طباعة هذه الصفحة

أنريكو ماتيي..«جزائري في الدم»

جنّد سياسيّين إيطاليّين لنصرة القضية الجزائرية

سهام بوعموشة

 ساندت الأحزاب والنّقابة اليسارية الإيطالية وفئة كبيرة من المجتمع الإيطالي، استقلال الجزائر، وأنشأت اللّجنة الإيطالية من أجل السلم في الجزائر، نهاية 1960 وطبع أعضاؤها عشرة أعداد من مجلة Algeria، وقام صحافيّون مشهورون بدور كبير من خلال ريبورتاجاتهم حول حرب الجزائر، وحركة التضامن مع الجزائريين التي كانت تشهدها أوروبا الغربية.

 يذكر سفير إيطاليا بالجزائر جيامبولو كانتيني، دور رئيس بلدية فلورنس جيورجيو لابيرا المثقف الكاثوليكي، الذي كان ينظّم في بلدته ملتقيات حول السلم، وتناول القضية الجزائرية سنوات 1958 و1960 و1961.
شهدت تلك الفترة نشاط العديد من المثقفين الإيطاليين ممّن ساندوا الثورة الجزائرية، منهم جيوفاني بيرولي، صديق فرانز فانون ومترجمه الخاص، وجيانجيا كوموفيلترينلي، الذي طبع ونشر الكتب المترجمة التي تتناول القضية الجزائرية، وتدين الإستعمار الفرنسي وأسماء أخرى عديدة.
ومن بين أكبر المدافعين المتحمّسين لاستقلال الجزائر، مؤسّس ورئيس الشركة الوطنية الإيطالية للمحروقات Eni، من 1953 إلى 1962.
عرف عنه تعاطفه مع شعوب العالم الثالث، ومناهضته لهيمنة الشركات العالمية الكبرى الأنجلو-أمريكية، التي تحتكر لنفسها استغلال ثروات البترول عبر العالم، وبخاصة في الشرق الأوسط والأدنى.
كان يحضّر لزيارة الجزائر وتلك كانت أمنيته، لكنه توفي بعد تحطيم طائرته الشخصية بدقيقة واحدة قبل هبوطها على مطار ميلان ببضعة كيلومترات، يوم 27 أكتوبر 1962.
ساعد الحكومة المؤقّتة الجزائرية بتونس، في رسم التصورات والمخطّطات الطاقوية المستقبلية للجزائر المستقلة، حسب شهادة الصحفي والكاتب ماريو بيراني Mario Pirani، الذي عيّنه ماتيي مسؤولا عن مرصد إيطالي سنة 1961.
ولد ماتيي يوم 29 أفريل 1906 بأكالنيا بمقاطعة بيزارو من عائلة متواضعة، بدأ حياته العملية مبكرا فامتهن البرنقة في مصنع للأسرة، ومساعدا بمصنع للدباغة بفيور سنة 1923.
واصل نشاطه في هذا الميدان، ثم كيميائيا إلى أن أصبح في 1929 مدير مختبر وهولا يتعدى سن الـ 24، وسرعان ما تميز بقدراته الكبيرة في التنظيم، وبروحه للمبادرة واتصاله الايجابي مع زملائه في العمل.
بعد تنقّله إلى ميلان بداية الثلاثينيات استثمر أمواله في مؤسّسة كيميائية، سمحت له في وقت قصير بالدخول إلى الدوائر التجارية الكبرى في ميلان.
امتاز بالشجاعة والحنكة في القيادة، عين محافظا بعد الحرب لتصفية المؤسسة البترولية A.G.I.P Azienda Generale Italiana Petroli.
ونجح في إقناع حكومة تلك الفترة بالعدول عن قرار تصفية هذه المؤسّسة، ونصحها بالاستثمار في إطار اتحاد شراكة عمومية Eni تناط بها مهمة ضمان التموين بالغاز والبترول لإيطاليا، وهي بحاجة إليهما في انطلاقتها الاقتصادية.
كان لماتيي موقف رافض للإستعمار، وأساليب بسيطة في التفاوض بشأن القضايا الاقتصادية، إضافة إلى سياسته في التكوين المهني الخاص بالفرق التقنية.
وضع مفهوما جديدا يتّصل بالتوزيع العادل للمنتوج الطاقوي بين البلدان المنتجة، والشركات البترولية، كان يعي جيدا أن العلاقة مع البلدان المنتجة للبترول يجب أن تقوم على قواعد وأسس جديدة.
