طباعة هذه الصفحة

الشّاعر والمؤرّخ الأخضر رحموني:

المسرح أقوى الفنون التي خدمت القضية الجزائريـة

حوار: حبيبة غريب

يعتبر المهندس، الشّاعر، المؤرخ، الإعلامي والناشط الجمعوي الأخضر رحموني أنّ الأوبرات عمل فني استطاع تخليد الذاكرة الوطنية بواسطة التأريخ للأحداث، ويعود في هذا الحوار الذي خصّ به “الشعب” إلى مشاركة المثقفين والمبدعين والفنانين الجزائريين في معارك تحرير الجزائر وتشيدها من خلال الأعمال السينمائية والمسرحية والفن التشكيلي والشعر والرواية والموسيقى والغناء، مسلّطا الضوء على فن الأوبيرات، الذي ارتبط منذ الاستقلال بكل الأعياد الوطنية والتظاهرات الكبرى.
 
الشعب: شكّل الإبداع الأدبي والفني من رواية وشعر وتمثيل ورسم وإنشاد وموسيقى، وسيلة للدفاع عن الجزائر وتدوينا للذاكرة الوطنية وتخليد بطولات المقاومة الشعبية والإشادة بمختلف محطات البناء والتشييد من أجل جزائر مزدهرة ومتحضّرة، هل لك أن تذكّرنا ببعض هذه الأعمال وأصحابها؟
الشّاعر الأخضر رحموني: لا زال تاريخ الجزائر في محطاته المتعاقبة، ومنها محطة الثورة التحريرية الكبرى مبعث إلهام الأدباء والفنانين جزائريين كانوا أو عربا، ومن الدول الغربية أيضا نتيجة لعظمة هذه الثورة وأصالتها، والقيم الإنسانية التي انطلقت منها.
فمنهم من اتخذ الفن وسيلة من وسائل النضال لبث الوعي السياسي، والدفاع عن الشخصية الوطنية لأنّهم آمنوا بالرسالة المقدّسة التي يحملونها، مع التزامهم بالقضايا العادلة.
فالشّعراء عبّروا عن أحلام الشعب وتطلّعاته في الإعتاق من جور الاستعمار الغاشم، وحاولوا ربطه بماضيه المجيد حفاظا على المقومات الأساسية للشخصية الوطنية، وكانت الثورة ببطولاتها وأمجادها من الملاحم الكبرى التي تناولوا مواضيعها كمفدي زكريا ومحمد العيد آل خليفة وأحمد سحنون، بل نجد منهم من سقط شهيدا في ساحات الوغى كمحمد الأمين العمودي والربيع بوشامة وعبد الكريم العقون وغيرهم.
 - كيف خلّدت الصّورة والأفلام الوثائقية محطات المعارك والمقاومة الشّعبية؟ وما كان الصّدى الذي خلّفته عند الرأي العام الدولي؟

