طباعة هذه الصفحة

مالي بعد الانسـحاب الفرنســي ..

تــراجع أمني أم تـقـدّم نحــو الاستقــــرار؟

فضيلة دفوس

أقرّ برلمان النيجر قبل أسبوع، نصّاً يسمح بأن تنتشر في البلاد قوات أجنبية، لاسيما فرنسية، لمحاربة الإرهابيين. هذا القرار وبالرغم من التبريرات التي ساقتها نيامي لتمريره، يرمي بالأساس لإيجاد مكان بديل للقوات الفرنسية المنسحبة من مالي، ما يعني أن الوجود العسكري الفرنسي سيستمر بمنطقة الساحل حتى مع تنامي الرفض الشعبي والرسمي له بسبب إخفاقه في دحر الإرهاب، والشكوك التي باتت تحوم حول المقاصد الفعلية لتدخل فرنسا بهذه المنطقة التي كانت لسنوات طويلة ترزخ تحت هيمنتها الاستعمارية.

قرار برلمان النيجر جاء متناغما مع ما أورده الرئيس محمد بازوم قبل أشهر من أن دولة النيجر وافقت على دخول قوات خاصة فرنسية وأوروبية إلى أراضيها من مالي المجاورة، لمحاربة الإرهابيين ومحاولة تأمين حدودها مع دول غرب إفريقيا.
ومن المتوقع أن يغادر مالي حوالي 2400 عسكري فرنسي كانوا جزءاً من قوة «بارخان « التي كانت مكلفة بمحاربة الجماعات الدموية  كتنظيم «القاعدة» و»داعش»، ونحو 900 من القوات الخاصة في فرقة «تاكوبا» التي تضم قوات أوروبية تقودها فرنسا.

لماذا اختيار النيجر؟

من الواضح جدا أن فرنسا التي طردتها دولة مالي شرّ طردة وأرغمتها على تسليم قواعدها العسكرية، لا تريد مغادرة هذه المنطقة التي تعتبر ذات نفوذ إستراتيجي بالنسبة إليها، لهذا تتّجه الأنظار نحو النيجر لتكون نقطة الارتكاز الرئيسية للإستراتيجية الفرنسية الجديدة في غرب إفريقيا والساحل بدلا من تشاد أو مالي.
  لكن لماذا وقع اختيار باريس على النيجر لتكون مركز إستراتيجيتها الجديدة خاصة وهي لا تملك أقوى جيش في المنطقة مثل الجيش التشادي، كما أنها ليست معقل النشاط الإرهابي الذي انطلق من شمال مالي؟.
الجواب نورده على لسان مراقبين سياسيين، إذ يقول بعضهم أن  «ماكرون لا يريد أن يكون مرتبطا بمجموعة من الزعماء العسكريين الذين لم يصلوا إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع، خاصة وأنه تعرّض لانتقادات داخلية وخارجية بدعمه المجلس العسكري التشادي بقيادة محمد ديبي».
ويضيفون بأن « باريس تسعى لتسويق رئيس النيجر محمد بازوم، كنموذج للديمقراطيات الناجحة في الساحل الإفريقي، خاصة وأنه فاز في فيفري الماضي بالانتخابات الرئاسية على الرغم من أنه ينتمي لأقلية عربية لا تمثل سوى 1 بالمائة من عدد السكان».
بالمقابل يرى خبراء آخرون «أن المصالح الاقتصادية هي الدافع الرئيسي وراء تمسّك فرنسا بنشر قواتها في النيجر، فباريس  - بحسبهم- وبسبب المنافسة الشرسة التي باتت تواجهها من طرف قوى دولية تغلغلت إلى هذه المنطقة، قرّرت أن لا تخسر النيجر وما توفّره لها من خيرات، كما خسرت مالي، خاصة وأن النيجر هي إحدى أكبر دول غرب إفريقيا مساحة وأغناها باليورانيوم، إذ تصنّف الرابعة عالميا في إنتاج هذا المعدن، كما تنتج الذهب، والبترول، وتمتلك الكثير من الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة.
 وتسيطر فرنسا على مناجم اليورانيوم في النيجر والتي تديرها شركة «أريفا» الفرنسية، كما يمد يورانيوم النيجر فرنسا بـ35 بالمائة من احتياجاتها من الطاقة النووية، ما يمثل 75 بالمائة من الطاقة الكهربائية الفرنسية، وهو ما جعل البعض يقول بأن «النيجر تضيء فرنسا باليورانيوم».

