طباعة هذه الصفحة

مدرســـــــة «جـــــــان دارك» بسكيكـــــــدة

نمــوذج لتعليــم الضبــاط الفرنسيــين أساليــب التعذيــب

سكيكدة: خالد العيفة

 

يقول الدكتور توفيق صالحي، أستاذ بجامعة 20 أوت 1955 بسكيكدة، اتخذ التعذيب أنواع وأساليب متعددة من قبل الاحتلال الفرنسي، منها الجسدي، والنفسي، وكان لكل نوع خاصية تميزه عن غيره، فالتعذيب الجسدي، له أشكال متعددة منها، التعذيب بالكهرباء، بالماء، بالحبل، الشنق، وغيرها.

بينما التعذيب النفسي شكل خطرا كبيرا على الانسان الجزائري يضيف الدكتور، ومن أبرز أشكاله الاغتصابات، التي تعرضت لها النساء، أثناء الثورة، وهذه الأساليب أحدثت نوعا من الاضطرابات النفسية للمرأة، التي كانت تتعرض الى أنواع شتى، للاضطهاد والإهانة.
فالتعذيب، بحسب صالحي، كان يمارس من طرف أجهزة متحكمة في ذلك وكانت له مراكز متخصصة لتعذيب الجزائريين، منه مراكز سرية وأخرى رسمية، وهي تلك المحطات والأماكن التي تشرف عليها السلطات الرسمية والعسكرية، والإدارية، مثل مقرات الشرطة، والجندرمة، ومقرات الوحدات العسكرية، بالإضافة الى السجون والمعتقلات.
تأسيس مدرسة «جان دارك»
تأسست مدرسة «جان دارك»، بحسب المصادر التاريخية، بتاريخ 11 ماي 1958، وأطلق عليها اسم المدرسة الفرنسية «جان دارك»، التي تحتل مكانة معتبرة في الذاكرة الفرنسية، كونها بطلة ورمزا من رموز الشجاعة والتحدي الذي رفعته في وجه الأعداء، من خلال مساعدتها الملك الفرنسي «شارل السابع»، ضد خصومه.
وأسندت إدارة المدرسة الى السفاح «بيجار مارسال»، حيث تولى قيادة المدرسة، التدريب والمقاومة لصف الضباط الاستخبارات، ضد الثورة التحريرية، واتسمت بتلقين التعذيب الممنهج والمدروس، بعناية كبيرة، يجري وفق شروط تتعلق بالجلاد والضحية، فالجلاد يجب ان يحصل على المعلومة بطرق وآليات متعددة، دون ان يلفظ الضحية أنفاسه، أو تظهر عليه آثار التعذيب، أثناء الاستنطاق.
ودوافع تأسيس مدرسة التعذيب هذه، للنشاط الحاصل حول حقوق الإنسان من طرف لجنة الصليب الأحمر الدولي، وبعد ان بدأت الزيارات المتتالية لهذه اللجنة خلال سنتي1956 و1957، وتم تدريب بهذه المدرسة وتعليم الضباط على ممارسة التعذيب الإنساني، أي الخضوع للأمر الواقع بضرورة التعذيب، وفي نفس الوقت الشعور بالذنب، وتأنيب الضمير، أثناء التعذيب الضحية، التي عادة ما تفيض روحها أمام جلاديها.
وتعد مدرسة «جان دارك» انتهاكا صارخا لاتفاقية لاهاي حول قوانين الحرب وأعرافها الصادرة في سنة 1907، واتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، المؤرخة في ديسمبر 1948، واتفاقيات جنيف لعام 1949، سان حماية ضحايا الحرب، واتفاقية لاهاي حول حماية القيم الثقافية في حالة شؤون النزاع المسلح، المؤرخة في 14 أيار 1954، وغيرها من المواثيق والقوانين الدولية.
