طباعة هذه الصفحة

الذاكرة وسيّدة الأغنية البدوية بقار حدة

صوت حفّز على الجهاد وحمّس لخدمة الأرض

النعامة: سعيدي محمد امين

تعدّ الاغنية البدوية من التراث الثقافي يتبنى الموضوعية والصدق مما دفع بجميع دول العالم الى الافتخار به، وفي الجزائر تذكرنا الاغنية البدوية بالأصالة والتراث، والظروف القاسية التي كان يعيشها أسلافنا.

من بين رواد هذه الأغنية نجد في الذاكرة الشعبية، مطربة الآباء والأجداد التي كانت الحافز السيكولوجي والمعنوي لبواسل الثورة في الجبال، المداشر، الصحاري.. تحمسّهم بأغانيها، تخشى على جنود ثورة التحرير أكثر من خوفها على نفسها، تصول وتجول في وهاد وروابي القاعدة الشرقية متحدية خطي شارل وموريس الخطيرين من ولاية تبسة مرورا بواد ملاق وعبرة دائرة المهارنة أو ما يسمونها آنذاك بالمعتقل رقم 28 الى سوق أهراس فقالمة ثم عنابة، تبكي لجروح الشهداء وتحذرهم من غدر العدو الغاشم المتربص بخطى الثوار.. كما كانت أغانيها تزيد الفلاح حماسا ورادة، وتجعله يخدم الأرض بدون هوادة، ورغم كبر سنها إلا أنها كانت لا تزال شابة عصرها بأفكارها، عاداتها، تقاليدها وأغانيها الشهيرة، أنها مطربة الوراس الاشم بقار حدة.
بقار حدة هي إحدى بنات القاعدة الشرقية ولدت بمنطقة الدريعة إحدى البلديات التي صمدت إبان حرب التحرير في 21 جوان 1921، توفي والدها قبل مولدها فترعرعت في كنف والدتها رفقة 4 اخوة و3 اخوات، لتنتقل بعدها الى سوق اهراس رفقة عائلتها قصد الاقامة عند أخيها الأكبر. تعلمت الغناء بدون أن تعرف للسولفاج معنى فكان الغناء بالنسبة لها موهبة غذاه صوتها العذب والقوي الذي غلب عليه الطابع الجبلي المتأصل، فأحبت الفن وساعدها كثيرا الجو الفني العائلي الذي تعيش فيه إثر مرافقتها لوالدتها، إلا أن الظروف الصعبة التي مرت بها وهي طفلة وقفت في طريقها لأن العادات والتقاليد كانت جد صارمة في الشرق الجزائري ولا مكان فيها للنقاش. فزوجوها وعمرها 12 سنة ولم تبقى مع زوجها إلا 20 يوما لتعود الى بيت اهلها لأنها لم تتحمل القساوة المسلطة عليها من طرف الزوج، بعدها زوجها اخوها لصديقه فبقيت معه 12 سنة لتعود الى بيت أهلها من جديد بعدما طلقها زوجها الثاني لأنها لم تنجب له. ومن طليقها الى الأعراس مباشرة حيث اصبحت ترافق والدتها، تغني رفقتها وتساعدها حتى تعيل اخوتها ومن هنا دخلت قطار الفن من الباب الواسع وتجعل من الأغنية مهنة دائمة لها، وبعد وفاة والدتها اخذت مكانها، بل أصبحت تغني مع الرجال رغم أن أمها كانت ترفض في حياتها أن تغني معهم، ولما علم اخوها الذي تعيش معه انها تغني مع القصابة رفض ذلك وضربها فحاولت افهامه بأنه يجب ان تعيل نفسها وإخوتها لأنه يعيل أولاده ولا تريد ان تثقل كاهله، إلا أنه لم يتفهم الوضع وأصر على رأيه مما دفع بها للخروج من البيت.
 وفي سنة 1946 تعرفت على شخصية بارزة آنذاك بالناحية، أنه القصاب ابراهيم بن دباش الذي عمل على تكوين فنانين ورافقهم في مشوارهم الفني من بينهم: الشيخ بورقعة، عيسى الجرموني، البار عمر، علي الخنشلي.. وغيرهم، ابراهيم بن دباش الذي ترعرع في اسرة فنية ابدع كثيرا في الة «القصبة» وبعد ان التقيا ثلاث او اربع مرات في الاعراس اعجب بصوتها فأصبح يتعامل معها فنيا وذات مرة اتجها معا الى عنابة وهناك رفض الجمهور ان تغني لهم امرأة الا اذا كانت متزوجة، فكانت هذه الحادثة سببا لتقدم ابراهيم بن دباش الى شقيقها طالبا يدها منه فتزوجا وعاشا حياة سعيدة محت كل صور البؤس والشقاء التي عاشتها من قبل، فواصلت معه رحلتها الفنية فأمتعا الجمهور كثيرا في الشرق الجزائري خاصة وكل ربوع الوطن عامة، كما احيت عدة حفلات بكل الدول المغاربية وكذا الجالية الجزائرية المتواجدة بالمهجر خاصة فرنسا، وكان ابراهيم بن دباش يرفض ان تنزع زوجته العجار وتغني لكي لا ينكشف وجهها للرجال اثناء جولاتها الى فرنسا.