 ليس انسحابا بل إعادة انتشار

مخطئ من يعتقد بأن باريس التي شرعت في سحب قواتها تدريجيا من مالي، ستعود إلى ديارها، بل على العكس تماما، فهذا الانسحاب  هو من أجل إعادة التمركز في الدولة الجارة النيجر، بانتظار تغير معطيات سياسية في المنطقة، بما قد يساعدها على إعادة الانتشار في المستقبل. ويأتي ذلك على الرغم من استمرار تصاعد الرفض الشعبي والسياسي للتواجد العسكري الفرنسي في مالي، وفي مجموع دول الساحل.
نجاح باريس في إقناع حكومة النيجر باستقبال القوات الفرنسية وإعلان رئيسها محمد بازوم احتضان بلاده للقوات المنسحبة من مالي، يصب أيضاً، كما سبقت الإشارة إليه، في خانة البقاء على مقربة من مصالحها، ففرنسا ليس في نيّتها ولم تتخذ أي قرار بالانسحاب من منطقة الساحل كمنطقة حيوية بالنسبة لمصالحها، بل كلّ ما فعلته هو الانتقال من دولة إلى أخرى في نفس الإقليم، والانسحاب يعتبره البعض تكتيكا يصب في خانة تهدئة الشارع الغاضب من باريس في هذه الدول، وامتصاص مشاعر الغضب المتنامية وسط شعوب هذه المنطقة التي ترى بأن محاربة الإرهاب في الساحل، واحدة من البوابات التي جعلتها فرنسا مدخلا للوجود الدائم في المنطقة واستنزاف ثرواتها.

أسباب القطيعة بين باماكو وباريس

الانسحاب الفرنسي من مالي أصبح واقعا، وقد تجسّد منذ منتصف فيفري الماضي بإخلاء العديد من القواعد العسكرية الفرنسية، امتثالا لما هدّد به الرئيس إيمانويل ماكرون عقب الانقلاب العسكري في مالي في ماي2021، فما السبب وراء هذا الانسحاب، وما نتائجه على العلاقات الفرنسية المالية وأيضا على الوضع الأمني في دولة مالي و في الساحل عموما؟.
برّرت فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة التي تعتبر مالي ومنطقة الساحل الإفريقي نقطة نفوذ جيوسياسي لها، قرار الانسحاب بما قالت رفضها التعامل مع سلطة عسكرية جاءت على ظهر دبابة وتسعى للبقاء في السلطة، واعتراضها على وجود قوات «فاغنر» المحسوبة على روسيا، لكن جل المراقبين السياسيين يعتقدون بأن الأسباب أبعد من اعتراض باريس على المجلس العسكري الذي تمخّض عن الانقلاب، فكثيرون يؤمنون بأن باريس ظلت تصنع الرؤساء في إفريقيا الفرنكوفونية لعقود طويلة ، لهذا وجب البحث عن المبررات في جهة أخرى.
لقد تدخلت فرنسا عسكريا في دولة مالي بطلب من سلطات باماكو في جانفي 2013 لمساعدتها على مواجهة  المجموعات الإرهابية والمتمردة التي استحوذت على المدن الرئيسية في شمال البلاد، و حقّق التدخل الفرنسي بعض مبتغاه، لكن باريس قدّرت بأن الخطر الإرهابي مازال قائما وقرّرت الإبقاء على قواتها، ومع مرور الوقت والسنوات، تجلّى واضحا فشل القوات الفرنسية في دحر الإرهاب الذي تغوّل وتمدّد وأصبح يضرب في كلّ مكان، وزادت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية من استفحال الوضع، الذي تحوّل إلى غضب شعبي عارم ضدّ السلطة الحاكمة في باماكو بقيادة إبراهيم كيتا، وضدّ الوجود العسكري الفرنسي، وانتهى تفجّر الوضع بانقلاب عسكري في 18 أوت 2020 ، أعقبه انقلاب ثان في ماي 2021.
مع وصول القيادة العسكرية الجديدة إلى الحكم في مالي، بدأ الوجود العسكري الفرنسي يتداعى والشوارع تنتفض مصرّة على رحيل القوات الفرنسية، وتجلى واضحا أن الطلاق بين باماكو و باريس أصبح مسألة وقت، وأدركت فرنسا أن موازين القوى لم تعد في صالحها بعدما دخلت دول على الخط لتزاحمها في منطقة نفوذها التقليدية، موفّرة بدائل عسكرية رأى فيها الماليون سلطة وشعبا قشّة النجاة من خطر الإرهاب.