 قام بعض المصوّرين بالتقاط مجموعة من الصور الحية من المعارك في الجبال والتواصل مع المجاهدين، وتسجيل أحاديثهم التي يمكن إدراجها ضمن الأشرطة الوثائقية والأفلام التسجيلية، والهدف هو تقديم شهادة إثبات عن طريق الصورة إلى الخارج. ومن هؤلاء لخضر حمينة وجمال شندرلي، ومن بين الأعمال المقدمة: جزائرنا، صوت الشعب، ياسمينة..غير أن السينما الجزائرية ظهرت بعد الاستقلال مباشرة بإنجاز أعمال سينمائية قصيرة وطويلة، وقائعها نشأت في رحم الثورة بين لهيب الحرب وأحضان الأطفال في المدن والجبال، وعبّرت عن أحداثها بصدق، وقد حظيت هذه الأفلام بضجّة إعلامية عبر دور العرض في مختلف بلدان العالم، يمكن ذكر بعضها متسلسلا حسب تاريخها وهي: “فجر المعذّبين” للمخرج أحمد راشدي، “معركة الجزائر” للمخرج الإيطالي جيلوبونتيكورفو، “الليل يخاف من الشمس” لمصطفى بديع، “ريح الأوراس” و«حسن طيرو” للخضر حامينة، “الخارجون عن القانون” لتوفيق فارس، “الأفيون والعصا” لأحمد راشدي، “الطريق” لسليم رياض، “دم المنفى” لمحمد إيفتيسان، “نوة” لعبد العزيز طولبي، “ديسمبر” لحامينة، “الإرث” لمحمد بوعماري، “مختارات من سنوات الجمر” للخضر حمينة، “المنطقة المحرّمة” لأحمد لعلام، “حسان طيرو يلوذ بالفرار” لمصطفى بديع، “دورية نحو الشرق” لعمار العسكري، “تحت ظل الكروش” لبوحفص بوشنوف، “الخالدون” لبن عمر بختي، “الغاضبون” للامين مرباح وغيرها من الأفلام..
- وماذا عن نصيب الفن التشكيلي في النضال من أجل استرجاع السيادة الوطنية؟
الرسّامون اتّخذوا من الخط والألوان سلاحا في الثورة المباركة، وعبّروا في لوحاتهم  المستلهمة من قدسيتها عن مواقفهم النضالية كالرسام التشكيلي محمد خدة ومحمد إسياخم، اللذين اعتمدا على التجريدية لإيصال أفكارهما عبر رسائل ثورية تدين الاستعمار الفرنسي، وتترجم الآلام النفسية والجسدية للفرد الجزائري.
لكن يبقى المسرح سيد الفنون هو المجال الذي خدم أكثر القضية الجزائرية، وساهم في نشر الوعي والروح الوطنية في أوساط الشعب الجزائري، وقدّم بطولات تاريخ الجزائر، لا يمكننا نسيان المجال المسرحي الذي دخله الجزائريون بقوة رغم الإمكانات البسيطة والعقبات التي كانت تقف في طريقهم، وما فرقة المناضل المسرحي شباح المكي - الكوكب التمثيلي الجزائري - إلا دليل على ارتباطها بالحركة الوطنية وهموم الشعب الأعزل، حيث تمّ الزج به في غياهب سجن أولاد جلال لمدة شهر سنة 1936، بعدما تمّ جره مقيد اليدين وراء حصان لمسافة 100 كلم بسبب رفضه معاملات شيخ العرب ابن قانة، وحاول في مسرحيته “فرعون العرب” تصوير جبروته ضد الأهالي وتسلطه عليهم. ومنهم من التحق بجيش التحرير الوطني كالشهيد مجيد رضا شقيق حبيب رضا، الذي سقط شهيدا سنة 1960.
- كيف ساهمت الفرقة الفنية التابعة لجبهة التحرير الوطني في التعريف بقضية الشّعب الجزائري؟
 في مارس 1958 تمّ إنشاء الفرقة الفنية التابعة لجبهة التحرير الوطني في تونس بقيادة مصطفى كاتب، التي تشكلت من مجموعتين، فرقة الغناء والموسيقى وفرقة المسرح، وقد قدّمت في فترة قصيرة عروضا عديدة في دول شقيقة، والهدف من ذلك هو اطلاع الرأي العام العالمي بالقضية الجزائرية، وتذكيرها أنّ هناك شعب يناضل من أجل قضية عادلة لتحرير بلاده، شعب له كرامته وشخصيته التي تميزه عن المستعمر، ومن بين الفنانين في صفوفها عبد الحليم رايس ومصطفى سحنون والهادي رجب.
هذه الفرقة التي تكوّنت منها بعد الاستقلال فرقة المسرح الوطني الجزائري، التي أخذت على عاتقها جمع الممثلين وتشجيعهم وإدماجهم لإنشاء مسارح جهوية، وتقديم عروض مسرحية تتناول القضايا الاجتماعية والوطنية، وإن غلب عليها الطابع التاريخي مثل مسرحيات “132 سنة”، و«إفريقيا قبل سنة” و«شعب الليل” لعبد الرحمان كاكي، ومسرحية “الجثة المطوقة” و«الكاهنة والرجل ذو النعل المطاطي” عن حرب فيتنام لكاتب ياسين و«شيطان في ثوب ملائكة” من إنتاج فرقة الفن الدرامي بعنابة التي صنعت الفرجة، وأثثت المشهد المسرحي في الجزائر في وقتها..
- هل يمكن القول إذن إنّ الأوبرات هي تسلسل للمسرحيات؟
 فعلا فمن رحم هذه المسرحيات ونجاحاتها ظهرت الأوبرات، التي وجدت في التلفزيون الجزائري الفضاء المناسب لرواجها. والأوبرات مسرحية غنائية يمتزج فيها النثر مع الشعر،ت كون من تأليف شاعر واحد أو بمشاركة مجموعة من الشعراء، تمتاز بالحوار القصير بين الشخصيات ومقاطع غنائية خفيفة ذات طبوع مختلفة، ولوحات مشهدية راقصة تجسد فكرة العرض. وهي من الأجناس الجديدة في الأدب الجزائري لصعوبة الكتابة في هذا اللون الأدبي وخصوصيته الإبداعية.
- متى كان عرض أوّل أوبرات في الجزائر؟
 ظهرت أول مسرحية شعرية بالفصحى سنة 1938 للشاعر محمد العيد، وحملت عنوان “بلال بن رباح” التي تمّ تمثيلها من طرف تلاميذ مدرسة الشبيبة الإسلامية بالعاصمة يوم كان الشاعر مديرا بها، وكذا مسرحية “رواية الثلاثة” للشيخ محمد البشير الإبراهيمي، إلا أنها لم تأخذ طابع الأوبرات للظروف التاريخية، وانتماء أصحابها إلى التيار الإصلاحي.

