طباعة هذه الصفحة

لهفة غير مبرّرة لتكسيد المـواد

إشاعـات تلهب أسعار المـواد الغذائيـة

فتيحة كلواز

 بالرغم من أنّه شهر صيام وعبادة، تعوّد المواطن الجزائري في السّنوات الأخيرة استقباله بـ «لهفة» غير مبرّرة تعكسها صور سلع مكدّسة بكميات كبيرة وطوابير طويلة لاقتناء السلع الأساسية كالزيت والسميد، اللتين تعرفان في الأسبوعين الأخيرين أزمة ندرة سببها الأساسي غياب استهلاك عقلاني عزّزته إشاعات تنتشر كانتشار النار في الهشيم.

 اتّصلت «الشعب» بمختصّين لتبحث عن الأسباب الحقيقية التي تقف وراء سلوك المواطن غير العقلاني والبعيد عن ترشيد الاستهلاك، حيث اتّفقوا أنّ رسالة التطمين التي ترسلها الدولة بتوفر المواد الأساسية في السوق الوطنية، وضمانها لأشهر قادمة لم تستطع إخراج المواطن من «لهفة» أبقته حبيس هاجس تأمين غذائه خوفا من ندرة تشكّل غياب ثقافة استهلاكية رشيدة أحد أهم أسبابها.
أسباب متعدّدة و»اللّهفة» واحدة
 فيما يتعلق بأزمة الزيت والسميد، قال الخبير الاقتصادي في اتصال مع «الشعب»، إنّ مشكلة الزيوت النباتية متعلّقة بأزمة عالمية بفعل نقص تمويل بعض البقوليات التي تستخرج منها الزيوت النباتية، فقد شاهدنا التهافت الكبير على هذه المادة في بعض الدول الأوروبية كتركيا، فرنسا وإسبانيا، مرجعا هذا التهافت الى وجود نقص في العرض، لذلك لا يرتبط المشكل فيها بارتفاع في الطلب بل بنقص العرض المرتبط أساسا بتداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية، خاصة إذا علمنا أنّ 30 بالمائة من مصدر هذه الزيوت النباتية يأتي من هاتين الدولتين.
أما في الجزائر، فالأمر مختلف حسب الخبير، لأنّه غير مرتبط بنقص العرض فكل المصانع التي تنشط في هذا القطاع تعمل بأقصى طاقتها الإنتاجية، وربط ظهور بوادر أزمة ندرة في مادة الزيت بأسلوب القطيع الذي يسلكه المستهلك، حيث يرتفع الطلب عليه خاصة من صانعي الحلويات والزلابية عند اقتراب شهر رمضان الكريم الذي تفصلنا عنه ما يقارب الأسبوعين فقط، لإعدادهم مخزونا خاصا لهاته السلع.
في ذات السياق، تحدث سعودي عن أزمة السميد المادة التي تعرف ندرة في الأسابيع الأخيرة، حيث أكّد أنّ روسيا وأوكرانيا تستحوذ على معظم الإنتاج العالمي، لكن بالرغم من ذلك تؤكّد تصريحات «رياض سطيف» والمؤسسات المنتجة للحبوب عدم وجود أي نقص في هذه المادة، فقد اقتنت الجزائر قبل أسبوعين كمية معتبرة من القمح في البورصة بسعر جيد مقارنة بأسعاره اليوم التي تجاوزت 20 الى 30 بالمائة في السوق الدولية، لذلك يمكن تفسير سلوك المستهلك على أنّها حالة هلع نتيجة اتباعه أسلوب القطيع لظنه وجود نقص في العرض بسبب الأزمة الروسية - الأوكرانية، لذلك يلجأ الى اقتنائها بكميات كبيرة لتفادي أي تأثره بأزمة الندرة في حال ظهورها الأشهر القادمة.
واعتبر المختص رد فعل المواطن سلوكا مرفوضا لتسبّبه في خلق أزمة غير موجودة أصلا، وكذا تعرضه الى ما حدث قبل سنتين أين فسد السميد المخزن في البيوت بكميات كبيرة من طرف المواطنين بعد إشاعات نقصه بسبب أزمة كورونا، ما أدى الى رميه في المزابل.
فيما أرجع سعودي لجوء المواطن الى تخزين المواد الأساسية لتأمين غذائه الى عدم تخلصه من «الفكر الاشتراكي»، فما زال سوق الفلاح والخوف من عدم وفرتها راسخة في ذهنه بالرغم من أنّها ولّت منذ زمن، فهي متوفرة اليوم خاصة يتحكم فيها القطاع الخاص، الذي يحرص على تحقيق هدف ربحي محض من انتاج هذه المواد، وبالتالي سيحافظ على توفرها في السوق الوطنية بغية تحقيق أرباح مادية.