ويمكن للمنتجين الاستفادة من معظم الإنتاج الطاقوي لاستغلاله في مشاريعهم الخاصة، ومن نقل المعرفة والمهارة التقنية، وضع هذه النظرة محل التطبيق لاسيما في علاقاته مع الجزائر.
كان أنريكو على المستوى السياسي منفتحا على أفكار تحرر الشّعوب التي تكافح من أجل نيل استقلالها، وبفضل علاقات الصداقة المحلية يتعرف سنة 1958 على ممثل جبهة التحرير الوطني بروما الطيب بولحروف.
سمحت له هذه العلاقة بالتعرف على العديد من قادة الثورة سواء في روما أو ميلان أو جنيف أو القاهرة، مثل فرحات عباس بن يوسف بن خذة، أحمد بومنجل، امحمد يزيد ومحمد بن يحي وعبد الحفيظ بوصوف.
قام ماتيي بتجنيد الطبقة السياسية الإيطالية لدعم ونصرة القضية الجزائرية إلى درجة أصبحت فيها إيطاليا البلد الأوروبي الوحيد، وبإمكان جبهة التحرير الوطني نشر وتفعيل نشاطها السياسي والدبلوماسي دون عوائق.
تكوين الإطارات الجزائرية في الصّناعة البترولية
 تؤكّد برونا بانياتو، أستاذة تاريخ العلاقات الدولية بجامعة فلورانس، أنّ ماتيي لم يكن يكتفي بعقد اتصالات ومحادثات مباشرة وغير مباشرة مع القادة الجزائريّين، ولكن قدّم العون المادي تحضيرا لفترة ما بعد استقلال الجزائر.
وتشير إلى أنّه تكفّل ماديا بتكوين الإطارات المستقبلية في ميدان الصناعة البترولية الجزائرية بمدارس الشركة ENI بسان دوناتو ميلانير، وقد اتّهم بأنه ساعد على تمرير الوقود لمجاهدي جيش التحرير الوطني عبر الحدود التونسية والمغربية.
وتضيف برونا: «يوجد دليل بالوثائق يبين حقيقة المساعدة التي قدمها ماتيي لجبهة التحرير الوطني، ومن ذلك أن وزير الشؤون الخارجية في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية كريم بلقاسم بعث بتشكراته في جوان 1960، لماتيي للمساعدات المادية والمعنوية التي قدمها لجبهة التحرير الوطني، خاصة أثناء مفاوضات إيفيان على إعداد مشروع اتفاق مع فرنسا حول استغلال ثروات الصحراء الجزائرية».
وبداية الستينيات ظهرت آفاق المفاوضات بين الطرف الجزائري والفرنسي، استعدّت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية لتحضير ملفات هامة حول الجوانب السياسية والقانونية والاقتصادية والمالية المتوقع الدفاع عنها.
ويعد ملف المحروقات من بين أكبر نقاط التفاوض، إلا أن الطرف الفرنسي كان يمتنع فتحه والنقاش فيه بحجة أن الصحراء تعد إقليما فرنسيا، لا يدخل ضمن عرض تقرير المصير الذي أعلن عنه الجنرال ديغول أثناء ندوته يوم 16 سبتمبر 1959.
ساهم ماتيي في التحضير للمفاوضات المتعلقة بهذا الملف، فبعد اتصاله مع المعاونين المباشرين لبوصوف، وهم لعروسي خليفة ورضا رحال ومحمود حمرة كروبا، قدّم كل تجاربه ومعارفه في هذا القطاع ناصحا المسؤولين بالعمل بتدابير معينة.
أرسل أقرب معاونيه ماريوبيراني إلى تونس في جانفي 1962، لتغطية الحدث بصفته صحفيا، وعقد لقاءات مع عبد الحفيظ بوصوف، كريم بلقاسم ومحمد الصديق بن يحيي لمناقشة وإدارة القضايا السياسية المرتبطة بالعلاقات الأوروبية-المتوسطية.
ومعالجة المسائل الأخرى ذات الطابع التقني، مع أعضاء وزارة التسليح والاتصالات العامة المكلفين بملف المحروقات محمد خلادي، رضا مالك، قاصدي مرباح، ومحمود حمرة كروا.
