طباعة هذه الصفحة

سجلت نموا سكانيا وتنوّعا اقتصاديا

البليـدة الثورية .. مسيرة البناء متواصلة

البليدة: أحمد حفاف

تستعد ولاية البليدة لتحتفل بالذكرى الستين لاسترجاع السيادة الوطنية، فهذه الولاية الثورية التي قاومت الاستعمار الفرنسي، منذ الأشهر الأولى لتواجده، ستحتفي أيضا بما أنجزته خلال فترة الحرية التي ينعم بها سكانها.
لا يختلف إثنان بأن البليدة ومدنها الكبرى مثل بوفاريك والأربعاء، هي منطقة جذب للجزائريين كونها تقع في وسط البلاد، وتبعد عن العاصمة بحوالي 50 كيلومترا فقط، كما أنها مضيافة وتحوز على مقومات العيش الكريم.
الحقيقة التاريخية التي قد يجهلها البعض هي أن البليدة قاومت بشدة الاستعمار الفرنسي، واستبسل أبناؤها أمام توسع جيش الاحتلال الفرنسي، منذ دخوله إلى الجزائر العاصمة من منطقة سيدي فرج عام 1830.
 وبعد 12 سنة من المقاومة البطولية، وسقوط عشرات الآلاف من الجزائريين في ميدان الشرف، أمضى الجيش الفرنسي اتفاقية صلح مع أعراش المنطقة في جوان 1842، ليقرر بعدها بناء أربع قرى لإسكان المعمرين، وتوطيد الاستعمار بغرض نهب خيرات البلد بسهل «متيجة « التي يقع في مجمله بإقليم ولاية البليدة.
وبُنيت هذه القرى في شكل طوق حول المدينة القديمة للبليدة، وهي Monpensier التي حملت بعد الاستقلال اسم الشهيد مصطفى بن بوالعيد، Joinville التي تحمل اسم حي زعبانة حاليا، Dalmatie التي تحولت إلى بلدية أولاد يعيش، و Beni Mered التي أصبحت بلدية بني مراد.
 
نمو سكاني كبير

لم يتجاوز سكان ولاية البليدة 250 ألف نسمة غداة الاستقلال، وذلك راجع إلى استحواذ المستوطنين الأوربيين الذين جلبتهم فرنسا على الأراضي الفلاحية في سهل «متيجة»، ما جعل الجزائريين يضطرون إلى العيش في المناطق الجبلية.
وبعد تفجير الثورة في الفاتح من نوفمبر 1954 تم طرد المستعمر في الخامس جويلية 1962،عرفت البليدة نموا سكانيا كبيرا خاصة بعد تحسن الأوضاع الاجتماعية للأسر الجزائرية، وتوفير الرعاية الصحية لهم من قبل الدولة.
 وكان في الماضي يقصدها عمال مختصون في الفلاحة من الولايات المجاورة مثل عين الدفلى والمدية، للقيام بأعمال موسمية في تخصصهم مثل تقليم الأشجار أو جني المحاصيل، ثم يعودون إلى ذويهم بسبب عدم توفر الظروف للاستقرار بالبليدة.
 لكن مع بداية الاستقلال وتأميم الأراضي الفلاحية، أصبح من الممكن لهؤلاء الفلاحين الإقامة في البليدة، وزيادة على ذلك تعتبر البليدة منطقة تجارية مهمة، ولذا استقطبت الجزائريين من كل أنحاء الوطن للعيش فيها خاصة وأن ثورة البناء بعد الاستقلال، كانت بحاجة إلى يد عاملة في مجال البناء والأشغال العمومية.
 في انتظار إجراء إحصاء السكان نهاية السنة الحالية، فقد ناهز سكان ولاية البليدة مليوني نسمة خاصة مع بناء أقطاب سكنية جديدة بها، أبرزها المدينة الجديدة بوعينان التي خصصت كلها لإسكان عائلات من الجزائر العاصمة، بسبب عدم توفر هذه الأخيرة على العقار.
 
تحوّل وتنوّع اقتصادي

ومن النعم التي جعلت من البليدة منطقة جيوإستراتيجية منذ القدم، أنها تتوفر على أغلبية أراضي سهل «متيجة» التي تعتبر الأفضل من حيث الخصوبة في العالم، وهذا ما جعلها تبقى رائدة في المجال الفلاحي، قبل التطور الذي حصل مؤخرا بالاستثمار في أراضي الولايات الصحراوية مثل وادي سوف والمنيعة وبسكرة وورقلة والبيض.
وظلت البليدة تنتج الخيرات خاصة في مجال الأشجار المثمرة وبالأخص في زراعة الحمضيات، مع الإشارة إلى أن سهل « متيجة « من بين الثروات التي أغرت فرنسا لاستعمار الجزائر بعد زيارة استكشافية قام بها جواسيسها.
 وكان النشاط الاقتصادي للاستعمار الفرنسي يقتصر على المجال الفلاحي، ومستخلصات النباتات العطرية والطبية التي كانت توجه لصناعة العطور والمواد الصيدلانية بفرنسا، وكانت تقوم بذلك في وحدتين في بلديتي الشفة وبني مراد.
وفي مجال الصناعة ورثت البليدة غداة الاستقلال شركة مختصة في صناعة الهياكل الحديدية  بمدينة البليدة، والتي أممت وحملت اسم CR METAL، وشركة أخرى ناشطة في مجال النسيج في مدينة بوفاريك، وبعد الاستقلال شهدت تطورا صناعيا ملحوظا، ما حقق بها تنوعا اقتصاديا متميزا.
 
