طباعة هذه الصفحة

ذاكرة مكان

عزّة جزائر حاول المستعمر طمسها باسم «الحضارة»  

عملت فرنسا بعد وأثناء احتلالها للجزائر على نشر فكرة أنّها صاحبة مشروع حضاري كبير في الجزائر، وأنّها جاءت لتستدرجنا من وحل التخلف والجهل إلى نور التّقدّم والتّحضّر، وهي الحجة التي لطالما تغنّى بها المستعمرون على مر التاريخ، ولكن الطامة الكبرى أن تجد هذه الفكرة قبولا لدى بعض الناس لدينا في ذلك الوقت، وحتى في زماننا الحاضر، لكن كيف كانت مدينة الجزائر العاصمة خلال الأيام التي سبقت الغزو الفرنسي.
كانت تُسمّى جزائر بني مزغنه، باسم القبيلة البربرية التي كانت تعمِّرها، ثم جزائر الثعالبة نسبة إلى قبيلة الثعالبة العربية التي التحقت بها منذ القرن 13م و14م، ليُختزَل اسمُها في «الجزائر» فقط، بمعنى: الجُزُر، ومن «الجزائر» استوحى الفرنسيّون اسم «آلْجي» بما يستسيغه لسانهم.
هذه المدينة العتيقة بُنيتْ في شكل مُدرَّج يطل على البحر وفق التقاليد المعمارية البونية القديمة، وقد أطلقت أثينا عاصمة اليونانيين على عاصمتنا حينذاك اسم «إيكوزيس»، وفي القرن 18م، خلال الفترة العثمانية من تاريخ الجزائر، كان يعيش في الجزائر العاصمة ما بين 100 ألف إلى 120 ألف نسمة، غالبيتهم من المسلمين، لكن أقام بينهم آلاف اليهود والنصارى بكل حرية، وقد جاء هؤلاء جميعا من مختلف البقاع والأصقاع، مسلمين وغير المسلمين.
كانت مدينة الجزائر توفّر الحظ لكل من لم يسعفه الحظ في بلاده أن يعيش حياة كريمة، إيطاليون، ألبانيون، أتراك، يونانيون...وغيرهم من الأقوام تداولوا بمقتضى هذا الانفتاح على حُكم البلاد، من بينهم: الرايس حُسين، الرايس حسان، قُورْصُو، آرْنَاؤُوطْ، وغيرهم.
كانت الجزائر تنعم بمرافق لم تتوفر في كبريات المدن المتوسطية والعالمية، فقد احتوت على 60 مقهى، على غرار أشهرها وهي القهوة الكبيرة والقهوة الصغيرة وقهوة بجاية وقهوة العريش. وشربت وارتوت من عدد مماثل أو أكبر من العيون والنافورات العمومية، فضلا عن تلك المتواجدة في الديار والقصور، وكانت تستحم في 33 حمّاما، في فترة لم يكن يعرف خلالها ملوكٌ أوروبا ما معنى المرحاض، وكانت تنام مطمئنة بجنودها الـ 12 ألف الساهرين على أمنها في 8 ثكنات...
كما عبدت المدينة الله في أكثر من 120 جامعا ومسجد وعشرات الزوايا والأضرحة، وأيضا في الكنائس والبِيَع اليهودية، وتَعلَّم أبناء أهل الحاضرة القراءة والكتابة والعلوم في المدارس والزوايا وباحات المساجد والمِدْرَاشْ، بالنسبة لليهود، وطالعوا المخطوطات في المكتبات والورّاقات في حيّ القَيْصرية الذي كان يؤمّه المثقفون والطلبة والعلماء.
وكان في المدينة أسواق شاع ذِكْرُها في البحر المتوسط تمتد من باب عزون إلى باب الوادي، فضلا عن الأسواق الصغيرة الجِوارية في مختلف الحوْمات على غرار حوانيت سيدي عبد الله أسفل حوْمة سيدي محمد الشريف وحوانيت بن رابحة في سور السّْطارة...
وفي قلب «البهجة»، كما كان يُطلق على المدينة، انتشرتْ الفنادق والمخازن بملاهيها وطَبَرْنَاتِها للترفيه عن المسافرين والتجار وعابري السبيل متعددي الجنسيات...
أمّا خارج أسوار المدينة، فقد تعدّدت الجنان والبساتين المحيطة بالقصور والفيلات؛ من حيّْ الثغريين في مرتفعات المدينة إلى بوزريعة، ومن باب الوادي إلى مرسى الذبان، لا بوانت يسكاد حاليا، وأيضا من جنان مصطفى باشا الممتد عبْر ساحة أول ماي وتيليملي إلى حيدرة وبئر مراد الرايس وبئر الخادم....
هكذا كانت الجزائر عبر حقبها المختلفة وقرونها المتوالية يهتم أبناءها وبناتها بطلب العلم والمعرفة، ونلاحظ أنه حتى النساء والصبيات كنَّ نِلْنَ نصيباً وافراً من العلم في وقت كانت أوروبا يغرق شبابها ونساءها في ظلمات الجهل ولا يعرفون النظافة أو استعمال المرحاض.
هكذا كانت الجزائر في أيام عزها...أقولها للذين لا يعرفونها ولا يشاهدونها إلا بأعين الذين دمَّروا ثلثيها (2/3) خلال الأعوام الأولى للاحتلال الفرنسي بدعوى نشر الحضارة التي كانوا هم أحوج إليها.