طباعة هذه الصفحة

شهـادات لمصابات بسرطـان الثـدي

مع المعانـاة يخرجـن مـن المعركة منتصـرات

فتيحة كلواز

المرافقة النفسية ضرورة لمواجهة النظرة الدونية

 في كثير من الأحيان يختصر الشهر الوردي معاناة من أصبن بسرطان الثدي لتكون مجرد إحصائيات تختزلها أعداد سنوية ترتفع في كل مرة يتم الإعلان عنها، ومع أواخر أيام أكتوبر الجاري تُجمع الحقائب وتُغلق القاعات وتوضب الخزائن، في انتظار سنة أخرى قادمة يُعاد في شهرها العاشر إطلاق حملات تحسيس وتوعية عجزت عن الخروج من «المناسباتية».
سيدات عايشنّ المرض ليس كمناسبة عالمية ارتبطت ارتباطا وثيقا باللون الوردي لون الحياة والفرح، بل عشنّ تفاصيله دقائق وساعات وأيام وسنوات، فقدنّ خلالها الكثير من معاني الحياة التي طالما آمنّ بها، انهار أمام أعينهنّ أبطال ظننّ أن تماثيلهم لن تسقط يوما، ليجدنّ في غضون ذلك، حياتهنّ معلقة بمشرط صغير سيُفقدهنّ عند دخولهنّ غرفة العمليات عضويتهنّ الاجتماعية لاستئصال «أنوثتهنّ» على طاولة الجراحة، و»تنقل «الشعب» تفاصيل تجاربهن.  
مفاجأة صادمة  
«لن أسميها رحلة كفاح ولا نضال، بل هي رحلة صمود وقفت فيها أمام نفسي والمجتمع لأقول لهما لا لن يكون «الثدي» المستأصل حجة لإسقاط أسمي من العضوية الاجتماعية ولو أنها استقالة أمضاها مشرط جارح من كل أدواري كزوجة أو أم أو امرأة.»، هو تصريح سعيدة واحدة ممن وجدن أنفسهن بعد سن الخمسين على طاولة الجراحة لاستئصال الورم الخبيث، بعد سنة واحدة من زواجها برجل وافقت عليه فقط هروبا من وسم «بايرة».
 «كنت أصغر إخوتي، ادرِّس اللّغة الفرنسية في إحدى الابتدائيات بالجزائر العاصمة، بعد وفاة والداي وزواج إخوتي الخمسة وأخواتي الثلاث أرغمت على البقاء مع أختي الأرملة لأن بيت العائلة لم يعد يتحمل وجودي بسبب زوجات إخوتي، وبالفعل بقيت مع أختي وأبنائها لسنوات طويلة، لكن وبعد أن طلب مني ابنها الخروج من المنزل بسبب رغبته في الزواج وجدت نفسي اقترب خطوة إلى الشارع، لذلك قبلت بالارتباط برجل كنت أرفضه منذ سنوات، فقد كنت أراه غير مناسبا لي خاصة وأنه بسيط جدا.»  
تواصل سعيدة حديثها الى «الشعب» قائلة: «بعد سنة واحدة من زواجي وبمناسبة الشهر الوردي قدمت إحدى العيادات الخاصة عرضا مغريا بإجراء أشعة «الماموغرافي» مجانا للنساء، ما جعلني أنتهز الفرصة وأذهب لإجرائه لأطمئن على نفسي فقط، لكن الأمر لم يكن بتلك البساطة، فبعد إجرائه كشفت صور الأشعة السينية وجود كتلة تحت الإبط الأيسر، ما استدعى إجرائي المزيد من التحاليل التي أكدت شكوك الطبيبة في إصابتي بسرطان الثدي.»
في تلك اللحظة لم تفكر سعيدة في شيء شعرت وكأن الزمن توقف في مكانه لم تستطع الوقوف بسبب الخبر الصاعقة الذي نزل عليها، خاصة وان الطبيبة المختصة لم تمهلها الوقت الكافي لاستيعاب حقيقة إصابتها، فبدأت في لومها عن إهمالها ولا مبالاتها وعدم إجرائها الفحص المبكر الذي كان سيمنع خضوعها للجراحة واستئصال الثدي.