الصناعة قطاع استراتيجي

شكل القطاع الصناعي مصدرا من مصادر النمو الاقتصادي في ولاية البليدة، وكانت لديه أثار اجتماعية مهمة هو الأخر باستقطاب الأيدي العاملة الكثيفة، في الوقت الذي تسعى اللجنة الولائية للاستثمار بتطويره، من أجل تجسيد سياسة الإقلاع الاقتصادي.
وتأسست أول منطقة صناعية في البليدة عام 1976 بحي بن بولعيد التابع لبلدية البليدة، تتميز بمساحة إجمالية قدرها 91,08 هكتار، والتي تضم 96 وحدة تجزئة، وحاليا تنشط بها 72 مؤسسة.
 ومع الإقبال الكبير على الصناعة، وتشجيعها شهد نفس الحي منطقة صناعية جديدة بمساحة إجمالية قدرها 52 هكتارا، جزأت إلى 100 وحدة، تنشط بها حاليا 78 مؤسسة.
في سنة 1976 شهدت بلدية أولاد يعيش إنشاء منطقة صناعية أخرى على مساحة 34 هكتارا، جزأت إلى 64 قطعة، وينشط بها حاليا 58 مؤسسة، وتدر هذه الشركات أموالا معتبرة من الجباية المحلية، تسمح للبلدية باستغلالها في انجاز مشاريع تنموية بتمويل ذاتي.
وزيادة على المناطق الصناعية الثلاث المشار إليها، تعززت الصناعة في البليدة بست مناطق نشاطات بداية بمنطقة عين الرمانة في 1988، ثم منطقة « أطلس» بمدينة البليدة سنة 1994، وفي نفس السنة استحدثت منطقتين في بني مراد، إضافة إلى بلدية بوعينان، ومنطقة « كاف الحمام» التي استحدثت سنة 2004 في أولاد يعيش.
وما تجب الإشارة إليه أن، بلدية قرواو تحوز على منطقتي نشاطات لم تؤسس بموجب قانون، بل هي عبارة عن مجمعات صناعية تشكلت بطريقة عفوية من قبل مستثمرين في مجالات مختلفة، تنشط بها شركات صناعية بصفة منفردة مثل شركة الحياة التابعة لمستثمر تركي، التي تملك مصنعا في بلدية بوعينان متخصص في صناعة مواد التنظيف.
كما تتميز المناطق الصناعية ومناطق النشاطات كونها مهيأة، ومزودة بمختلف الشبكات مثل الطرقات، الكهرباء، الغاز والمياه وشبكة الصرف الصحي، وقربها من المرافق العمومية والهيئات الإدارية، وتٌلبي احتياجات طلبات التكوين في مختلف التخصصات لفائدة متربصي التكوين المهني والطلبة الجامعيين.
 
نهضة في التعليم والعلم

 سجلت البليدة نهضة في مجال التعليم في كل أطواره خلال 60 سنة من الاستقلال، بفضل عدد هائل من المؤسسات التربوية أنجزت تلبية لتزايد عدد السكان، ولتكريس مجانية التعليم ضمن الطابع الاجتماعي للدولة، بعدما كان عدد المتمدرسين في فترة الاستعمار يعد على الأصابع.
ويقول المجاهد عبد الرزاق خشنة، بأن والده حرص على تدرسيه في مدرسة الإرشاد بحي الدويرات العتيق، أين كانت إطارات جمعية علماء المسلمين الجزائريين يلقنون الجيل الذهبي من مفجري الثورة المفاهيم الأساسية في الدين واللغة العربية، ومن ثمة كبر لديهم حب الوطن وكرهم لفرنسا، على حد تعبيره.
 كانت مدينة البليدة ومدن أخرى، تابعة للولاية مثل بوفاريك تتوفر على مدارس قليلة، يدرس بها أبناء المستوطنين في كل الأطوار، وكان قلة قليلة من الجزائريين من يلتحق بها، وحتى من يدرس بها كان يعاني من التمييز لدرجة أنه يحصل على نقاط ضعيفة بالرغم من تفوقه، بل وصل التمييز الى حرمان أمثال المجاهد خشنة، من نيل شهادة التعليم المتوسط مع حصوله على المعدل المطلوب لما كان يدرس في « ابن رشد» التي تحولت إلى ثانوية بعد الاستقلال.
 وتتجلى النهضة العلمية في البليدة بتأسيس جامعة في 20 جوان 1977 في شكل مركز جامعي في بلدية أولاد يعيش، ومع ذلك لم تفتح أبوابها للطلبة إلا بعد أربع سنوات أي في 8 سبتمبر 1981.
 ثم تحولت إلى جامعة في 1 أوت 1989، وأصبحت قبلة للطلبة من كل أنحاء الوطن، وأسهمت في تخرج إطارات في شتى المجالات.
 وبفضل التطور في مجال التعليم والبحث العلمي، أصبحت البليدة تعول على أبنائها في مجال التسيير بعد سنوات من الاستقلال عرفت خلالها نقصا في الإطارات على غرار بقية ولايات الوطن.
 لتعزز بجامعة ثانية في بلدية العفرون عام 2013  بنقل كليات الآداب والحقوق والاقتصاد واللغات، والعلوم الإنسانية والاجتماعية من المؤسسة الجامعية الأولى.
وتحمل جامعة البليدة 1 تسمية شخصية ثورية بارزة، ويتعلق الأمر بالمجاهد المتوفى سعد دحلب الذي كان أحد العباقرة الذين شاركوا في مفاوضات ايفيان التي حددت مصير الجزائر، أما جامعة البليدة 2 فتحمل اسم المجاهد لونيسي علي الذي كان أحد الطلبة الذين ناصروا القضية الجزائرية في المهجر.

