طباعة هذه الصفحة

ذكرى الإعلان عن الحكومة الجزائرية المؤقتة:

من الدبلوماسية الثورية إلى دبلوماسية التأثير

تحيي الجزائر، اليوم، الذكرى الـ63 للإعلان عن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، يوم 19 سبتمبر 1958، وهي محطة تاريخية حاسمة ساهمت في إضفاء الشرعية على الثورة التحريرية وإيصال صوتها إلى العالم من خلال دبلوماسية «ثورية» اعتمدت على نهج استراتيجي حديث.
يأتي إحياء هذه الذكرى، في سياق يشهد عودة قوية للدبلوماسية الجزائرية التي تحولت إلى «دبلوماسية تأثير» تتميز بالنشاط المكثف والسرعة والفعالية في مسعى تعزيز دور الجزائر إقليميا ودوليا، من منطلق أن الجزائر تعتبر في نظر دول العالم «قوة إقليمية يكن لها كل التقدير»، حسبما أكد رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، في آخر لقاء مع ممثلي وسائل الاعلام الوطنية.
أوضح الرئيس تبون بذات المناسبة، أن الدبلوماسية الجزائرية استرجعت مؤخرا «مكانتها الحقيقية» بعد «التقهقر» الذي عرفته لعدة سنوات، مشيرا إلى أن المسؤولين الإفريقيين «اشتكوا غياب الجزائر وطالبوا بعودتها للقيام بالدور المنتظر منها».
ومن مميزات السياسة الوطنية للجزائر الجديدة، التركيز على «العمل الاستباقي» لتعزيز الدور الدبلوماسي و»النظرة الاستشرافية» في قراءة وفهم مختلف التطورات للتعامل معها بالأساليب اللازمة وفي الوقت الملائم، مثلما أفاد به وزير الاتصال عمار بلحيمر في حوار صحفي سابق، لفت فيه إلى أن هذا المسعى الجديد يندرج ضمن المحاور التي يعمل على تجسيدها المبعوثون الخاصون السبعة الذين عينهم رئيس الجمهورية مؤخرا وكلفهم بالنشاط الدولي للجزائر.
تحيين الأهداف والمهام
وفي ذات الإطار، التزمت الحكومة في مخطط عملها الذي صادق عليه المجلس الشعبي الوطني، الخميس الماضي، بتنفيذ التزامات رئيس الجمهورية الرامية إلى تحيين أهداف ومهام الدبلوماسية الجزائرية في إطار القيم والمبادئ الثابتة التي تقوم عليها، من أجل تعزيز دورها ونفوذها في الخارج.
وعلى هذا الأساس، تواصل الجزائر الدفاع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها والعمل على احترام سيادة الدول واستقلالها وسلامتها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية ودعم القضايا العادلة والمشروعة وحسن الجوار والتعاون والتسوية السلمية للنزاعات.
ولقيت السياسة الخارجية الجديدة للجزائر ومساعيها في حلحلة ملفات المنطقة على غرار الوضع في ليبيا ومالي وكذا ملف سد النهضة، ترحيبا دوليا، ترجمته تصريحات مسؤولي حكومات وهيئات دولية، حيث أشاد الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد ابو الغيط، بـ»الدور المحوري» الذي تلعبه الجزائر في مختلف الملفات الإقليمية والدولية، مثمنا الإجراءات الأخيرة التي اتخذها رئيس الجمهورية، لتفعيل دور الدبلوماسية الجزائرية.
ولم تحد هذه السياسة الجديدة، عن الخطوط العريضة للدبلوماسية الجزائرية المستمدة من القيم الوطنية والإنسانية التي حثت عليها مواثيق الثورة، وأهمها بيان أول نوفمبر 1954 ومؤتمر الصومام 1956.
وكانت الدبلوماسية التي قادتها الحكومة المؤقتة دبلوماسية «ثورية» تميزت بخصائص الدبلوماسية الحديثة، وسمحت بوضع رؤية واضحة وصياغة وتنفيذ السياسة الخارجية للجزائر المستقلة.
19 سبتمبر 1958..الدولة «تسترجع وجودها»
تأسست الحكومة المؤقتة تنفيذا لقرارات المجلس الوطني للثورة المتخذة في اجتماعه المنعقد بالقاهرة ما بين 20 و27 أوت 1957، حيث تم الإعلان عنها رسميا يوم 19 سبتمبر من السنة الموالية.