وهنا قالت سعيدة «عندما أخبرتني الطبيبة بضرورة استئصال الثدي خفت ورفضت الأمر تماما، بل بدأت في الصراخ والبكاء، أصبت بانهيار عصبي استدعى حقني بمهدئ، لتبدأ رحلتي مع داء كنت اعتبر نفسي غير معنية بآلامه وأحزانه، ارتبط في مخيلتي باللون الوردي الذي جعل شعاره بالرغم من أنهما متناقضان، لأنه لا يعبر عن حقيقة السواد الذي يكتسح حياة المصابة به.»
كانت أكبر مفاجئات المرض، موقف زوجي الذي تزوجته مرغمة، فقد قال كلمات صدمتني عندما أخبرته الطبيبة بتفاصيل حالتي الصحية، «أنا هنا لمساعدتك» هي أول كلمات رددها، «كنت في حيرة كبيرة فهو رجل بسيط جدا حياته محصورة وضيقة على اهتمامات حياتية عادية جدا بعيدة عن كل البروتوكولات. استطاعت تلك الكلمات إعطائي جرعة جديدة من الأمل لأقف من جديد، لكنه طلب مني في المقابل، ألا أخبر أحدا حتى لا نقع في صدامات مع المحيط، لأن والدته كانت ستجدها حجة قوية لتطليقي وإخراجي من حياته حتى تزوجه بأخرى تراها أنسب لابنها.»
اعتبرت سعيدة جلسات العلاج الكيميائي أصعب مرحلة في رحلة العلاج، لأنها تنهك الجسم بسبب الآثار الجانبية للعلاج، وكذا سقوط الشعر والحواجب، وهي علامات أوقعتها في حيرة كبيرة، لأنها علامات صريحة على إصابتها، لكن زوجها وقف إلى جانبها وجعلها تخضع لعملية ترميم الثدي بتركيب آخر من السيليكون، إلى جانب وضع شعر اصطناعي يشبه شعرها الأصلي، ما أعاد لها مظهرها الجميل وأخفى أهم ما تخافه النساء من المرض.
بعد شفائها من المرض، استطاعت سعيدة أن تجد داخلها امرأة جديدة فلم تعتقد يوما أنها تستطيع أن تكون بتلك القوة والشجاعة لمواجهة سرطان الثدي و»سرطان» النظرة الدونية للمجتمع للنساء المصابات، كما أعطاها الداء فرصة اكتشاف زوج أبان المرض أنه غني بخصال نادرة في هذا الزمان.
«منتهية الصلاحية»..
عانت سهيلة من سرطان الثدي، بالرغم من أنها لا تتجاوز العقد الثالث، حيث وجدت نفسها بعد زواج دام أربع سنوات في بيت أهلها، لأن زوجها رفض رفضا قاطعا التكفل بعلاجها ومواساتها والوقوف الى جانبها، لأنه يعتبر نفسه زوجا متضررا، والسبب إصابة زوجته بسرطان الثدي الذي استدعى استئصال ثديها وخضوعها لجلسات العلاج الكيميائي.
«يصف نفسه بالمتضرر لأن عائلة سهيلة زوَّجته «امراة» اتضح أنها غير صالحة للاستعمال بعد أربع سنوات من الزواج»، هي كلمات قاسية لخصت معاناة سهيلة التي عادت منكسرة الى بيت أهلها في القبة، وهي تحمل أثقال المرض وآثار صدمة كبيرة كانت عبارة عن رد فعل قوي لما فعله زوجها معها.
كان عليها تجاوز الصدمة النفسية المزدوجة حتى تستطيع احتمال آلام العلاج من سرطان الثدي، حيث قالت سهيلة: «لم أكن لأصدق ان زوجي يفعل بي هذا وأنا في أمس الحاجة إليه، طردني من حياته وكأنني مجرد سلعة انتهت مدة صلاحيتها، بالرغم من أنه السبب في ذهابي الى الطبيب للكشف عن كتلة صلبة أحسست بوجودها تحت إبطي، كان الخبر بالنسبة لي قاسيا ولكن تأكدي المطلق من دعم زوجي لي جعلني أصبر وأصابر حتى وصلني الخبر اليقين، فقد طردني وطلقني وطلب من أهلي عدم الاتصال به، لأن «سلعتهم» غير صالحة للاستعمال.»