وعلى ضوء نصائحه، رسمت الخطوط العريضة للإستراتيجية المتبعة في المفاوضات مع فرنسا، وأسّست على منطق المصلحة التي تعود على الجزائر في استغلال الثروات النفطية إلى درجة إقصاء الطرف الفرنسي.
صرّح ماتيي: «لن أقبل أن تقدّم الشركة الوطنية الإيطالية للمحروقات Eni، تنازلات في الصحراء الجزائرية طالما لم تسترجع الجزائر سيادتها».
وقدّم اقتراحات ومعلومات هامة للمسؤولين في الحكومة المؤقتة الجزائرية، لإنجاح سير مفاوضتها في إيفيان مع الطرف الفرنسي حول ملف الثروة النفطية، التي تزخر بها صحراء الجزائر.
 بيراني: التزمنا بمساندة القضية الجزائرية عبر الصّحافة الإيطالية
 في شهادة لمساعده ماريوبيراني Mario Pirani كاتب وصحفي بجريدة La Republica، يقول: «استدعاني ماتيي في صائفة 1961، وأتذكّر أنه كان مقيما في فيلا صغيرة بجبال الألب فقال لي: إنّي اتخذت قرارا…سأرسلك في مهمة إلى تونس أين يوجد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، عليك أن تربط اتصالات بيني وبين أعضاء هذه الحكومة حتى نحضر لإرساء علاقات مستقبلية مع جزائر مستقلة»، سافرت إلى تونس في أوت 1961، ومعي أوراق اعتماد لأقدّمها لدى الحكومة المؤقتة».
ويضيف: «التزمنا بمساندة القضية الجزائرية عبر الصحافة الإيطالية، وقمنا بتقديم المساعدة للممثلين الجزائريين الذين كانوا يسافرون إلى أوروبا بتأشيرات إيطالية، كنّا نسعى لتوفيرها لهم وسجّلنا بعض الجزائريين في المدرسة الوطنية للمحروقات، لإعداد إطارات المستقبل الجزائرية في الميدان الطاقوي».
 اختار استغلال النّفط الجزائري بشروط عادلة
 يقول علي هارون، عضو فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا، وعضو سابق في المجلس الأعلى للدولة: «أنريكو ماتيي كان حليفا متميزا للثورة الجزائرية»، معبّرا عن ثقته في الجزائر المستقبل المستقلة، بعدما اختار استغلال البترول الجزائري ضمن شروط عادلة بالنسبة للمنتجين من أن يتعامل مع الشركات الأخرى العالمية الكبرى، التي تأخذ حصة الأسد لنفسها».
هذه الشّهادة قدّمها في الملتقى الذي نظّم بالتعاون مع المعهد الثقافي الإيطالي وسفارة إيطاليا حول أصدقاء الثورة، في 2010 بفندق الأوراسي، طبع في كتاب بعنوان «أنريكو ماتيي والجزائر خلال ثورة التحرير الوطني»، أصدرته دار غرناطة للنشر والتوزيع ونشرته وزارة المجاهدين بمناسبة الذكرى الـ 60 لإسترجاع السيادة الوطنية.
وأبرز دحو ولد قابلية وزير سابق، ورئيس جمعية قدماء أعضاء وزارة التسليح والاتصالات العامة «مالغ»، أنّ أنريكو قبل إنشاء المؤسسة العمومية للمحروقات ENI في 1953 كان هو مؤسّسها ومسؤولها الأول، وأحد أكبر صنّاع المشهد السياسي غداة الحرب العالمية الثانية.
ويضيف: «بصفته عضوا في الحزب الديمقراطي المسيحي، عرف عنه تعاطفه مع شعوب العالم الثالث ومناهضا لهيمنة الشركات العالمية الكبرى الأنجلو-أمريكية، التي تحتكر لنفسها استغلال ثروات البترول عبر العالم وبخاصة في الشرق الأوسط والأدنى».
ويؤكّد: «كان ماتيي مقتنعا أن عمليات التنقيب والاستغلال في ميدان الطاقة التي بدأها بنجاح في إيطاليا، لم تكن لتجد سهولة كبيرة لتتجاوز حدود بلده».
يقول ولد قابلية فيما يخص ملف المحروقات: «ألهمت كثيرا تجربة ماتيي العملية، ونصائحه السديدة فريق العمل الجزائري، في تحديد المحاور الكبرى لإستراتيجية التفاوض، من أجل ضمان مصالح الجزائر في استغلال ثرواتها البترولية في صحرائها الشاسعة».