«دمو سايح بين الويدان» عرفان للثوار
لم تكن بقار حدة بحاجة الى من يكتب لها الاغاني لأنها كانت تعتمد أكثر في عملها الفني على التسجيل في الذاكرة، والسبب في ذلك ان المحيط آنذاك كان ملائما بشعرائه، فجل اغانيها ان لم نقل كلها عبارة عن مقتطفات من مختلف القصائد، خاصة وأنها تأثرت في حياتها الفنية بمجموعة من المطربين: ك محمد البياض، الشيخ بورقعة، ابراهيم العموشي، فريد الأطرش، ام كلثوم وغيرهم من فناني عصرها، ورغم حب جمهورها لها ولأغانيها فهي ترفض الإفصاح عن ترتيب اغانيها حسب درجة الاولوية بالنسبة للاستمتاع ولكن حسب المقربين إليها فإن اغنية: «ارواح يا شايب ارواح» التي غناها قبلها عيسى الجرموني جد محبّبة إليها (حسب بعض وسائل الاعلام الجزائرية)، اضافة الى بعض الأغاني ذات الصلة بالروح الوطنية كأغنية:
«سمحيلي يالميمة» التي تدل في محتواها على التحاق شابين بعالم النضال والجهاد إبان الثورة التحريرية المجيدة، الشيء الذي جعل المطربة بقار حدة  تغني لمجاهدي «جبل بني صالح» بناحية سوق اهراس، هذه الاغنية التي دخلت قلوب جميع الوطنيين، اذ اعتبرت آنذاك بمثابة رمز وشعاع الدفاع عن الجزائر من أجل استقلالها وهي التي رحلت الى العدو في عقر داره لتدوي بصوتها الرنان في دور الاسطوانات المترامية هنا وهناك بالتراب الفرنسي وهذا حتى تقول للعدو: ارحل عنا حتى ننعم بالحرية والسلام، كما ان اغلب اغانيها كانت للثورة كأغنية «الجندي».. وغيرها. حتى تشحذ الهمم في نفوس جيوشنا الى جانب مرافقتها لهم في الجبال، والأكثر من هذا حسب ما صرّح به احد المجاهدين لإحدى المجلات الفنية أنه وأثناء التحضير لمعركة «ويلان» بمنطقة الشفارية  وقصد أخذ معلومات دقيقة عن العدو وفي حفلة احيتها الفنانة بقار حدة ومخافة منها من أن يقع المجاهدون في أيدي العدو واعطتهم «ملايات» سوداء خاصة بالنسوة في الشرق حتى يتستروا بها لدخول هذا الحفل لأخذ معلومات عن العدو وقد نجحت العملية بعدها، كما غنّت بعض الأغاني العاطفية كأغنية: «دمو سايح بين الويدان» التي تحوّلت فيما بعد الى اغنية وطنية.

بملاءتها السوداء وعجارها الأبيض
 كان ابراهيم بن دباش مرحلة مهمة في حياة الفنانة بقار حدة فكان بمثابة زورق النجاة الذي بعثه الله اليها لينقذها من كل انواع الذل والهوان، إلا ان هذا الزورق جاءت نهايته، حيث اصيب بمرض مزمن فلم تدخر جهدا في معالجته، حيث اخذته الى فرنسا عند ابنته ولما عادت به إلى ارض الوطن جاء اجله ورحل ليتركها وحيدة ذليلة، بعد ان كانت عزيزة مكرمة في حياته وهو الذي كان يخاف ويغار عليها من كل شيء حتى انه كان يرفض ان تسجل أغانيها للإذاعة والتلفزيون فكانت تحترم رأيه..
 بملاءتها السوداء وعجارها الأبيض ترافقها موسيقى حزينة تعزفها لها أشجار الزيتون والصفصاف تردد صداها الجبال. تشق بقار حدة طريقها بخطوات مثقلة متعبة من الرحيل المتجدّد الاشكال والألوان، لكن كله يؤدي الى المقبرة ـ تتكئ على قبر زوجها ابراهيم بن دباش ـ تناجيه ـ تبكيه في صمت، تحكي له تفاصيل جحود الزمن وهجرة الخلان. تحكي له وحده لأنه الرجل العظيم الذي انقذها من براثين الذل وأقبية الهوان وتسلط أقرب المقربين إليها وطول لسان الناس الذين يلوكون سيرتها وكأنها لبان، رحل ابراهيم وبقيت بعده وحيدة تجرّ خطواتها المرهقة، أرهقها طول العمر ويرهقها الطريق الذي تسلكه وتدميها الأشواك التي تشكل سياجا حول دروبها.
هذه هي حياه المطربة الكبيرة صاحبة الصوت القوي التي كان صوتها ينطلق عبر الفيافي، وهي أول امرأة غنت امام الرجال. لقد كانت امرأة جميلة جدا بالجبة القسنطينية وهي التي غنت «يا طيري لخضر، هكذا قالوا، يا خالي..» غنت لرجال الثورة التحريرية المجيدة وحفّزتهم على الجهاد، وأوصلت صوت الجزائريين الى الفرنسيين أنفسهم في عقر دارهم، وكانت مقاهي مدن الشرق الجزائري لا تخلو من صوت بقار حدة وقصبة براهيم بن دباش في كل مكان تسمع صوتها مدويا فاسحا المجال للأمل رغم شح الزمان، واليوم اضمحل الصوت وانزوت صاحبته جانبا، وتركت المجال لأغان وأصوات أخرى، وبقيت تسير في ظلمات الطريق.