التعذيب الذي نظرت به مدرسة «جان دارك» جاء ليخفي آثار الجريمة، فالتعذيب بالكهرباء والماء، عادة لا يترك آثارا جانبية، على جسم الضحية، أما الذين توفوا أمام شدة التيار الكهربائي، فكان مصيرهم الرمي في الغابات أو في البحر، أو في أي مكان آخر، خاصة مع الموجة المنددة بالتعذيب من طرف كثير من المثقفين الفرنسيين، والزيارات التي باتت تقوم بها لجنة الصليب الدولي، ومنظمة حقوق الانسان في الجزائر، للوقوف على جرائم التعذيب الفرنسي في الجزائر.
السفّاح أوساريس وتعذيب أسرى الثورة
بول اوساريس، هو أحد الضباط الفرنسيين، الذين انضموا إلى جيش «فرنسا الحرّة» عندما أطلق الجنرال شارل ديغول صيحته الشهيرة من لندن عام 1940 مطالبا الفرنسيين بمقاومة الاحتلال الألماني النازي، وتدرج بول اوساريس في الرتب العسكرية وصولا إلى رتبة جنرال.
انخرط «السفاح» بالعمل في الأجهزة السرية الفرنسية، حيث كلّفه الجنرال شارل ديغول بمهمات ذات طابع سري للغاية، وفي غاية الدقة، وشارك في حرب الهند الصينية، حيث كانت آخر نشاطاته في الجزائر، أين عمل كضابط استخبارات على علاقة بالقوات الخاصة الأمريكية.
وكان ان اعترف أوساريس بممارسة التعذيب خلال حرب تحرير الجزائر، ومات السفاح وهو يعتقد أنه نفّذ جرائمه من أجل مصالح فرنسا العليا، واحتفظ التاريخ في سجلاته، بجرائم الجنرال الذي ابتكر أساليب التعذيب والتنكيل، في حق الأسرى الجزائريين في سجون الاستعمار، ولم يتوان في التباهي بتصفية الكثير منهم دون محاكمات، بما فيهم قيادات من ثورة التحرير الجزائرية.
كما أكد في إحدى اعترافاته «نفذت عمليات اغتيال دون محاكمة في الجزائر.. نعم نفذت 24 عملية اغتيال»، وسمى نفسه «رجل معركة الجزائر»، هو الذي قتل الكثير من أبطال الجزائر، «العمل الذي قمت به في الجزائر كان من أجل بلادي، وإن كنت لم أرد أن أقوم به، ذلك أن ما نقوم به ونحن نعتقد أننا نؤدي من خلاله واجبنا، لا يمكن لنا أن نندم عليه».
يصف بول أوساريس، في مذكراته عمله كضابط استخبارات، «وهكذا صرت ضابط استعلامات.. يُكلّف ضابط الاستعلامات في أيام الحروب، أساسا، بجمع الوثائق والمعلومات اللازمة التي تعين على بناء العمليات الميدانية، هذه المعلومات تتعلق بأرضية القتال وبالخصم كذلك، غير أنّ أعمالا مثل هذه لا تلقى احتراما أو تقديرا عند العسكريين. ولكي يتسنى القيام بهذه المهمة على أحسن وجه، كان ذلك يتطلب ذهنية خاصة يمكن لها أن تتحمل الأذى الناجم عن تهكم الآخرين.. وأدركت من ثمّ أن إيفادي إلى الجزائر لم يكن مجرد هدية كان يمكن أن تُقدّم لي».
وكانت بداية الجنرال من مدينة سكيكدة، يقول أوساريس «في ظرف أسابيع معدودة ازدادت حركة التمرد ثباتا وصلابة، وبدأ حينها العد التنازلي، وكان دوري يحتم عليّ أن أكون أكثر هجوميا’’، ويضيف ‘’لقد كانت شرطة سكيكدة تمارس التعذيب، مثل باقي الشرطة في كل أنحاء سكيكدة، وكان مسؤولوهم على دراية تامة بذلك، لم يكن أولئك الشرطيون جلادين أو وحوشا، ولكنهم كانوا أناسا عاديين، كانوا أناسا مخلصين لوطنهم، وكانت روح الواجب متغلغلة في أعمق أعماقهم’’.