ولم يستثن المختص ضرورة عدم انسياق المواطن وراء ما يثار هنا وهناك، بل بالعكس من المفروض عند وجود الأزمات يجب عليه تقليل كمية استهلاكه حتى يترك الفرصة لغيره لاقتناء هذه السلع.
وقال الخبير إنّ وجود مشكل توزيع سبب آخر يضاف الى الأسباب السابقة، فبعض الولايات تعرف مشكلا في توزيع هذه المواد، ما يؤثر على توفرها في أسواقها، بالإضافة الى تأثير كون هذه السلع مدعمة على النمط الاستهلاكي للمواطن، فسعر الزيت مثلا في الدول الأوروبية هو أربع أضعاف السعر الموجود عندنا، ونفس الشيء بالنسبة للدقيق، لذلك لا يشعر بخسارة كبيرة عند رميها رغم أن استيرادها ودعمها يكلف أموالا طائلة من العملة الصعبة، بدون استبعاد تعرض هذه المواد للتهريب، فيلجأ الكثير الى تهريب السلع المدعمة لتحقيق ربح مضاعف، مؤكدا في المقابل تداعياتها الخطيرة على الاقتصاد الوطني.
في الوقت نفسه، شدّد سعودي على أهمية ترشيد الاستهلاك بالابتعاد عن ثقافة القطيع، موضحا أنّ الدولة في السنوات القادمة ستتجه الى الدعم الموجه كبديل عن الدعم المطلق، ما سيجعل السلع المدعمة تباع بأسعارها الحقيقية، لذلك سيتحول المواطن لا محالة الى مستهلك رشيد لأنه يحاول اقتناء ما يحتاجه فقط من السلع، لكن أهم شيء أنّنا سنتخلّص عند التحول الى الدعم الموجه من أسلوب القطيع والافراط في اقتناء السلع المدعمة.
عقلنة الاستهلاك ضرورة
 في إجابته عن سؤال «لماذا يلجأ الناس إلى تخزين المواد الاستهلاكية بالرغم من أنه سلوك يساهم بطريقة غير مباشرة في ظهور أزمة الندرة؟»، قال الأستاذ بقسم علم الاجتماع جامعة تامنغست الدكتور نعيم بوعموشة، إنّ الانفاق الاستهلاكي لأي فرد يتوقف على عدة عوامل، منها عوامل أساسية كمستوى الدخل المتاح للفرد، أسعار السلع ومرونتها، وعوامل جزئية أو ثانوية التي تدخل في مثيرات سلوك الانسان لاتخاذ قرار الشراء.
ففي الآونة الأخيرة عرفت الجزائر تغيرات واضحة في أنماط الاستهلاك لدى المواطن، حيث أصبح يمتاز بارتفاع محسوس في معدل الاستهلاك، وزيادة الطلب على مختلف المواد الاستهلاكية خاصة الأساسية منها كالزيت والسميد والسكر والخضر واللحوم...الخ تزامنا مع حلول شهر رمضان المبارك.
لكن ما يميز الواقع الاجتماعي في الجزائر هذه الأيام - حسبه - استمرار موجة اللهفة في خضم أزمة الندرة التي خلقها المواطن نفسه، فبدل عقلنة السلوك الاستهلاكي راح المواطن كالعادة يتهافت على اقتناء مختلف المنتوجات الاستهلاكية بطريقة عشوائية بغية تكديسها خوفا من ندرتها مستقبلا في السوق رغم التطمينات من وزارة التجارة بوفرة المواد الاستهلاكية والدعوة لعقلنة السلوك الاستهلاكي، تجنبا للاحتكار والمضاربة في السلع.
واعتبر المختص الاجتماعي الاشاعة من بين أهم أسباب عودة سلوك تخزين المواد الاستهلاكية والتسبب أزمة الندرة، فقد أدّت دورا كبيرا في ذلك من خلال إثارة البلبلة عبر مواقع التواصل الاجتماعي حول ندرة بعض المواد الاستهلاكية الأساسية خلال الأيام الأخيرة المتزامنة مع اقتراب حلول شهر رمضان، وهي نفس الحالة التي عرفتها الجزائر خلال موجة جائحة كورونا (كوفيد-19) في السنتين الماضيتين، ما دفع المواطنين الى تكديس وتخزين كميات كبيرة من السلع والمواد الاستهلاكية الأساسية،
ما خلّف في الواقع أزمة ندرة في مادة السميد، وارتفاعا جنونيا لأسعار بعض المواد الاستهلاكية ذات الطلب الواسع بسبب المضاربة، واستغلال بعض التجار الجشعين الفرصة لزيادة الربح في مقابل ارتفاع الطلب على الاستهلاك.
وعليه فإنّ الاشاعات كانت ولا زالت تقض مضجع المواطن، وتضعه دائما في حالة خوف ورعب نفسي من حدوث أزمة ندرة، بل وتجعله أكثر استعدادا لتصديق أي خبر في ظل الظروف الراهنة نظرا لانعدام الثقة بين المواطن ووسائل الإعلام الرسمية.