ظهرت الأوبرات بعد الاستقلال لتحمل قضايا وطنية وتاريخية

- المعروف أنّ فن الأوبرات عرف انتعاشا كبيرا بعد الاستقلال، ما هو التغيير الذي طرأ عليه؟
 ظهرت الأوبرات بعد الاستقلال، وانتشرت مع بداية العقد السابع من القرن الماضي لتحمل قضايا وطنية وتاريخية، بالإضافة إلى المواضيع العاطفية والاجتماعية، مع نقد بعض السلوكيات السلبية في طابع نثري ومقاطع شعرية، مع تنويع البحور حتى تتناسب مع المواقف المجسدة على ركح الخشبة، والحالة النفسية للأشخاص.
ومن أبرز كتّابها من الشعراء: محمد الأخضر السائحي ومحمد بلقاسم خمار وعمر البرناوي وعبد القادر بن محمد وسليمان جوادي وأحمد حمدي. ذكرنا هؤلاء على سبيل المثال وليس الحصر، فهناك شعراء آخرون.
- كيف تمّ التّوجّه من المسرحية التاريخية إلى الأوبرات الغنائية؟
 تمّ التوجه إلى هذا النوع من المسرح الغنائي بسبب بقائه راسخا في ذاكرة المشاهد لاعتبارات فنية، كاعتماده على الأداء التمثيلي المسرحي بحوارات سردية شعرية ونثرية قابلة للتلحين والغناء، ونظرا لارتباط المسرح بالغناء والرقص ممّا سهّل انتشارها، وترسيخ الفكرة وقبولها لدى المتفرج.
فالصورة لها قوّة التأثير أكثر من الشعر الذي يُتلى على الجماهير في القاعات أو الأمسيات، ومضمون أغلب الأوبرات المقدّمة يروي الحقب التاريخية للجزائر منذ عهد الطاسيلي وماسينيسا، مرورا بكل الرّموز التي تركت بصمتها في سجل الخالدين إلى غاية العصر الحاضر، وهو ما تنبّهت إليه المؤسّسات التربوية التي أصبحت تلجأ إلى هذا الطابع الفني في الترويج للمسرحيات والأغاني المؤلفة من طرف الأساتذة خلال الحفلات المقامة بالمناسبات الوطنية والدينية.
-  ما هي الأعمال التي طبعت بصمتها في المشهد الثّقافي، وبلغت الرّسالة ولا زال المشاهد يتذكّر تفاصيل نغماتها؟
 هناك أوبرات “أنا الجزائر وحكاية ثورة” لمحمد الأخضر السائحي، “النصر والاستشهاد” و«الجزائر ملحمة البطولة والحب” لمحمد بلقاسم خمار، “مسيرة الجزائر” لعبد القادر بن محمد، وكتب الشاعر أحمد الطيب معاش “علجية وحكاية نصر”، وعبد الله بن حلي “وسام الخلود”، كما كتب صالح لمباركية أوبرات “مصطفى بن بولعيد”، والشاعر سليمان جوادي أوبرات “خيمة الأفراح”، ونذكر أيضا ملحمة “قسنطينة الكبرى” من إخراج فوزي بن إبراهيم وعلي عيساوي، والتي شارك في تأليفها الشعراء: عبد الله حمادي والنذير طيار ونور الدين درويش وناصر لوحيشي وليلى لعوير. وقد افتتحت بها تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015، وهي تستعرض مختلف الحقب التاريخية التي مرت بها مدينة قسنطينة.
- وفق ما ذكرت من عناوين، فإنّ هذه الملحمات رصيد كبير يؤرّخ لأبطال وإنجازات الشعب الجزائري الأبي، فهل نعتبرها طريقة أخرى لتدوين الذاكرة الوطنية؟
 من العناوين يستشف القارئ أنّ الأوبرات تتناول مسيرة شخصيات ثورية مثل أحمد زبانة، الذي يعد أول شهيد حكم عليه بالإعدام بالمقصلة من طرف العدو الفرنسي، ونفذ الحكم في سجن سركاجي، والشهيد محمد العربي بن مهيدي مخطط معركة الجزائر، وقاهر جنرالات فرنسا، ممّا أجبر الجنرال بيجار أن يصرح “لو كنت أملك عشرة رجال مثله لفتحت العالم”، والملك ماسينيسا الذي يعد أهم ملوك دولة نوميديا الأمازيغية الجزائرية، وقد شكّل جيشا قويا بعد توحيد قبائل شمال أفريقيا ضمن مملكة نوميديا، كما صورت ببراعة تفاصيل مجازر 8 ماي 1945 التي شهدتها مدينة سطيف، وسقط فيها الكشاف بوزيد سعال شهيدا رميا بالرصاص عندما رفع العلم الوطني في المسيرة السّلمية آنذاك..