طباعة هذه الصفحة

أول زاوية من حيث التأسيس في العالم

الزاوية التجانية بڤمار..شعاع لا ينطفئ

ريبورتاج: سفيان حشيفة

 ساهمت في الحفاظ على المرجعية الدينية الوطنية

تُعد الزاوية التجانية بڤمار في ولاية الوادي صرحا هاماً للعلم والعلماء، وشعاعا ثقافيا وحضاريا لا ينطفئ بمرور الأزمنة، ساهمت في تربية أجيال متعاقبة من الطلاب والنخب عبر قرون خلت، ولا تزال بعطائها الجميل تبث الإحسان والمعرفة وسماحة الدين في الأوساط المجتمعية.

الزاوية التجانية بڤمار على غرار دورها القرآني والحضاري القويم، أسهمت على مدار قرون في ترسيخ مبادئ الوطنية والمواطنة وتعزيزهما في المجتمع، كما حافظت على المرجعية الدينية الرسمية، وتقوية الجبهة الداخلية وتحقيق مناعتها، رغم تمدد تيارات فكرية خارجية منذ ثمانينيات القرن الماضي.
كما كان للزاوية دورا تربويا تمثل في بناء أجيال على الأخلاق الحميدة، والمعرفة وحب الأوطان، وحمايتها من الآفات الإجتماعية، وانحرافات السلوك الإجتماعي، معززة بنهجها القويم وعملها الإيجابي المتواصل من  تماسك الوحدة الوطنية.

أوّل زاوية في العالم

قال الباحث ‘‘السعيد عقبة’’ أستاذ التاريخ بجامعة الوادي، في لقاء مع ‘‘الشعب ويكاند’’، بأن الزاوية التجانية بقمار تعتبر إحدى أهم زوايا الطريقة التجانية في العالم، وتُعد أول زاوية من حيث التأسيس، حيث أمر الشيخ سيدي أحمد التجاني المُقدم سيدي محمد الساسي القماري بتأسيسها سنة (1789م/1204هـ)، وبنيت على القواعد التي خطها سيدي محمود التونسي 9م x9م أي بمساحة81م²، فكانت تؤدى فيها الصلوات الخمس والأذكار الجماعية وقراءة القرآن الكريم.
وشهدت الزاوية التجانية بڤمار توسيعات كبيرة ومتعددة، بفضل أبناء الخليفة الأعظم الشيخ سيدي الحاج علي التماسيني، والتي اسْتَهلّهَا نجله الخليفة الشيخ سيدي محمد العيد الأول (1815-1875م) الذي قام بالتوسعة الأولى للزاوية، وذلك بتأسيسه لمسجد الزاوية المعروف ‘‘بمسجد سيدي أحمد عمار’’، وبجانبه المقر الاجتماعي في طابق علوي هو الأول من نوعه في منطقة سوف، ثم توالت التوسيعات بالزاوية بعد ذلك والتي قام بها كل من الخليفة الشيخ سيدي محمد حمة (1844-1912م) الخليفة الرابع للإمام التماسيني، والذي أسس مقراً جديداً للزاوية مدخله الدار الخضراء، وقام ابن عمّه سيدي محمد العروسي بن الخليفة الشيخ سيدي محمد الصغير (1852-1920م) بتأسيس مجمعاً عمرانياً لاستقبال الضيوف زينه بقبة هرمية الشكل، وبالعديد من الزخارف والنقوش البديعة والملونة، أما أخاه سيدي العيد (1865-1921م)، فقام هو الآخر بتشييد منزل كبير مخصص للتدريس بجانب المجمع الذي أنجزه أخوه سيدي محمد العروسي والذي يعرف ‘‘بحوش أسيادنا.
وتشهد هذه الزاوية في الآونة الأخيرة ترميمات وأشغال تقوم بها السلطات الرسمية لإعادة تهيئة وترميم هذا الصرح الديني والثقافي الهام، حيث شارفت هذه العملية على الانتهاء.