كانت بحاجة إلى مأوى يقيها
تقدّم السن ببقار حدة جعلها تقاطع الفن، وتبتعد عنه ولكن من الصعب جدا بل من المأساوي ان يتحول الهرم الى حطام، والهزاز الى خراب ونبرات صوت دافئ طروب الى خامات بكاء حزين متحسر عبوس. تلكم هي الحالة المزرية التي تعانيها المطربة البدوية الاصيلة ذات الصوت الجوهري بعد سخاء ثقافي وثوري دام السنين الطوال، فهي تعاني جميع المحن: المرض ـ الفقر ـ التشرد ـ الوحدة ببيتها بل حجرتها المتواضعة بمدينة عنابة، هذه العجوز التي شوهدت سنة 1994 وهي تتقدم الى البنك قصد رهن ذهبها من أجل مواصلة العيش بعدما أوصدت امامها كل ابواب الدخل. وهكذا كان مصير هذه الذاكرة الشعبية التي ابدعت في تفجير صوتها رفقة القصبة والبندير وهي التي غنت للرجال الملاح ولثورة والمجاهدين. هذه الفنانة التي احيت افراح مسؤولين كبار منها من دامت اسبوعا كاملا، شوهدت كذلك متشردة بمدينة عنابة تتسول في الشوارع لعل المارة يتصدقون عليها ببعض الدنانير تقتات منها لتغلق جوارح الجوع بينما لياليها فتقضيها في الشوارع سواء كان الطقس حارا ام باردا.
دروبها حزينة وعرة، إلا أنها مازالت تعيش أيامها املة راجية ان يقضي الله امرا كان مفعولا، خريطة من التجاعيد مرسومة على وجهها، ذهب جمالها وأيام شبابها وبقي صوتها رغم خفته مدويا خارقا يشق عنان السماء.
  بقار حدة عندما استضافتها اذاعة عنابة المحلية سنة 1997 في اليوم العالمي للمرأة المصادف للثامن مارس بدأت تتحسر وتتوجع، املة ان تحصل على مسكن لآلامها التي طالت اقراحها. تصرخ عالية.. تختنق وتصيح خاصة عندما تسمع اغانيها تردد من طرف فنانات بالجزائر وبالخارج دون ان تتحصل على اي دينار، فهي كانت بحاجة الى مأوى يأويها ويقيها حرارة الشمس والبرد القارس، ومظاهر الفاقة بل على غرفة واحدة بإحدى المستشفيات او دور العجزة على الاقل تجد من يتكفل بها فلا مجيب.

باعت كل أثاثها البسيط
الفنانة بقار حدة باعت كل أثاثها البسيط وما تملك من حلي حتى تأكل وتقاوم حياة الفقر التي فتحت عينيها عليها، الى ان فارقت الحياة وحيدة في غرفتها الصغيرة في سبتمبر   2000  ولم يكتشف جيرانها وفاتها إلا بعد مرور عدة أيام، حيث اكد بعضهم أنها توفيت بسبب المرض والجوع. لترحل عن هذا العالم فقيرة مثلما ولدت فقيرة ، رحلت بقَّار حَدَّة
وتركت إرثا فنيا لا يُقدَّر بثمن، أثْرت به المخزون الثقافي والفني الجزائري بمئات الأغاني البدوية الشاوية الاصيلة. وتكريما لروحها ولإعادة الاعتبار لها بعد وفاتها، أعاد عدد من الفنانين الجزائريين أغاني بقَّار حَدَّة، من بينهم الشابة يمينة، سليمان القالمي، حورية عايشي، إسماعيل القطاري، وغيرهم.
كما اعادت سيدة المسرح الجزائرية الفنانة الراحلة مكيو سكينة المعروفة باسم «صونيا» الاعتبار للفنانة الراحلة بقَّار حَدَّة، من خلال مسرحية أخرجتها، وأرادت من ورائها تكريم الفنانة وإعادة الاعتبار لها. وهي مسرحية «حدَّة يا حدَّة» التي ألفها الكاتب جلال خشاب، سلطت الضوء على نضال هذه الفنانة في حياتها، وسعيها لتحقيق حلمها بأن تكون أيقونة للغناء البدوي الشاوي في الجزائر. مسرحية جسّدت حياة بقار حدة من طفولتها الى نجوميتها فتشردها ورحيلها.