طباعة هذه الصفحة

نقاش في ثنائيـــــــــــة اقتصـــــــــــاد المعرفـــــــــة والجامعــــــــــــــة

بروفيسور كمال بداري

نعيش اليوم في زمن التغييرات العميقة، التي تعمل على إعادة تشكيل منظماتنا، وسلوكياتنا، وطرق تعليمنا، وقيّمنا في حد ذاتها، وهو ما بات يحتم علينا إعادة النظر في مهام الجامعة، التي أصبحت هي أيضا خاضعة اليوم لمنطق تغير السياق، أي الحداثة. ويركز هذا التغيير على علاقة الجامعة بالتعليم والبحث والإبداع والابتكار والمواطنة والانفتاح، وهذا العالم المترابط الذي يسمى الثورة الصناعية الرابعة، ثورة التقاء تكنولوجيات الاتصال والطاقات المتجدّدة.
ويبدو أن هذه الثورة يمكن اعتبارها فرصة حقيقية للجامعة كما يمكن اعتبارها تحديا أمامها في الآن ذاته. فرصة من خلال جعل الجامعة محركاً لـ «الاقتصاد الجديد» ومحررا له من العراقيل العميقة. وتحدياً من خلال إدخال الجامعة إلى هذا العالم باسم مبدأ المسؤولية. وبما أن الجامعة ممولة من قبل المواطنين، فيجب أن تكون مسؤولة وأن تثبت فائدتها الاجتماعية بانتظام.

اقتصاد المعرفة!  يا ترى ما هو؟

يسمى القرن الحادي والعشرون قرن المعرفة، وهذا لارتفاع دور هذه الأخيرة بسرعة فائقة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع. في الحقيقة يوجد فرق جوهري بين اقتصاد المعرفة والاقتصاد التقليدي. فإذا كان هذا الأخير قائماً على «تراكم رأس المال الذي يسمح بالإنتاج المادي للسلع وفقاً لمفاهيم سميث وريكاردو وماركس»، فإن اقتصاد المعرفة (الذي اخترعه النمساوي الأمريكي الفريتز ماهلوب سنة 1983) «ينتج عن علاقة قوية بين رأس المال غير المادي (الابتكار، والبحث والتطوير، ورأس المال البشري،...) والثورة الرقمية، القائمة على مبدأ أن كل شخص لديه القدرة على الإنجاز». فـ المعرفة، في مفهومها الواسع، لا متناهية ولا حدود لها. وهي غير مادية ولا تنضب وليس لها حدود دولية، بل على العكس من ذلك، ينبغي نشرها وتقاسمها من أجل تطوير المهارات، وتعزيز ثقافة المنافسة، وتحسين الإنتاجية وإنتاج الثروة (مثال ذلك: المصادر المفتوحة التي تمثلها في هذا الشأن). ووفقاً لفون هيبل (معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT-)، فإن إتاحة الاطلاع على المعرفة يعزّز تطوير التعاون والمشاركة والتبادلات وتطوير الإبداع وإضفاء الطابع الديمقراطي على الابتكار. وتعدّ الإنترنت أداة رئيسية لهذا الاقتصاد مشبعة بفكرة الحرية والتعاون التي تدفع إلى الابتكار، واستحداث المؤسسات الناشئة، والتطبيقات الجديدة، و «التعلّم من خلال العمل». وبالتالي، مع وجود الإنترنت، يصبح من السهل الوصول إلى المعارف.
واقتصاد المعرفة هو ثالوث من الأسواق لا يتجزأ – «سوق المعرفة» و»سوق الخدمات» و»سوق العمل». وتتمثل عملية تطويره في تحسين نوعية رأس المال البشري، وتحسين نوعية الحياة، وإنتاج المعارف، والتكنولوجيا العالية، والابتكار، وخدمات عالية الجودة.