التربية السليمة وتحصين الأجيال

أكد الباحث ‘‘السعيد عقبة’’ بأن الزاوية التجانية بڤمار، وباقي الزوايا والطرق الصوفية الأخرى منذ نشأتها ساهمت في تحصين الأجيال وحمايتها من الإنحرافات، وبث الوعي والتربية السليمة والصالحة على مدار عقود من الزمن، وذلك من خلال البرامج الهادفة التي تقدمها هذه المؤسسات الاجتماعية والثقافية الرائدة، كالحث على تعليم القرآن الكريم، وإنشاء المراكز الثقافية والمدارس القرآنية، وإقامة الدروس التوعوية في المساجد والفضاءات المختلفة التابعة للزاويا ونشر الوعي، والمساعدة في تحصين الأجيال الناشئة وتجنيبها الوقوع في الآفات التي تضر بالمجتمع، والعمل على كل ما يُعزز ثقافة لم الشمل وحب الوطن والتصدي لكل ما من شأنه أن يُهدد وحدة الأمة وبث الفُرقة والضغينة بين أفراد الوطن الواحد.

مقاومة الإستعمار

منذ أن وطأت أقدام المحتل الفرنسي سنة 1830م أرض الجزائر الطيبة، بدأت مقاومة الجزائريين لهذا المحتل الغاصب، وكان في طليعة المقاومين رجال الطرق الصوفية ومريديهم، حيث ساهمت الزاوية التجانية في وادي سوف في هذا الجهاد، وسجل التاريخ مشاركة الكثير من أبنائها في الثورة التحريرية الخالدة كالشهيد أحمد التجاني وأخوه المقدم امحمد التجاني نَجْلي المقدم سيدي العيد بن يامة، والمقدم سي العيد بن سي العروسي محمدي، والمقدم سي العروسي بن سيدي محمد بن فرج، والحاج خليفة الأرقط بحاسي خليفة، والسادة عبد الحميد التجاني ومحيي الدين يمبعي بزاوية تغزوت، وسيدي الصادق بلعروسي بزاوية ڤمار، الذي ألقت عليه سلطات الاحتلال الفرنسي القبض بفرنسا وسجنته أربع سنوات بعين وسارة.
كما ساهمت زوايا الطريقة التجانية عموما في الجزائر، بحسب الأستاذ ‘‘السعيد’’، في مقاومة الإستعمار، بدءًا بجهود الخليفة الشيخ سيدي محمد العيد الأول التماسيني شيخ الطريقة التجانية بتماسين، الذي ساهم في جلب السلاح وتموين ثوار منطقة تبسة بالذخيرة، والمقدم الكبير سيدي الطاهر بن بوطيبة التلمساني الذي عُرف بعدائه الشديد لفرنسا، وقاد مشروعا للثورة على الفرنسيين بتلمسان، فقررت السلطات الفرنسية المحتلة نفيه إلى جزيرة  «سان مرغريت etiruegraM etniaS»، وبعد عودته من المنفى واصل بن بوطيبة نشاطه المُعادي لفرنسا، وكان أشد تطرفا وعداوة للمستعمر من ذي قبل، كما تذكر ذلك المصادر التاريخية الفرنسية نفسها.
 وكذلك جهود الخليفة الشيخ سيدي أحمد عمار التجاني بزاوية عين ماضي، الذي تحالف مع أولاد سيدي الشيخ من أجل مقاومة المستعمر الفرنسي، وقدم لهم يد المساعدة وزودهم بالمؤونة والذخيرة، حتى تم القبض عليه يوم 10 فيفري 1869م، فسُجن بسجن سركاجي بالجزائر العاصمة لمدة عام كامل، ثم نُفي إلى فرنسا حيث تم سجنه في ثكنة عسكرية بمدينة بوردو سنة 1870.