 إنجازات أصبحت معالم للمنطقة

 وبحسب آخر الإحصائيات التي حصلنا عليها، من قبل مديرية الأشغال العمومية لولاية البليدة، فإن البنية التحتية شهدت استثمارات كبيرة تماشيا مع النمو الديمغرافي الكبير، إ تملك ولاية البليدة شبكة طرقات مهمة تبلغ 1543 كيلومتر طولي.
وتنقسم هذه الشبكة إلى 265 كلم طرق وطنية (13 محورا)، 295 كيلو متر مربع طرق ولائية (30 محورا)، و695 كيلومتر مربع طرقا بلدية، وتضم 130 منشأة فنية من جسور وأنفاق وممرات، وتتطلب صيانة مستمرة للحفاظ عليها.
 وماعدا أربع بلديات، فإن 21 بلدية من مجموع  25 تضمها ولاية البليدة، تحوز على محولات للدخول إلى الطريق السيار شرق- غرب، وحتى الطريق السيار شمال-جنوب، وبسبب التوسع العمراني تقوم السلطات بتجسيد مشاريع إضافية كل سنة.
 ويعتبر ملعب الشهيد مصطفى تشاكر، من بين أهم المرافق التي اُنجزت في ولاية البليدة بعد الاستقلال، فهو أفضل المنشآت الرياضية التي تحولت إلى معلم حقيقي، خاصة وأنه ظل لسنوات يحتضن مباريات المنتخب الوطني لكرة القدم، والمباريات المهمة في هذه الرياضة.
ويعد مسجد الكوثر أحد المرافق الدينية التي تُصنف من بين المعالم المهمة في المنطقة، فهو بمثابة مؤسسة دينية تسهر على ترقية كل ما يتعلق بالدين الإسلامي، ومؤخرا شهد إعادة إحياء هيئة الإقراء في 2015 لتكوين الطلبة المجازين في القراءات على الطريقة الجزائرية.
 واللافت أن ولاية البليدة تولي أهمية بالغة للحفاظ على الأصالة، ويظهر ذلك جليا من خلال مساجد مهمة شيدت بعد الاستقلال على غرار مسجد الشيخ بن جلول التي يقع في حي الشهيد بن بولعيد، ويحمل اسم أحد مشايخة المنطقة الذين سعوا لتنوير الأجيال، وإصلاحهم بتلقينهم العقيدة الإسلامية الصحيحة.
 ويعتبر مستشفى « فرانتز فانون» الذي يحمل اسم مواطن فرنسي ناصر الثورة الجزائرية، بمثابة أحد المرافق المهمة التي تحوز عليها ولاية البليدة، والذي يقصده الجزائريون المرضى للعلاج، منذ أن كان مخصصا فقط للأمراض العقلية، وبعدما شهد إضافة تخصصات طبية أخرى.

البناء متواصل للأجيال المقبلة

 ولأن سنة 2022 اقتصادية بامتياز، من خلال تحقيق الإقلاع الاقتصادي الذي سينجم عنه انتعاشا اجتماعيا لا محالة، فإن البناء سيتواصل في البليدة، لأجل مصلحة الأجيال المقبلة التي ستأخذ على عاتقها مسؤولية الدفاع عن الوطن بالعمل والمساهمة في التنمية بكل الاشكال الممكنة.
وفي الشق الاقتصادي، تسعى لجنة الاستثمار للولاية إلى إقامة أربع مناطق صغيرة للنشاطات في بلديات الأربعاء وأولاد يعيش وبني مراد، والتي ستخصص في مجملها لفائدة الشركات الناشئة، في وقت تبذل الولاية جهودا لتوفير حاجيات المواطنين أبرزها السكن والشغل.
 وخصصت ولاية البليدة برنامجا احتفاليا مميزا تحسبا للخامس جويلية، وبهذه المناسبة ستشرع في توزيع برنامج يشمل وحدات سكنية من مختلف الصيغ، وستعزز البنية التحتية لتزويد الساكنة بالماء الشروب، في انتظار دخول مؤسسات تربوية حيز الخدمة، مع بداية الموسم الدراسي الجديد.