«كان علي هضم واستيعاب ما حدث حتى أستطيع تجاوز المرحلة، احتاج والدي الى طبيب نفسي رافقني طوال مدة علاجي لأتمكن في الأخير من الشفاء من المرض بفضلهما فقد منحاني قوّة ودعما لا يمكن لغيرهما منحي إياه، تمكنا من إعادة الحياة الى جسدي الذي «انتحر» نفسيا بعد رد الفعل القاسي لزوجي، استطاعا ان يخرجاني من حالة الاكتئاب بالرغم من رفضي وحزني، إلا أنهما أشعلا داخلي بصيص أمل في غد أفضل، وبالفعل اليوم أقف من جديد لأعطي غيري من النساء المصابات قوّة إيجابية لتجاوز المرض، فالعمل التطوعي ومشاركتي في الحملات التحسيسية أصبحا أهم ما أفعله طوال شهر أكتوبر.»
 في هذا الصدد، ذكرت سهيلة بضرورة إعطاء المصابات دعما نفسيا كبيرا من أجل تجاوز شعورهن بالدونية وانتقاص أنوثتهن بسبب استئصال «مميزات» المرأة الجمالية.
عكس ما توّقعته
شهيرة أصيبت بسرطان الثدي، وهي لم تتجاوز الـ 25 سنة، كان «أمرا جللا فقد كانت «وصمة عار» اجتماعية ستكون سببا في عنوستها وبقائها بلا عائلة ولا زوج طوال حياتها»، هذه الكلمات بقيت محفورة داخلها، لأنها أول ما قالته والدتها بعد أن أكدت التحاليل الطبية إصابتها بهذا الداء.
«أنتمي الى مجتمع ريفي محافظ ما تزال المرأة داخله تحت سيطرة الرجل في كل تفاصيل حياتها، سواء كان أبا أو أخا، لذلك كانت مواصلة دراساتي الأكاديمية وسيلة للتخلص من الضوابط المتشددة لعائلتي، لذلك كان سرطان الثدي بالنسبة لي مرادفا للموت، فاعتقدت أن والدي سيحبسني في البيت في انتظار الأجل، لأنه لن يستطيع التنقل بصفة دائمة الى العاصمة للعلاج، لكن الأمر كان مغايرا تماما لأنه فعل المستحيل من أجل شفائي وعودتي الى الحياة الطبيعية.»
«كان والدي وكل ما فعله من أجلي سببا أساسيا في تجاوزي محنتي وتمسكي بالأمل والحياة، فقد باع جزءا من أرضه واشترى شقة في أحد الأحياء القريبة من مستشفى مصطفى باشا الجامعي، وانتقلنا للعيش فيه فقط لأستطيع الخضوع إلى العلاج بصفة طبيعية، قلب حياته رأسا على عقب، فقط من أجلي، كان الأمر بالنسبة لي مفاجأة لم أتوقعها، لأنه أب حازم وشديد ونموذج حي للرجل المتحكم في كل شيء.»
«اكتشفت في والدي الأب الذي يضحي بحياته من أجل أبنائه، فالأرض بالنسبة له «عرض»، كما يقول دائما، لكنه استغنى عنه من أجلي أنا الفتاة التي طالما حكم المجتمع علي وعلى أمثالي بأنهن أقل درجة من الذكر، استطاع السرطان تغيير نظرتي إلى الحياة لأنه أبان أمامي الأب الحقيقي الذي لم اعرفه يوما بسبب قسوته وشدته.»
وعن الداء، قالت شهيرة: «إن كان سرطان الثدي قصة سأختار لها عنوان: «التحدي» لأنه رهان حقيقي مع الحياة للبقاء واقفا، ليس بسببه كمرض عضوي يصيب جزء من جسد الإنسان، بل لما له من جانب اجتماعي مهم تحصره في نظرة قاصرة للمرأة المصابة وغالبا ما تكون السبب في الانهيار النفسي للمريضة قد تصل ببعضهن إلى الانتحار أو على الأقل التفكير فيه كحل لوضع نقطة النهاية لمأساتها، لذلك كان لما فعله والدي معي مفعول السحر على حالتي الصحية بسبب شعور الطمأنينة والدعم، بل أكثر من ذلك تحوّل إلى أهم المحسنين المواظبين على تقديم المساعدة لمرضى السرطان سواء من خلال الجمعيات أو المستشفيات.»
الإيجابية ..