وقد قامت السلطات الفرنسية، بحسب المتحدث، في إطار التضييق على العلماء والمدرسين ومنعهم من التدريس، بمضايقة العلامة عبد الحليم بن سماية مقدم الطريقة التجانية بالجزائر العاصمة جزاء معاداته للسياسة الفرنسية، والعلامة محمد حمدان الونيسي القسنطيني، الذي منعته السلطات الفرنسية من التدريس فاضطر للهجرة للمدينة المنورة. وعند اندلاع الثورة التحريرية المباركة سنة 1954م، أبلى التجانيون البلاء الحسن في المشاركة فيها ودعمها ماديا ومعنوياً، إذ يحفظ التاريخ جهود الخليفة الشيخ سيدي أحمد التجاني التماسيني (1898-1978م)، الذي كانت الزاوية في عهده ملاذاً آمناً للمجاهدين وكانوا يطلقون عليها «دار الأمان»، بالإضافة إلى دعمه الكبير للثورة التحريرية مادياً من مداخيل الزاوية السنوية من غلة النخيل والأراضي الفلاحية بتماسين وسدراته وتونس، فكانت الإعانات المقدمة للثورة بين 07 و12 مليون فرنك فرنسي سنوياً. إضافة إلى الموقف العظيم للشيخ سيدي أحمد التجاني التماسيني حين وقف سداً منيعاً أمام مشروع فصل الصحراء عن الجزائر، فكان من أشد المعارضين لهذا المشروع، وعمل على إسقاطه.
الكثير من أبناء الزاوية التجانية شاركوا أيضاً في الثورة التحريرية على سبيل المثال لا الحصر الخليفة الشيخ سيدي البشير بن الخليفة الشيخ سيدي العيد، وسيدي محمد الطيب التجاني وسيدي محمد الحافظ ابْنَي الخليفة الشيخ سيدي أحمد التجاني التماسيني، وسيدي محمد التجاني ‘‘سيدي حمة بن سيدي علي’’، وعبد الحميد التجاني، ومحيي الدين يمبعي بزاوية تغزوت، وسيدي الصادق بلعروسي بزاوية ڤمار، الذي ألقت عليه السلطات الفرنسية القبض بفرنسا وسجنته أربع سنوات بعين وسارة.
وبزاوية عين ماضي نجد الخليفة الشيخ سيدي عبد الجبار التجاني، وسيدي بن عمر الذي قام بدور كبير في دعم ومساندة الثورة التحريرية المباركة بعين ماضي فتعرض للاعتقال في شهر فيفري 1957م.
وأشار ‘‘عقبة’’ إلى أن الزاوية التجانية تعمل على التعريف بتاريخها وأهم أعلامها في هذا المجال، من خلال إحياء المناسبات التاريخية مثل ذكرى أول نوفمبر وعيد الاستقلال في مقار الزوايا، مع إقامة الملتقيات والأيام الدراسية وطبع المطويات والكتب التي تُعرّف بتاريخ الزاوية ورجالاتها في مجال الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر الخالدة، منوّها بالدور الكبير الذي يبذله المُكلفون بأرشيف الزاوية، من خلال إخراج الوثائق التاريخية الهامة ووضعها في خدمة الباحثين، والأساتذة الراغبين في الإطلاع على الموروث الحضاري للطريقة التجانية في مختلف الميادين.

