بزيارات كثيرة للقراء الأفارقة، مع الحرص على توفير المعلومة باللغتين الفرنسية والإنجليزية التي يتحدثها معظمهم، باعتبارها لغة رسمية في هذا البلد أو ذاك إلى جانب العربية، بالتركيز على انتقاد سياسات المستعمر السابق وما جره على أفريقيا من تخلف.
وأشارت دراسة للمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (IFRI)، أن روسيا تستثمر في محرك البحث «غوغل» حتى تظهر نتائج مواقع الأخبار الروسية حول أفريقيا في مقدمة محركات البحث المرتبطة بـ»غوغل»، لضمان نشر مضمون تلك الأخبار على أكبر قدر ممكن من وسائل الإعلام التقليدية ومواقع التواصل الاجتماعي في الدول الأفريقية.
خدمات عسكرية- أمنية مقابل امتيازات اقتصادية
تعتبر أفريقيا الوسطى المثال الأوضح على هذه العلاقة. ففي ديسمبر من العام 2017، رفعت الأمم المتحدة عن روسيا حظر تسليح وتكوين وحدات عسكرية في أفريقيا الوسطى، ثم ساعدتها روسيا في تأمين الانتخابات الرئاسية في 27 ديسمبر 2020- رغم حالة الحرب الداخلية والحصار الذي تفرضه المعارضة على العاصمة بانغي- أسفرت عن فوز فوستين أرشانغ تواديرا بولاية ثانية، بعد إبعاد الرئيس الأسبق فرانسوا بوزيزي الموالي لفرنسا، بحكم صادر عن المحكمة الدستورية بسبب ارتكابه جرائم حرب. وإقصاء مترشحين آخرين ينتمي معظمهم إلى الفصائل المعارضة التي تدعمها هي الأخرى فرنسا. ورغم الضبابية والاضطراب الأمني الشديد في هذه الجمهورية الصغيرة، إلا أن روسيا اقتنصت عبر شركة روساتوم «Rosatom عقدا تفضيليا للتنقيب في مناجم اليورانيوم في منطقة «باكوما»، وما يعنيه اليورانيوم الأفريقي بالنسبة لفرنسا التي تعتمد عليه في توليد الطاقة الكهربائية إلى جانب الاستخدام للأغراض العسكرية، وهذا يعني أن الصراع المحلي له امتدادات خارجية حول التواجد العسكري واستغلال الموارد.
وتذكر قراءات، أن طول مدة بقاء السفير الروسي سيرغي لابنوف في أفريقيا الوسطى منذ 2011، يفسر الرغبة الروسية في تطبيق سياستها في الجمهورية على المدى الطويل. إذ يعتقد أنه هو من سهل تدخل العسكريين وشبه العسكريين في جمهورية أفريقيا الوسطى في 2018.
وفي مالي، التي تدور رحى الحرب على أراضيها، تريد روسيا إبرام صفقات توريد السلاح إلى هناك، حيث خرج متظاهرون ينادون برحيل فرنسا، رافعين صور الرئيس الروسي فلادمير بوتين، باعتباره المخلص بعد النتائج المحققة في أفريقيا الوسطى وسوريا. وهذا ما يغضب فرنسا التي تستشعر خطر استيلاء روسيا على مناطق نفوذها، حيث فشلت الأولى في إرساء الأمن، بينما مكن التدخل الروسي من إجراء انتخابات رئاسية رغم الظروف الأمنية المضطربة في أفريقيا الوسطى.
قد تستنجد الدول الأفريقية، القابعة تحت الهيمنة الفرنسية، بروسيا، ليس لأن روسيا طرف ذو نوايا ملائكية، لكن على الأقل باعتبارها بديلا يدحر التدخل الفرنسي المبني على إطالة عمر الصراعات الداخلية من أجل ضمان استمرار مصالحها وفق منطقها الدائم «فرق تسد».
من جهة أخرى، تعقد روسيا اتفاقات بيع الأسلحة مع عدد من الدول الأفريقية، على غرار انغولا والموزمبيق. كما ترافق القوات المحلية لها في مواجهة حركة «الشباب»، إلى جانب التعاون الاستخباراتي. أما زيمبابوي، فبالإضافة إلى العلاقات التاريخية خلال الحقبة السوفييتية، فإن الماس والمعادن النفيسة التي يزخر بها باطنها، يسيل لعاب الروس. وأما بالنسبة إلى إثيوبيا، فما يجذب روسيا هو الأهمية الاستراتيجية لمنطقة القرن الأفريقي وجيبوتي، وهي ترى في إثيوبيا نقطة رسو لمراقبة ما يحدث في القرن الأفريقي الذي يزدحم بالقواعد العسكرية لعدد من الدول (الو.م.أ، فرنسا، اليابان...) رغم أن قدراتها على التأثير ضئيلة جدا.
الدبلوماسية لترقية المكانة الروسية في دول القارة
تريد روسيا أن تؤدي دور المحاور المحترم، أو حتى العضو المراقب داخل المنظمات الإقليمية للقارة الأفريقية. واتضح هذا التوجه من خلال عقد القمة الروسية - الأفريقية التي دعيت إليها منظمات أفريقية، على غرار المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، مجموعة شرق أفريقيا واتحاد المغرب العربي واتحاد غرب أفريقيا الاقتصادي والنقدي وغيرها... وبصفتها عضوا في مجموعة البريكس (البرازيل، روسيا، الهند الصين وجنوب أفريقيا)، ترى روسيا نفسها قائدا وملهما لمسار بديل لأفريقيا عن المسار التقليدي للقوى الاستعمارية السابقة، حيث قالت إنه يمكن لدول أفريقية أخرى الانضمام إلى المجموعة (كما هو معلوم فإن المجموعة بداية كانت تسمى «بريك» نسبة إلى الحروف الأولى من البلدان الأربعة قبل انضمام جنوب أفريقيا). وقد تكون روسيا مرحبا بها من طرف قادة الدول الأفريقية، باعتبارها قد تحميهم من انقلابات ما يسمى «الثورات الملونة»، خاصة بعد وقوفها إلى جانب سوريا ومنع إسقاط النظام بتدخلها العسكري بداية من 2015، والذي قلب موازين القوى ومنع الغرب من تنفيذ مخططه. وأرسلت بالتزامن مع هذا مستشارين سياسيين إلى عدد من الدول الأفريقية، مثل الكونغو الديمقراطي، السودان ومدغشقر، ظاهريا بهدف تقديم خبراتهم في رسم السياسات العامة، لكن ضامر تحسين مكانتها في تلك الدول؛ بمعنى أنها تقدم خدماتها بمقابل.
يمكن القول إن هذا التوجه الروسي نحو القارة الأفريقية يدخل في إطار إرهاصات التحول إلى نظام دولي متعدد الأقطاب، يكسر تحكمَ الغرب الأحادي في القرارات العالمية. لكن يبدو أن القدرات الروسية ووصولها المتأخر جدا إلى أفريقيا لا يشيران إلى رغبة هذه الأخيرة إلى العودة بالقوة التي كانت عليها في الحقبة السوفييتية عسكريا، ولكن ربما هو مجرد رغبة في التواجد في هذا السوق الواعد، والوصول إلى ثروات القارة، باعتبار أن أفريقيا أرض خصبة. وسيكون مرحبا بروسيا التي يرى قادة أفارقة، أنها طوق نجاة لهم ضد ما يعرف بالثورات الملونة. وستحاول هي الأخرى الاستثمار في هذا العنصر من خلال إعطاء الدول الأفريقية حلولا بديلة عن تلك التي قدمتها الدول الغربية.