طباعة هذه الصفحة

القصـور العتيقة بغردايـة

تــراث ثمين بحاجـة إلى حمايــة

عمر - ع

 تزداد رهبة سكان المدينة العتيقة بغرداية، كلما تلبّدت الغيوم وأصبحت السماء مغشاة، وبين عيون تراقب السماء بتوجّس، ترجو القلوب أن تكون بهم رحيمة، تسقيهم من غيثها، دون أن تهز أركان منازلهم الهشّة، ولسانهم يردّد دون توقّف: «اللهم صيبا نافعا»، لأن أمطار الخير قد تصبح في أية لحظة مرادفة للموت.
 تزخر منطقة غرداية من خلال تاريخها الذي يعود إلى قرون من الزمن بتراث حضاري معماري لا يقدر بثمن، تمّ تصنيفه ضمن التراث الوطني بمقتضى قرار وزاري سنة 1971، كما صنف تراثا إنسانيا عالميا من طرف منظمة اليونسكو سنة 1982، لكنه اليوم يحتاج إلى مزيد من جهود كبيرة للمحافظة عليه.
في منازل عاش فيها الأجداد لقرون، لا يزال يعيش فيها الأبناء بالقصور العتيقة بغرداية، حاملين أرواحهم على أكفهم، كلما جادت السماء بالغيث. ومن تطلع عليه الشمس ومنزله لا يزال قائما فإنّه يصلي لله شكرًا، ومنهم من لا يشهد هذه اللحظة فتنهار منازلهم، ويذهب ضحيتها أبرياء، ذنبهم أنهم مقيمون في منازل يعود بناؤها إلى أزيد من قرون، معرضة للانهيار في كل لحظة، ولكن ما باليد حيلة فلا مأوى آخر لهم.
نسيج عمراني هش يأوي ساكنة معوزة، وبنايات متداعية وأخرى مهددة بالانهيار بالمدينة القديمة ودرب أغلادن آداود، وزقاق ليهود، غالبيتها تأوي أكثر من أسرة واحدة، وهذا ما يزيد الطين بلة. وهذه الظاهرة المزمنة تتكرر كلما حل فصل الشتاء، وهي مشكلة انهيار البنايات على رؤوس ساكنيها، وعقب كل كارثة يتم التأكيد على ضرورة حل مشكلة هذه المساكن الهشة، ثم تتكرر الكارثة بعد ذلك دون التوصل لحل حقيقي، انتقلنا بهذا الانشغال إلى ديوان حماية وترقية سهل واد مزاب بغرداية.

ديوان حماية وترقية سهل وادي مزاب

 ديوان حماية وترقية سهل وادي مزاب هو مؤسسة عمومية ذات صبغة إدارية، أنشئت بموجبه عملية إعادة هيكلة ما كان يسمى سابقا «ورشة الدراسات وترميم سهل وادي مزاب»، الذي يعود تاريخ إنشائه لسنة 1970 تحت إشراف المهندس المعماري «أندريه رافيرو»، وزيادة على الإعلام وتحسيس المحيط بأهمية الحفاظ على التراث العمراني والمعماري، قامت هذه الورشة بدور طلائعي في ترسيخ مفهوم الحماية وترميم المعالم والعناية بالتراث المعماري.
وبمقتضى المرسومين التشريعيين رقم: 419/92 و420/92 المؤرخين في 17 نوفمبر 1992، تمت ترقية المؤسسة من «ورشة دراسات» إلى «ديوان حماية وترقية واد مزاب»، فأصبحت تحظى باستقلالية مالية ومعنوية، من مهامه السهر على تطبيق التشريعات في مجال حماية الموقع المصنف بوادي مزاب والحفاظ عليه، ومرافقة السلطات المعنية بتقديم استشارات قبلية فيما يخص طلبات رخص البناء، ويهدف أساسا للحفاظ على التراث المعماري، والحد من تدهور الإطار المبني وضمان استدامة القيم المعمارية للقصور العتيقة.