بروز قوى دولية جديدة

لقد أدركت فرنسا أن وجودها العسكري في مالي بلغ نهايته، عندما شهدت الشعارات المناوئة لها ترفع في كلّ المظاهرات والاحتجاجات، وأيقنت بأن ساعة الرحيل حلّت لما بدأت تكتشف توجهات القيادة العسكرية الجديدة تحت سلطة عاصيمي كويتا، فهذه القيادة بيّنت بأنّ النخب التقليدية التي كانت داعمة للوجود الفرنسي، أبعدت لصالح نخب قرّرت إعادة النظر في سياسات بلادهم تجاه فرنسا التي لم يعد أحد يرغب بها.
حتى تتفادى الطرد المهين، استبقت فرنسا الأمر وأعلنت في جوان 2021، أنها ستسحب قواتها العسكرية، خلال سنة، وفعلا بدأت باريس في الانسحاب من قواعد عسكرية متمركزة في مدن الشمال مثل تمبكتو وكيدال، وسلّمت قبل أيام  قاعدة غوسي إلى القوات المسلحة المالية، كما باشرت تقليص عدد القوات من 5 آلاف إلى أقل من 3 آلاف عسكري، وهي الخطوات التي أغضبت باماكو التي اتهمت فرنسا رسميًّا بالتخلي عنها في منتصف الطريق، ودخلت  العلاقة بين الدولتين حالة من التصعيد والتوتر غير المعهودين وصلت إلى حدِّ طرد السفير الفرنسي من مالي، ومؤخرا أوقفت باماكو  بث قنوات فرنسية وذلك بعد مضي يومين على صدور بيان رسمي لقيادة أركان الجيش المالي يتهم «الجيش الفرنسي بممارسة التجسس والتخريب، عبر زرع نزاعات وخلافات بين السكان المحليين، بهدف إقناع الرأي العام بأن وجود فرنسا في مالي أمر ضروري للاستقرار».
باريس  تبرّر انسحابها من مالي بعدم رغبتها في مساعدة دولة تحكمها سلطة تمخّضت عن انقلاب، لكن الحقيقة الثابتة أن الماليين هم الذين أجبروها على المغادرة، وليس هذا فقط، بل اتّهموها حتى بالتواطؤ مع الإرهابيين وبالتسبّب في استفحال الإرهاب بدل دحره، ويقول خبراء «إن الحضور المتزايد لقوى دولية في الساحل، أتاح اختيارات بديلة أمام النخب السياسية والعسكرية في دول المنطقة التي قررت عقد اتفاقيات أمنية معها باعتبارها بديلًا متاحًا عن القوات الفرنسية في المنطقة مثل مجموعة «فاغنر» للاستشارات الأمنية».

الاعتماد على الذات

تتخوّف الكثير من الجهات من أن يؤدي الانسحاب العسكري الفرنسي من مالي إلى فراغ أمني تستغله المجموعات الإرهابية لتشديد و توسيع عملياتها الدموية، ومن بين هذه الجهات المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا «إيكواس» التي أبدت قلقا من الفراغ الذي قد يحدثه انسحاب القوات الفرنسية والأوروبية من مالي.
وعبر عن هذا القلق الرئيس الإيفواري الحسن واتارا، قائلا إن «الانسحاب المتوقع للقوات الفرنسية والأوروبية من مالي يحدث فراغا سيحتم على جيوش غرب إفريقيا البقاء بالخطوط الأمامية لقتال الجماعات الإرهابية بالساحل».
أما الرئيس السنغالي ماكي سال، فحذر من «أن الجماعات الدموية التابعة لـ «داعش» والقاعدة، ستعتبر الانسحاب الفرنسي والأوروبي من مالي انتصارا لها، وقد تسعى لتكثيف هجماتها في شمال مالي باعتبارها النقطة الأضعف في الساحل الإفريقي، قبل أن تتمدد جنوبا نحو باماكو ودول الساحل الأخرى، بل وحتى دول غرب إفريقيا».
وبقدر ما يشكّل الإعلان عن الانسحاب الفرنسي من مالي انتصاراً للمقاربة التي تعتبر تواجد القوات الأجنبية في شمال مالي ومنطقة الساحل عموما، مستقطبة للإرهابيين وعاملاً غير مساعد على تحقيق الاستقرار لتركيزها على الحل الأمني دون الالتفات للعوامل الأخرى مثل غياب التنمية وارتفاع نسبة البطالة والفقر، بقدر ما ترفع من منسوب المخاوف من أن يُحدث الانسحاب حالة فراغ توسّع المجال الجغرافي للجماعات الدموية وتهديداتها، لهذا وجب الاعتماد على الذات وإنتاج حل محلي بين الماليين أنفسهم يغني عن الحلول الأمنية والتدخلات الأجنبية الفاشلة، خصوصاً و أن الظرف يساعد على ذلك بعد تنامي عامل الثقة بين المجلس الانتقالي الحاكم والشعب المالي، اللذان يتقاطعان في الإصرار على التحرّر من الوجود الفرنسي الذي يعتبرانه امتدادا للهيمنة الاستعمارية التي لم تجلب للبلاد غير الويلات.
و الحلّ الداخلي، لا يمكن إنتاجه إلا بتنفيذ اتفاق السّلم والمصالحة المنبثق عن مسار الجزائر، وتجاوز حالة الانسداد في عملية السلام بالابتعاد عن المواقف والتصريحات التي من شأنها أن تزيد من عدم الثقة بين الماليين وتعقّد إعادة إطلاق توافقية لمسار تنفيذ الاتفاق.
يبقى، أن نشير إلى أن الوضع في مالي معقّد، ويحتاج أوّلا إلى إرادة قويّة من أبنائه لتوحيد الصفوف وتجميع القدرات والإمكانيات وتوجيهها صوب العدو المشترك الذي تجسّده المجموعات الإرهابية، كما يجب الاعتماد في محاربة الإرهاب على شقين أساسيين هما؛ مكافحة الجماعات الدموية في الميدان من جهة، ومحاربة أفكار التطرف ووقاية المجتمعات الأفريقية من الأيديولوجية الخبيثة لهذه الجماعات من جهة أخرى.