ويضيف: «لقد تحصّلت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية من لدن شخصية سامية في دواليب السلطة الإدارية بالجزائر العاصمة، عن طريق المصالح الاستخباراتية التابعة لوزارة التسليح والاتصال، على وثائق كاملة تتضمن مدونة نصوص قانونية تحكم ميدان المحروقات، ونسخ لعقود تنازل وجداول وبيانات أسعار وبطاقات بيانية لمجموع الشركات العاملة بالصحراء، بتحديد مبالغ رؤوس أموالها وحصص الفوائد التي تعود إليها وحصة الدولة الفرنسية بالنسبة إلى مجمل المنتوج».
أثناء استئناف المفاوضات بشكل رسمي بمدينة روس في 11 فيفري 1962، لوحظ اندهاش كبير لدى الوفد الفرنسي إزاء موقف الوفد الجزائري المدعم بالتوثيق والحجج الدامغة بخصوص ملف الصحراء الذي يتلخص في ست نقاط.
وهي: السّيادة الكاملة للدولة الجزائرية على كامل الثروات المنجمية الظاهرية والباطنية، حلول الدولة الجزائرية محل الدولة الفرنسية بخصوص الموجودات والأصول التي تقبضها هذه الأخيرة على مستوى الشركات المستثمرة.
وأنه ابتداء من تاريخ الإعلان عن وقف إطلاق النار، لا يمكن منح أي تنازل في البحث والتنقيب عن البترول واستغلاله، لا يمكن إحداث أي تعديل على الرأسمال الخاص بحصص أصول الدولة الفرنسية، لا يمكن إحداث أي تعديل على السعر المرجعي للبترول الخام أو الغاز وعلى أسعار النقل الأخرى، لا يمكن إحداث أي تعديل على نسبة الجباية.
إخفاق الطرف الفرنسي، دفع المصالح الاستخباراتية تدبر عملية اغتيال ضد صالح بوعكوير الذي وصف بالمصدر، وانريكو ماتيي المستشار الذي بات المنافس الأكثر خطورة بالنسبة للمصالح الفرنسية في الجزائر المستقلة.
أكّد ماتيي أنّ البترول يجب أن يستخدم لصالح سياسة تستهدف رفاهية البلدان المنتجة لهذه الطاقة الحيوية والبلدان المستهلكة لها.
وعبّر عن موقفه الذي يقوم على مبدأ الاعتراف بحق الجزائريين في الاستقلال الوطني في جريدة IIGiorno، التي أسّسها في 21 أفريل 1956، والتي أصبحت تعد من بين أكبر الجرائد الإيطالية التي التزمت بتأييد الثورة الجزائرية، وأكثر انتقادا للسياسة الفرنسية.
أصبح ماتيي مصدر قلق وإزعاج بالنسبة للحكومة الفرنسية، لأنه يتدخل في الشؤون الجزائرية من أجل تطوير علاقة تعاون مع جبهة التحرير الوطني.
نشرت جريدة IIGiorno في نوفمبر 1957، مقالا افتتاحيا لمديرها جيتانو بالدكسي Gaetano Baldacci الذي يحتج فيه على ما تدّعيه فرنسا أن الصحراء ملك لها وثرواتها تعود إليها، ويطالب بإحقاق السلم في الجزائر.
عنوان المقال «لمن تعود ملكية الصحراء؟»، «أنه لا خيار لفرنسا سوى التفاوض مع البلدان التي بيدها صنبور البترول..ومنه الضرورة الملحة بالنسبة للفرنسيين القبول باتفاق عام مع بلدان شمال إفريقيا المستقلة وبسلم حقيقي بالجزائر»، آراء هذه الصحيفة هي من آراء ماتيي، وأصبحت تمثّل الملحقة الأساسية لسياسة إيطاليا الخارجية في المنطقة المتوسطية.
أمنيته..
 كان ماتيي يرغب كثيرا في أن يرى الجزائر مستقلة ويزورها يوما ما، لكن الموت سبقه ولم تتحقق الأمنية.
عرفانا بالدّور الذي قام به في ميدان الطّاقة، فقد سمي أنبوب الغاز الذي يربط الجزائر بإيطاليا عبر تونس باسمه منذ بنائه في 1980.