أسباب انتشار المساكن الهشّة

 يجيب محافظ التراث الثقافي عبد العزيز بغباغة، أن هذا الأمر طبيعي جدا نظرا لقدم المساكن داخل القصور التي تجاوز عمرها 10 قرون، والسبب الرئيسي في تصدع المساكن التقليدية داخل القطاع المحمي بقصور وادي مزاب هو تسرّبات المياه الناتجة إما عن الأمطار المتهاطلة، أو بفعل إنساني (قنوات المياه الصالحة للشرب، وقنوات الصرف الصحي)، التي تصيب تحديدا الطبقة العازلة للجدران وسطوح المنازل، بالإضافة إلى تأثيرات المناخ وعوامل التلف الفيزيوكيميائي كالرطوبة، والتغير الكبير بين درجات الحرارة ليلا ونهارا، وذلك على الصعيدين اليومي والموسمي، إضافة إلى تأثيرات الطيور والحشرات، والكائنات الحية الدقيقة. فبالتالي من بين المهام التي ينبغي أن يقوم بها المواطن، هي «الصيانة الدورية» لمسكنه، وعادة ما يتم ذلك خلال فصل الصيف.
ويعتبر المهندس المعماري باحمد لالوت هذه الصيانة الدورية «صمام الأمان» للمحافظة على صحة الهيكل العام للمساكن، ولكن ما يلاحظ هو عدم قدرة المواطن في كثير من الأحيان على تحمل تكاليف هذه الصيانة الدورية، كما أن الصعوبة تكمن في إيجاد اليد العاملة المحترفة التي تتقن أنواع الصيانة التقليدية. وذكر المهندس لالوت أنه تم في هذا الإطار استبدال المباني ذات الطابع المعماري التقليدي، خاصة بمركز مدينة غرداية ببنايات حديثة دون احترام مواد وتقنيات البناء المحلية في مختلف مراحله، الذي يعتبر من الأعراف المحلية في العمران.
وقال رئيس جمعية الحي إبراهيم اتبيرين، إن هذا الموروث المادي واللامادي للمساكن التقليدية داخل قصور وادي ميزاب «يتوجب أن يكون في قلب جميع عمليات الترميم والتأهيل، ضمن إستراتيجية وطنية خاصة بحماية المساكن التقليدية داخل القصور، والتي تواجه مجموعة من العوامل والأخطار الحقيقية التي يمكن أن تحولها إلى ركام طيني».
ويعاني التراث المادي والمشهد المعماري لوادي ميزاب تدهورا من يوم لآخر، جراء تقلبات الزمن والتغيرات المناخية، وكذا تدخلات الإنسان عليه، بالإضافة إلى عديد العوامل التي شوّهت الماضي العريق لهذه المنطقة، حيث توجد عديد المباني المتدهورة والآيلة للسقوط والجدران المتشققة وانتشار أشكال معمارية دخيلة غير ملائمة مع النمط المعماري للمنطقة لاسيما بعض المنشآت المنجزة من الإسمنت المسلح التي حلت محل مواد البناء التقليدية التي تتكون أساسا من مادة الجبس، وفق ما كشف عنه المكلف بتسيير ديوان حماية وترقية سهل وادي ميزاب، كمال رمضان.
وأضاف في حديث لـ «الشعب»: «أنّه رغم وجود المخطط الدائم لحفظ واستصلاح القطاع المحفوظ لوادي مزاب، والتدابير الوقائية لضمان ديمومة تراثه الثقافي كمكسب حضاري، ولعديد النصوص والتشريعات القانونية التي تسعى بجدية أكثر لحماية وصيانة النسيج المعماري التقليدي، إلا أن هناك العديد من النقائص والعقبات في عمليات الترميم.

القطاع المحفوظ لوادي مزاب

 القطاع المحفوظ لوادي مزاب هو أداة تقنية وقانونية للمحافظة والترميم وإعادة التهيئة لاستصلاح وترقية القطاع المحفوظ الناتجة عن القانون رقم 98-04 المؤرخ في جوان 1998، المتعلق بحماية التراث الثقافي الجزائري.
ويضيف محافظ التراث الثقافي الأستاذ عبد العزيز، أن مشروع القطاع المحفوظ لوادي مزاب تحت رعاية وزارة الثقافة على غرار المدن التراثية الجزائرية الأخرى المصنفة، وهذا القطاع المحفوظ هو محيط مصنف للمجال الثقافي والتاريخي لواد مزاب.
ومن بين الأهداف المرجوة من إنشاء القطاع المحفوظ لوادي مزاب هو إعادة هيكلة بعض الأنسجة العمرانية الموجودة، والتي تمس جميع الأحياء ذات الكثافة العالية، والسكنات التقليدية في الأحياء القديمة التي تعتبر حالة إطارها المبني التقنية جد متدهورة.
وأضاف «يقوم ديوان حماية وترقية سهل واد مزاب بالتنسيق مع كل المصالح المعنية من خلال تقديم رأينا حول مواقع مختلف المشاريع من أجل الالتزام بقانون التراث 04/38 الصادر بتاريخ 15 / 07 / 1998 والمرسوم التنفيذي رقم 05/209 الذي يصنف وادي مزاب كقطاع محفوظ في سنة 2005»، لكن قائمة الأشغال الاستعجالية والتدخل من أجل حماية التراث المحلي تزداد يوما بعد يوم، في انتظار استكمال مخطط الحماية المسند لمكتب دراسات والذي يسجل تأخرا كبيرا، حسب المتحدث.
وعلى سبيل المثال، فإن العديد من السكنات التقليدية التي تعد بمثابة جوهرة للعمارة القديمة، ويشكل المعلم التاريخي الأكثر زيارة بالمنطقة، وواجهاته الرائعة والمتألقة بات عرضة للتلوث بفعل عديد التسربات في شبكات المياه الصالحة للشرب والصرف الصحي.
بالإضافة إلى ذلك، فإن عديد الأجزاء الخارجية للسكنات القديمة داخل قصر غرداية العتيق توجد في حالة سيئة، بعد أن فقدت المزاريب التقليدية رؤوسها، واستبدلت بأخرى بلاستيكية لصرف مياه الأمطار، فيما فسحت الأحجار ومواد البناء المحلية الأخرى المجال للقوالب الإسمنتية والآجر الأحمر والإسمنت.