هل يمكننا قياس اقتصاد المعرفة؟

يتعلّق الأمر بتقييم تكلفة دمج مورد معرفي معيّن في منتج أو خدمة ما. على الرغم من صعوبة تحديد قيمة غرض غير مادي، فإن قيمة هذا المنتج تتكون من سعر إنتاجه وقيمة بيعه. حيث تعتمد التكاليف على حجم الاستثمارات غير المادية في البحث والتطوير، وحيازة الملكية الفكرية، والتعليم  والتكوين العاليين، وتكوين الموظفين، والبرمجيات، والمعلومات، والخدمات الهندسية والاستشارية، والتسويق، والإشهار، وتحسين التسيير،.. وما إلى ذلك. إن وضع مؤشرات كمية لتنمية هذا الاقتصاد مفيد جدا. إذ يعد هناك العديد من المناهج، مثل منهجية «كام/KAM» (منهجية تقييم المعرفة) التي يستخدمها معهد البنك الدولي  World Bank Institute ، ومجموعة المؤشرات التي اقترحتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OCDE)، إلخ ..  والتي تستخدم متغيرات هيكلية وكمية لمقارنة أداء اقتصاد المؤسسة وتحليله مقارنة بأداء المنافسين وقادة السوق (وضع المعايير).
وهناك مؤشرات مختلفة تُستخدم في إطار نظام لمقارنة مستوى هذا الاقتصاد وديناميكيته: حصة الأنشطة المبتكرة في منتجات وخدمات التصنيع، ونسبة الاستثمار في التكوين والتعليم العاليين، والبحث والتطوير، ومعدل نمو قابلية التوظيف في مجال العلوم والتكنولوجيا العالية، حجم رأس المال الاستثماري، حجم رأس المال الخاص في تمويل البحث والتطوير، حجم الاستثمار الأجنبي، معدل الباحثين في مجال البحث والتطوير لكل مليون نسمة، وتنقّل العلماء والمهندسين المؤهلين لأغراض التعلّم، وعدد براءات الاختراع الممنوحة في مجال التكنولوجيا العالية لكل مليون نسمة، وعدد المقالات العلمية في مجال التكنولوجيا العالية المنشورة لكل مليون نسمة في المجلات الشهيرة، وعدد مشاريع البحوث الجامعية والوطنية لكل مليون نسمة، عدد الأطروحات التي تمّت مناقشتها في مجال التكنولوجيا العالية، وتسارع وتيرة الابتكار، والتبادل الدولي للاختراعات، الخ.

ما محل الجامعة من اقتصاد المعرفة؟

حسب المهام المنوطة بالجامعة، فإن هذه الأخيرة تمتلك علاقة عضوية مع المعرفة. وبالطبع، فإن دور الجامعات في التطوير التكنولوجي وفي عصرنة المجتمع يتوقّف على الهيكل والبيئة الاقتصادية للبلد. فمثلا نجد الجامعات الصينية (شنغهاي جياو تونغ، جيجيانغ، تسينغهوا..) والجامعات الكورية الجنوبية (المعهد الكوري للعلوم والتكنولوجيا، جامعة سيول الوطنية، جامعة كوريا،..)، قد حققت قفزة نوعية رائعة على مدى الثلاثين سنة الماضية من حيث تطوير التكنولوجيا الحديثة وإنتاج براءات الاختراع. فهي لا تنتج براءات الاختراع فحسب، بل تحصل أيضاً على امتيازات وتُنتج بنجاح الفوائد العرضية التي تجذب الاستثمار في رأس المال الاستثماري.
وهكذا، يمكن للجامعات في نماذج اقتصادية مختلفة أن تلعب أدواراً مختلفة: البنية التحتية لنقل التكنولوجيا المتقدمة (كما في الصين وكوريا الجنوبية)، أو تشكيل النظم الإيكولوجية المقاولاتية (كما في الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وألمانيا...). وبالتالي، فإن مهمتهم تتطوّر وفقا للأهداف المنسوبة إلى اقتصاد المعرفة على الصعيد الوطني أو الدولي.
ويشمل الدور الجديد للجامعات في مجتمع المعرفة، أولاً، مساهمة الجامعات في التنمية الابتكارية للبلد، التي تحدّدها قيمة الملكية الفكرية المنشأة والمسوقة. ثانياً، الجامعات هي مؤسسات للابتكار المفتوح والمشترك التي تحلّ مشكلة نقل المعارف إلى رأس المال الفكري على أفضل نحو من خلال استخدام موارد العولمة والانفتاح والديناميكية والحركية البشرية. ثالثاً، تخلق الجامعات نفسها تكنولوجيات جديدة وتصبح مؤسسات إنتاج للصناعات التكنولوجية الجديدة.