وفرضت الحكومة المؤقتة التي عرفت ثلاث تشكيلات من 1958 إلى 1962 برئاسة فرحات عباس ثم بن يوسف بن خدة، وجودها كممثل شرعي للشعب الجزائري في مفاوضات إيفيان التي أسفرت في الأخير عن التوقيع على اتفاقية وقت إطلاق النار في 19 مارس 1962 وبعدها الاستقلال.
وفي شهادة تاريخية للوزير السابق في الحكومة المؤقتة الراحل عبد الحميد مهري، أكد هذا الأخير أن الإعلان عن الحكومة المؤقتة جاء في سياق هام للغاية، بعد مرور أربع سنوات على اندلاع الثورة، ووقوع أحداث هامة في الجانب الفرنسي، مع عودة الجنرال ديغول إلى الحكم، معتبرا أن فكرة تأسيس حكومة مؤقتة كانت دائما واردة في الحركة الوطنية وهذا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وأوضح أنّ الترحاب الحار من الشعب الجزائري واعتراف العديد من الدول آنذاك بالحكومة المؤقتة يعني أن الدولة الجزائرية «استرجعت وجودها يوم 19 سبتمبر 1958»، وقال إن هذه الحكومة لعبت «دورا كبيرا» في الدبلوماسية من خلال التعريف بالقضية الجزائرية العادلة في مختلف المحافل الدولية.
إعلان التأسيس من ثلاث عواصم عربية
وحسب مؤرخين، فإن الحكومة المؤقتة قامت منذ تأسيسها بإيصال صوت الثورة التحريرية من خلال مشاركة العديد من أعضائها في المؤتمرات الدولية لاسيما منها الإفريقية والعربية والقيام بزيارات إلى دول شقيقة ومتعاطفة مع الثورة الجزائرية، حيث شاركت في المؤتمرات الدولية لأكرا (غانا) في ديسمبر 1958 ومونروفيا (ليبيريا) في أوت 1959 وتونس في جانفي 1960 وكذا مؤتمر الدار البيضاء (المغرب) في 1961.
وفي شهادة أخرى لوزير الإعلام الأسبق لمين بشيشي، أكد أن الحكومة التي تم الإعلان عن تأسيسها من ثلاث عواصم عربية في نفس الوقت هي القاهرة وتونس والمغرب، قد اعترفت بها أكثر من 30 دولة عربية وإفريقية وآسيوية وأمريكية، مشيرا إلى أن هذه الحكومة «لعبت دورا بارزا على المستوى الدولي حيث أبرمت العشرات من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية».
أفشلت مؤامرات فرنسا الاستعمارية
وكان أول عمل للحكومة المؤقتة هو التنديد يوم 20 سبتمبر 1958 في منظمة الأمم المتحدة بالاستفتاء الذي قرره الجنرال ديغول.
وتمثل رهان تأسيس الحكومة المؤقتة في تحديد النزاع بين دولتين متحاربتين وهما الجزائر وفرنسا مع إضفاء طابع الحرب على الثورة الجزائرية فتنطبق عليها بالتالي القواعد التي تمليها الاتفاقيات الدولية حول القانون وقت الحرب.
وأفشلت الحكومة المؤقتة المؤامرات التي حاكتها الدولة الفرنسية ودحضت الدعايات المغرضة التي روّجتها الإدارة الاستعمارية والتي مفادها أنه لا يوجد متحدث مقبول لإجراء مفاوضات من أجل السلام.
وجاء في البيان الرسمي لتأسيس الحكومة المؤقتة الذي قرأه رئيسها فرحات عباس: «إنّ الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية المنبثقة عن إرادة الشعب، شاعرة بكل مسؤولياتها، وإنها ستضطلع بها جميعا وأول هذه الواجبات أن تقود الشعب والجيش حتى يتحقق التحرر الوطني..».
وأضاف البيان أن «الشعب الجزائري شعب مسالم فهو لم يرفع سلاحه إلا مرغما من طرف الاستعماريين بعد أن استنفذ كل الوسائل السلمية لاسترجاع حريته واستقلاله» وأنّ «خرافة الجزائر الفرنسية وأسطورة الاندماج ما هي إلا ثمرات سياسة القوة والعنف»، وأكد أنّ «الجزائر ليست فرنسا وإن الشعب الجزائري ليس فرنسيا».