غالبا ما تشمئز النساء المصابات بسرطان الثدي من نظرة الشفقة التي تصبح ميزة المحيط الذي تعشنّ وسطه بعد إعلان إصابتهن بالداء، فعندما تبدأنّ رحلة العلاج تواجهنّ وابلا من ردود الفعل السلبية من المحيط الذي يتفرغ فقط لتحسس جسدهنّ إن كان منقوصا أو لا، وبعد عملية الاستئصال، ترى تركيز الجميع منصبا على مكان الثدي المستأصل من أجل معرفة شكل جسدهنّ وهو منقوص من أحد أهم علامات «أنوثة» المرأة، لتُختزلنّ في ورم خبيث استأصل من جسدهنّ للإبقاء على حياتهن.
المرافقة النفسية لهنّ لا تقتصر فقط على الزوج أو الأسرة والأبناء، بل أيضا الفريق الطبي المتتبع لحالتهنّ الصحية، فمنذ أن تبدي أو يبدي الطبيب شكوكه في إصابة الواحدة منهنّ بهذا الداء، لا بد له من احترام المريضة بمنحها الوقت الكافي لتقبل حالتها الصحية، من خلال إعلامها بطريقة مدروسة بعيدة عن المفاجأة الصادمة.
لا بد من إعطاء المرأة المصابة دعما نفسيا كبيرا حتى لا تقع في فخ الـ « نظرة دونية « لنفسها كأنثى وامرأة «كاملة»، فإذا أردنا تغيير المجتمع لا بد من أن تكون الانطلاقة من خلال تعليم الأجيال أن المرأة أكبر من أن تختصر في جزء من جسدها، حتى نتمكن كمجتمع من إعطاء أمثال سعيدة، سهيلة وشهيرة دفعة محفزة للبقاء متفائلات بغد أفضل، حتى نستطيع كمجتمع ان نربي رجالا يتحملون المسؤولية ولا يتهربون منها.
الكشف المبكر
قالت المختصة في التخذير والإنعاش نصيرة شرقي ان المرأة عند إعلامها بإصابتها بسرطان الثدي تصاب بصدمة كبيرة بسبب شعورها بالخوف، ما يجعل كل تفاصيل حياتها تتداعى أمامها إن لم يستطع محيطها الضيق احتواء حالتها النفسية المحبطة، لذلك لا بد من إعطاء الجانب النفسي أو المرافقة النفسية للمريضة الأهمية القصوى في رحلة علاج المريضة، خاصة إذا خضعت لعملية استئصال الثدي وجلسات العلاج الكيميائي التي تتسبب في أثار جانبية كسقوط الشعر والتعب والوهن.
وأكدت شرقي في حديثها لـ «الشعب» أن الفحص أو الكشف المبكر للداء يسمح بإنقاذ النساء وتقليل تكاليف العلاج ومدته كما يعطي المريضة فرصا أكبر للشفاء، لذلك كان من الضروري الاستمرار في حملات التوعية والتحسيس طوال أيام السنة ليس في شهر أكتوبر فقط، حتى نستطيع مس أكبر عدد ممكن من المجتمع وإقناع النساء بالتوجه الى المراكز المختصة لإجراء الفحوصات الأولية للتأكد من عدم الإصابة بالداء.
ولاحظت ان الاحصائيات للإصابة بسرطان الثدي تظهر بنسبة كبيرة قبل سن الأربعين في الجزائر بينما تظهر في الدول الغربية بعد سن الـ 60، وفي مقارنة بسيطة بينهما نجد ان الكشف المبكر هو سبب تأخر السن الى العقد السادس في الدول الغربية وهو ما يبرز الدور المحوري الذي يؤديه التشخيص المبكر للداء، خاصة وان الجزائر تسجل أزيد من 14 ألف إصابة جديدة سنويا.
في ذات السياق، أوضحت المختصة في التخذير والانعاش ان لنمط الحياة دورا مهما في تعزيز فرص الإصابة لدى المرأة، فبالإضافة الى العامل الوراثي بوجود تاريخ مرضي عائلي يساهم النظام الغذائي في الإصابة بالمرض، لذلك ننصح باتباع نظام غذائي صحي يعتمد على الخضراوات والفاكهة العضوية، الى جانب المحافظة على وزن مثالي لأن البدانة أحد الأسباب المهمة لسرطان الثدي وكذا ممارسة الرياضة بصفة دورية.