الجامعة: تطوّرها وأجيالها

إلى يومنا هذا، لا توجد مقاربات منهجية موحدّة لتحديد مستويات تطوّر الجامعات. إن تصنيف الجامعات على أساس أهمية القيمة المضافة التي تخلقها هو كالتالي:
«جامعة 1.0»: مهمتها هي نقل المعرفة، وتنمية المواهب الطلابية، وتكوين الموظفين (بالنسبة للقطاع التقليدي للاقتصاد)، ويمكن أن تكون بمثابة مصعد اجتماعي.
«جامعة 2.0»: توفر مهام التكوين العالي ومهام البحث العلمي، لا تسيّر الملكية الفكرية، وبإمكانها تسويق معارفها في مجال البحث والتطوير.
‘’جامعة 3.0’’: توفر مهام التكوين العالي ومهام البحث العلمي والتطوير التكنولوجي. وقد وضعت جامعة 3.0 سياسة تسويق التكنولوجيا على أساس مبدأ الملكية الفكرية، وثقافة المقاولاتية بين طلابها، وإنشاء الشركات الناشئة، وعلاقاتها مع عالم الأعمال والبيئة الاجتماعية والاقتصادية. واليوم، فإن الجامعات الأميركية، وأحياناً الأوروبية والآسيوية، هي جامعات من الجيل الثالث. وقد أسس خريجو معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا 33 ألف مؤسسة يمكن أن يكون إجمالي دخلها في المرتبة الحادية عشرة بين أكبر الاقتصادات في العالم، ويعمل 76٪ منها بنجاح في السوق ويوفر 3 ملايين منصب عمل.
وتبلغ تكاليف البحوث السنوية لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا حوالي 650 مليون دولار. ويصدر هذا المعهد حوالي 300 براءة اختراع؛ وتتراوح الإيرادات الناجمة عن الأنشطة المرخصة ما بين 70 مليون دولار و90 مليون دولار سنويا. ولدى جامعة سنغافورة الوطنية ميزانية سنوية للبحث والتطوير تبلغ حوالي 580 مليون دولار، وتصدر أكثر من 250 براءة اختراع سنوياً، وأكثر من ثلث إيراداتها ناجم عن شراكتها مع الصناعة (المصادر: منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية 2013i). مثال آخر عن جامعة 3.0 هي جامعة ستانفورد، التي يبلغ رقم أعمالها السنوي للمؤسسات التي أنشأتها الجامعة 2.7 مليار دولار، في حين تم نقل 90.4٪ من الأبحاث الأساسية للجامعة إلى البحث والتطوير التجاري. وتُسوق جامعة ستانفورد أكثر من 100 رخصة لتكنولوجياتها كل عام، مما يدر عليها بمداخيل بقيمة حوالي 90 مليون دولار سنوياً. يتم إنشاء العشرات من المؤسسات الناشئة كل عام. وقد أنشأ خريجو جامعة ستانفورد شركات مثل هوليت باكارد، وياهو، وغوغل. أصبحت الجامعات 3.0 هياكل مفتوحة، أو مراكز، تتفاعل مع صُنّاع القرار والمؤسسات ومخابر البحوث النخبوية.
«الجامعة 4.0»: مهمتها هي إعداد اليقظة التكنولوجية والتكوين لعالم الغد وتزويد الاقتصاد بوسائل جديدة للابتكار. تعد المهارات المناسبة للمستقبل، وتصمّم الشركات وتستخدم تكنولوجيات تطلعية. وستصبح جامعة 4.0 رائدة في تطوير صناعات التكنولوجيا العالية، ونقل المعرفة إلى رأس المال الفكري باستخدام موارد العولمة.