تلاحم وتضامن اجتماعي

أوضح الأستاذ ‘‘السعيد عقبة’’ دور الزاوية التجانية وباقي الزوايا والطرق الصوفية في الجزائر منذ نشأتها، في المجال الاجتماعي، حيث كانت ولا تزال مقصدا للكثير من أبناء المجتمع خاصة أثناء النوائب والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، فكانت الزاوية ملاذا للفقراء والمساكين، وقبلة لحل خلافات المتخاصمين، ومحطة لعابري السبيل، ومراكز إشعاع حافظت على عادات وتقاليد المجتمع وأصالته، سيما أثناء الحقبة الاستعمارية، أين سعت السلطات الاستعمارية إلى محاولة طمس الشخصية والهوية الوطنية، منوّها أن زوايا الطريقة التجانية قامت بواجبها اتجاه المجتمع، وتمثلت الأدوار التي قامت بها زاوية قمار وزاوية تماسين في المجال الاجتماعي في حل الخلافات، وفك الخصومات بين المتخاصمين، ولا يزال هذا الدور الجليل قائما إلى يومنا هذا عملا بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة التي تدعو إلى إصلاح ذات البين، والتحكيم بين المتنازعين والمتخاصمين، وكذلك قضاء حوائج الناس ومساعدتهم بما أمكن، وإعانة الفقراء والمساكين والمحتاجين خاصة أيام القحط، وفي أوقات الشدة بإيواء هؤلاء المحتاجين ومساعدتهم ماديا وتوفير الطعام لهم، وكانت الوجبات التي تقدم للمحتاجين تسمى «بالنُوبَة»، وهي عبارة عن مساعدة غذائية تتكون عادة من خبز وتمر، وتُعطى خاصة في شهر رمضان، واستبدلت اليوم بما يعرف «قفة رمضان»، ولم تكتف الزاوية التماسينية بتقديم الإعانات المادية، بل تعدى ذلك إلى رعاية اليتامى والأرامل، والتكفل بجميع شؤونهم، والسعي إلى توفير الرعاية الصحية لهم وتعليمهم، ومساعدة الجمعيات التي تتكفل بهؤلاء الأيتام.
أما عن عصرنة النظام التعليمي والاجتماعي بالزاوية، قال الأستاذ عقبة، بأن ذلك يتجلى في الانفتاح على علوم العصر، كما يوصي دائما شيخ الزاوية الدكتور ‘‘سيدي محمد العيد التجاني التماسيني’’، إذ أن الاقتصار على التعليم التقليدي لم يعد كافيا ولهذا نجد فلسفة التجديد تعتمد على المحافظة على الموروث الروحي والثقافي مع الانفتاح على العالم الآخر من تعلم اللّغات، وتطوير المهارات أو ما يُعرف بالتنمية البشرية، ومسايرة المعارف الحديثة، حتى يُصبح الفرد التجاني مُلمّاً بعلوم عصره ومعارفه، صالحا لخدمة مجتمعه ووطنه.

المرجعية الوطنية في أمان

وأبرز الأستاذ ‘«السعيد عقبة’’ دور زوايا الطريقة التجانية في الحفاظ على المرجعية الوطنية من خلال بث العلم النافع، والحفاظ على الموروث الديني والثقافي الوطني ومساعدة المجتمع، فالزاوية، بحسبه، لطالما ساهمت في لعب دور المرشد والمدافع عن القيم السمحة للدين الإسلامي بتزكية النفس وبث روح التسامح، وثقافة العيش المشترك بين أفراد المجتمع الواحد، كما يقول شيخ الطريقة التجانية الحالي، الأستاذ الدكتور سيدي محمد العيد التجاني التماسيني: «رجال الطريقة التجانية رُسل محبة وسلام»، كما يتجلى ذلك في محافظة هذه الزوايا على الجانب الروحي للإسلام خاصة في هذا الزمن الذي طغت عليه المادة، وذلك من خلال حلقات الذكر، ودروس التوعية، وتزكية النفس، وإحياء المناسبات الدينية المختلفة كذكرى المولد النبوي الشريف.
الزاوية التجانية بڤمار على غرار باقي الزوايا في الجزائر كانت ولازالت وستبقى مضطلعة بدورها الديني والثقافي والاجتماعي والحضاري الريادي في حفظ مقومات الشخصية الوطنية، وتماسك المجتمع ووحدته، والمساهمة في بناء الشخصية المتزنة للأفراد، وتحصين الأجيال من الانسلاخ والذوبان في ثقافة الآخر.