ضف إلى ذلك انعدام الثقافة الاستهلاكية الرشيدة لدى المواطن الجزائري، والتي لا تشكّل فقط خطرا على جيبه، بل خطرا أيضا على الاقتصاد الوطني الذي يمر بفترات عصيبة بين الحين والآخر، ولم يعد معها يتحمّل ثقل عادات استهلاكية سيئة للمواطن الجزائري كالتبذير.
هدر للعملة الصّعبة
 في حديثه إلى «الشعب»، أرجع رئيس الاتحاد الوطني لحماية المستهلك محفوظ حرزلي اللهفة التي تميز سلوك المواطن الاستهلاكي الى الاشاعة التي أصبحت محركا أساسيا له، فيكفي انتشار احداها ليتوجه المواطن الى مختلف المراكز التجارية والأسواق لاقتناء السلع بكميات كبيرة، غير مبال بمساهمة هذا السلوك في خلق أزمة ندرة ما يعكس غياب تام للوعي لدى المواطن، ولاحظ في نفس الوقت أن الاشاعة تخدم المتعامل الاقتصادي أكثر من المستهلك، على ضوء غياب ثقافة استهلاكية رشيدة.
وأكّد حرزلي أنّ اكتساب ثقافة ترشيد الاستهلاك يبدأ من البيت ومن الزوجة والأم بشكل خاص لأنّها من تطلب من الأزواج عدم اقتناء السلع بكميات كبيرة حتى يتربّى أطفالها على ترشيد الاستهلاك واقتناء ما يحتاجه فقط، فاليوم يعيش العالم ظرفا صعبا تعاني بسببه بعض الدول من نقص كبير في هذه المواد كالزيت والسميد، بينما تعرف أسعار المواد الأساسية ارتفاعا كبيرا في السوق الدولية، في المقابل استطاعت الجزائر اقتناء كمية كبيرة من القمح.
في حين لاحظ رئيس الاتحاد الوطني لحماية المستهلك، أنّ الجزائر تستورد طن القمح الصلب بـ 13 ألف دينار بينما تبيعه للمطاحن الوطنية بـ 2280 دينار، بينما تستورد القمح اللين بـ 7000 دينار وتبيعه للمطاحن الوطنية بـ 1280 دينار، بودرة الحليب تستورده بـ 750 دينار من السوق الدولية للكيلوغرام الواحد وتبيعه في السوق الوطنية 157 دينار، تعكس الأرقام فارق كبير بين سعر الاستيراد وسعر بيعها للمؤسسات الوطنية، لذلك من الضروري التوجه نحو عقلنة وترشيد الاستهلاك لأن أي إفراط فيه يعني هدر عملة الصعبة، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار فساد السميد والفرينة بعد تخزينها لمدة طويلة لعدم ملاءمة ظروف تخزينه في المنازل، ونفس الشيء يمكن قوله عن الزيت.
وأشار حرزلي إلى أنّ روسيا وأوكرانيا أهم دولتين تزوّد مختلف دول العالم بالمواد الأساسية، لذلك من الضروري أن يؤدي المستهلك دوره المنوط به لأن الدولة أدّت دورها من خلال استيراد ودعم المواد الأساسية، ولاحظ أن معظم المتعاملين الاقتصاديين يحرصون على انتاج كميات كافية من زيت بل هي متوفرة في السوق، وعليه لا يمكن تبرير اللهفة المميزة لسلوك المواطن الاستهلاكي لخلقت أزمة وفرة لبعض المواد الأساسية.
إلى جانب غياب ترشيد الاستهلاك لدى لمواطن، تحدّث حرزلي عن سبب آخر مرتبط بالتوزيع الذي أدى الى وجود ندرة وعدم وفرة في بعض الولايات، بالإضافة الى المضاربة حيث يقوم بعض التجار بتخزين بعض السلع لرفع سعرها.
أما فيما يتعلق بشهر رمضان الكريم، قال المتحدث إنه إذا لم يعِ المواطن رهانات الوضع الذي نعيشه في سياقه العالمي يسمح له بترشيد الاستهلاك سيكون شهر الصيام صعبا، وسيمضيه بلا أريحية، رغم استيراد الدولة للكميات الكافية من المواد الأساسية حيث أكّدت السلطات المعنية ضمان الوفرة الى غاية شهر جوان القادم حسب الإحصائيات الموجودة.
ما يجعل من المستهلك أساس هذه المعادلة، ففي رمضان يزداد الطلب على الفرينة، السميد، الزيت لذلك يجب تسطير العقلانية والترشيد في الاستهلاك، مع تشديد مصالح الرقابة المراقبة على هذه المواد الغذائية خاصة الأساسية المدعّمة لمنع المضاربة والاحتكار.