وهكذا، من خلال الانتقال من جامعة 1.0 إلى جامعة 4.0، يزيد مستوى المسؤولية العامة: فالمؤسسة الجامعية تنتج المزيد من القيم، ولا تنقل منتجاتها إلى الاقتصاد في شكل شبه منتهي. ويتجلى هذا التحول في الحوكمة المشتركة، وتطوير الجامعات القائمة على روح المقاولاتية، وعولمة التكوين، وإدماج طرق حيوية للتعليم والموجّهة نحو الممارسة.
هل الجامعة الجزائرية في طريقها نحو جيل 4.0؟
إن جامعة 4.0 عبارة عن مكان للتكوين والبحث والابتكار. فهي تطوّر ثقافة المقاولاتية وتشجع على روح «المؤسسة الناشئة» لدى الطلاب من أجل تعزيز تنمية البلاد في سياق الثورة الصناعية الرابعة. وحتى يكون للجامعة الجزائرية توجّها ناجحا نحو جامعة 4.0 - حسب رأينا المتواضع ـ فإنه من الواجب علينا تكثيف الاشتغال على تطوير المهام الرئيسية التالية:
ـ إعادة تصميم قالب الجامعة لتأخذ في الاعتبار توجّهات اقتصاد المعرفة (البرامج، أشغال البحث، ونظام التقييم..)
ـ تطوير الشراكة بين الجامعة وعالم الأعمال
ـ تحضير الطلاب لمهن المستقبل
ـ تعزيز تنقل الطلاب والأساتذة لأغراض التعلم
ـ دعم الأساتذة الباحثين لتطوير أدوات رقمية مبتكرة في ـ ممارساتهم التعليمية، وتزويدهم بالتكوين على استخدامها،
ـ تشجيع الموارد البشرية ذات الإمكانات العلمية العالية للبقاء في البلد،
ـ تشجيع الجامعة على إنشاء مؤسسات لتسويق نتائج أنشطتها الفكرية من خلال كيان وطني تم إنشاؤه لهذا الغرض،
ـ دعم الجامعة لإنشاء وتطوير البنى التحتية المبتكرة في إقليمها (البحوث، الحاضنات...)،
ـ توفير صندوق عام لتمويل الابتكار،
ـ تحويل الجامعات إلى مراكز للنظم الإيكولوجية الإقليمية والقطاعية، وإسناد مهمة التنمية الإقليمية والقطاعية لها،
ـ تقييم الجامعة دورياً (ضمان الجودة والتدقيق) لزيادة قدرتها التنافسية الوطنية والدولية.
ـ استخدام أدوات إحصائية استطلاعية لقياس الأهداف والنتائج المتحصل عليها والانحرافات، ومدى تحقيق الرضا وما إلى ذلك.

الخاتمة
تتمثل القطاعات الرئيسية لاقتصاد المعرفة في التعليم والعلم والابتكار وتكنولوجيا الإعلام والاتصال. ويجب أن تكون الجامعة، من خلال تنظيمها وتسييرها، قادرة على إنتاج المعرفة وتحقيقها لتحويلها إلى سلع وخدمات قابلة للاستهلاك، وأن تصبح مبتكرة، منتجة للمزيد من القيم، وأن تنشىء في نهاية المطاف التآزر في منطقتها. واليوم، فإننا نجد أنه وفي جميع البلدان المتقدمة، قد أصبحت الجامعة هي التي تحدّد وتيرة التنمية الاقتصادية والتقدم العلمي والتكنولوجي، أين أصبحت المعطيات المتعلقة بـ: رأس المال غير المادي والمعرفة والبحث والتكوين، تلعب الدور المحوري والأهم على الإطلاق.

* أستاذ التعليم العالي والخبير الاستراتيجي في ت.ع.ب.ع وإدارة التغيير
- جامعة محمد بوضياف المسيلة -