عمليات ترميم المساكن التّقليدية والمواقع الأثرية

 شملت عمليات الترميم والصيانة ما لا يقل عن 2000 بناية تقليدية منذ سنة 2000، وأكثر من 20 عملية ترميم وإعادة بعث التراث المعماري النموذجي، وبعض المعالم التاريخية القديمة التي تأثرت بفعل تعاقب السنين.
كما أطلقت منذ 2014 خمس عمليات لإعادة تأهيل وترميم ساحات سوق القصور والأضرحة وأماكن الصلاة والمساجد، بالإضافة أيضا إلى محو مخلفات الأحداث المؤسفة التي شهدتها منطقة غرداية بهدف المحافظة على هذا التراث.
لكن يضيف محدّثنا «بات من الضروري إشراك الجمعيات ومؤسّسات المجتمع المدني وجمهور المواطنين، والمستثمرين الخواص في رفع التحدي للمحافظة على السكنات التقليدية ذات الشهرة المعمارية والقيم الثقافية والتربوية العالمية للقصور العتيقة، لأنه مهما رصد من أموال لترميم هذه السكنات، فهو غير كاف».
وبالمناسبة أضاف ابراهيم زعبي عضو جمعية حي وناشط اجتماعي، أن عمليات الترميم هذه ينبغي أن يرصد لها غلاف مالي واضح ومستمر في كل سنة يتم ترميم وصيانة عدد من البنايات في كل قصر عتيق. فحملات الترميم الموسمية، والأغلفة المالية المرصودة ضعيفة بالمقارنة مع البنايات التي يلزم ترميمها وصيانتها، وهي لا تفي بالغرض ولا تؤتي أكلها، كما أنّ المحافظة على هذه التحف الفنية الرائعة التي شيّدها وأبدع فيها الأسلاف، ينبغي أن تكون أولوية وسلوك المواطن والمسؤول معا».

صعوبات وعراقيل

 بعد الحديث عن الصعوبات المادية والأغلفة المالية الشّحيحة المرصودة لعمليات الترميم التي تحتاجها كل القصور القديمة الآهلة بالسكان، عرج بنا المهندس المعماري لالوت على نقطة مهمة أيضا، وهي نقص الخبرة واستقدام بنائين عاديين غير متخصّصين في الأنظمة الإنشائية والعناصر المعمارية وتقنيات البناء التي لها دور وظيفي، بالإضافة إلى كونها تعطي للبناية حسا جماليا بمواد محلية، تلبية للوقاية من قساوة مناخ المنطقة، هذا ما يلزم يد عاملة مؤهلة ومدربة للتنفيذ الدقيق لطرق وتقنيات الترميم والصيانة، بدءا بمرحلة أخذ البيانات إلى أعمال التشخيص، وتحديد عوامل التلف ومظاهره التي أثرت على الحالة التقنية للسكنات، ثم منهجية التدخلات الاستعجالية للمباني، وتقنيات تنفيذ التدعيم الميكانيكي للعناصر الإنشائية التي تتطلب ذلك ريثما يتم التدخل النهائي بأعمال الترميم والتهيئة وأعمال الصيانة التي يحتاجها المبنى التقليدي بشكل متين وجيد.
ويعتبر تنفيذ مشاريع الترميم الخاصة بالمساكن والمباني التقليدية من الأعمال المهمة والصعبة من الناحيتين الإدارية والفنية، نظرا لخصوصية كل مسكن والحالة التقنية التي آل إليها، ولتنفيذ التدخلات للإصلاح والترميم وجب الحرص على احترام المبادئ الأساسية المتعارف عليها في ميدان الترميم.
وطالب شباب المنطقة في كثير من المرات بإضافة تخصص مهني يعنى بصيانة وترميم المباني الأثرية والمعالم التاريخية والمنازل التقليدية القديمة، بإشراف فريق من الخبراء والتقنيين والبنائين، وذلك للحاجة الكبيرة لليد العاملة الماهرة في هذا التخصص بالمنطقة.

متحف مفتوح على الطّبيعة

 تعد شبكة قصور وادي ميزاب الخمسة بمثابة متحف مفتوح على الطبيعة، والتي كانت قد شيدت بطابع عمراني فريد من نوعه، الذي يعتبر من روائع المعمار العالمي، وقد صمّم بمهارة على شكل بيوت تنحدر بشكل منظم ودائري فوق موقع صخري ممتد على سهل طويل، والذي أصبح بمرور الوقت محل استقطاب وإعجاب السياح وأيضا المتخصصين والباحثين والأكاديميين والطلاب في الهندسة المعمارية وتخطيط المدن.
وخضع هذا التراث المعماري الثمين لعدة إجراءات من حيث إعادة التأهيل والحماية، بعد تدهور مرتبط بعوامل عديدة لعل أهمها الإنسان، ولذلك من الضروري جدا إشراك عنصر الشباب، وجمعيات المجتمع المدني من خلال دورات مكثفة لتدريس كيفيات الترميم والتعامل مع مواد البناء المحلية.