ويؤكد السفاح «إنّ التخلص من جبهة التحرير، كان يعني وجود إرادة سياسية فعلية لذلك، ولكنه كان يعني كذلك استعمال كل الوسائل الملائمة، كان عليّ أن أتعرّف على زعماء جبهة التحرير وأحدد مواقعهم ليتمّ القضاء عليهم في سرية وصمت، وكنت أعتقد أن الحصول على معلومات حول هؤلاء الزعماء سيقودني حتما إلى إلقاء القبض على متمردين واللجوء إلى استنطاقهم.. ونظرا للمهنة التي اخترتها، قمت بقتل بعض الأشخاص، وفعلت أشياء ترهق الأعصاب، غير أني لم أكن أظن أني سألجأ يوما ما إلى التعذيب، كان في تصوري أنه يمكن أن أتعرض أنا شخصيا إلى التعذيب، ولكنني لم أتصور الواقعة بالعكس، أن أقوم أنا بتعذيب الآخرين».
وتحدث أوساريس عن الأساليب والطرق التي كان يطبقها للتنكيل بأسرى الثورة التحريرية « جاء موعد استنطاقهم، كنت أبدأ بسؤالهم عما يعرفونه، غير أنهم أفهموني أنهم لا يريدون البوح بأي شيء، ألا تكون ردة فعل المتهم دائما الإنكار أو لزوم الصمت؟ وهكذا، ودون وازع من الضمير، أوضح لي رجال الشرطة تقنية الاستنطاقات «الخشنة»، بداية، كان هناك الضرب الذي كان يكفي في الغالب، ثم بعد ذلك تأتي الوسائل الأخرى كالكهرباء والماء».
21 مركزا مجهزا بأحدث وأبشع وسائل الاستنطاق
كشف تقرير مديرية المجاهدين عن أنه على إثر الاجتماع التاريخي لمجموعة 22 الذي تقرر من خلاله تفجير الثورة، أصبحت سكيكدة ضمن التقسيم الذي اعتمد خلال نفس الاجتماع، تابعة للمنطقة الثانية للشمال القسنطيني التي كانت تسمى اصطلاحا منطقة السمندو بقيادة الشهيد البطل الرمز ديدوش مراد، بمساعدة زيغود يوسف ولخضر بن طوبال ومصطفى بن عودة، حيث وفي ليلة 1 نوفمبر 1954 تم تشكيل فوجين من المجاهدين الأوائل.
 أسندت إلى الأول مهمة الهجوم على ثكنة الجندرمة بمدينة السمندو والفوج الثاني أوكلت له مهمة حرق مستودع الفلين لأحد المعمرين ببلدية الحروش، وبتنفيذ العمليتين تكون سكيكدة قد انضمت إلى الثورة من أجل التحرير منذ الساعات الأولى، شملت كل تراب الولاية دون استثناء، لقن من خلالها مجاهدو وأهالي المنطقة العدو دروسا رائعة ونادرة في البطولة والفداء والتضحية، كللت بالنصر المبين، فكان نصرا حقيقا بالرغم من السياسة الاستعمارية وحرب الإبادة التي مارسها العدو على أهالي المنطقة بوحشية لا يمكن تصورها من خلال إقامته للمحتشدات، بداية من سنة 1956، حيث وصل عددها إلى حوالي 117 محتشد.
قام الاحتلال الفرنسي ببناء 79 ثكنة عسكرية، بالإضافة إلى 10 ثكنات للجندرمة، و62 مكتبا للشؤون الأهلية أو كما تعرف «لاصاص»، زيادة إلى 4 محافظات للبوليس الاستعماري دون الحديث عن البوليس السياسي وعن العدد الكبير من المجندين ضمن شبكة العملاء دون إغفال القوات الضخمة للقواعد البحرية العسكرية.
كما قام بإنجاز مطارين عسكريين ولم يكتف بهذا بل راح سنة 1955 وبعد تعيين السفاح «أوساريس» على رأس الجهاز المخباراتي داخل مدينة سكيكدة بإنشاء 21 مركزا للتعذيب مجهزا بأحدث وأبشع وسائل الاستنطاق غير الإنسانية، والتي تعدت في بشاعتها ما استعملته النازية في وقتها، منها 4 مراكز للتعذيب بمدينة سكيكدة.