طباعة هذه الصفحة

“غار جبيلات”.... منعرج اقتصادي حاسم

بوصلة موثوقة للتحرّر من تبعية المحروقات

فتيحة كلواز

ضبط الخارطة الاقتصادية نحو إطلاق حقيقي لعجلة التنمية

دراســــات استشرافيــة تتوقــع استحــداث 20 ألف منصب شغــل

بمعالم واضحة لجزائر جديدة تملك السيادة الكاملة على خياراتها الاقتصادية بعيدا عن أي لوبيات خارجية، تم البدء في استغلال منجم “غار جبيلات” للحديد الذي اصطلح على تسميته بـ “العملاق النائم”، بعد فشل كل محاولات إطلاقه منذ سبعة عقود كاملة.

يعد إطلاق مشروع “غار جبيلات” بمثابة منعرج مهم في وضع الاقتصاد الوطني على سكة التنوع والتنمية بإيجاد إيرادات خارج المحروقات، كان قانون الاستثمار الجديد بمثابة الهندسة التنظيمية لمناخ أعمال جاذب ومستقطب.

سنة اقتصادية بامتياز
بعد إعلان 2022 سنة اقتصادية بامتياز، كان لابد من وضع أرضية أساسية تعطي عجلة الاقتصاد القاعدة المتينة والقوية للتحرك، فكانت اول خطوة لتحقيق هذا الإقلاع ضمان جانب تشريعي وقانوني يحسّن مناخ الأعمال ليكون جاذبا ومستقطبا لرؤوس الأموال؛ ما وفره قانون استثمار جديد فتح مجال الاستثمارات المحلية والأجنبية في مختلف القطاعات الإستراتيجية يعتبر قطاع الطاقة والمناجم أحدها، بل قطعة حيوية في خطة الإقلاع الاقتصادي الذي تعول عليه الجزائر للخروج من التبعية للمحروقات الى اقتصاد منتج ومتنوع.
لذلك يعد إطلاق مشروع غار جبيلات رافدا اقتصاديا مهما، ستكون له تداعيات إيجابية على الاقتصاد الجزائري عامة وعلى المنطقة بصفة خاصة، وقيمة مضافة للاقتصاد الوطني، خاصة وان استغلال ثلثه فقط سيوفر 50 مليون طن سنويا من الحديد، في حين لا تنتج الجزائرحاليا سوى 5 ملايين طن من الحديد فقط، بينما قدرت بعض الدراسات حاجيات السوق الوطنية بـ12 مليون طن آفاق 2026، ما سيسمح بتحقيق اكتفاء السوق الوطنية والتوجه الى السوق الدولية ويرفع فاتورة الصادرات خارج المحروقات.
الشريك الصيني
أما أهم التحديات التي واجهت المشروع، فهي أن منجم غار جبيلات المتواجد جنوب ولاية تندوف، يتراوح مخزونه من الحديد بين 3,4 و3,5 ملايير طن، يتميز بوجود تركيز من الفوسفور. مع العلم أن استغلاله اقتصاديا يتطلب خفض هذه النسبة إلى أقل من 0,1 وهو المعمول به كمعيار لاستغلاله عالميا، لذلك لجأت الجزائر الى الشريك الصيني للحصول على الكيفية التي يتم من خلالها تقليص هذا التركيز من 0,8 إلى 0,5 ما يحول الحديد إلى معدن قابل للاستغلال الاقتصادي.
وستتحصل الجزائر على أحسن التكنولوجيات المعمول بها عالميا في هذا المجال، مع إمكانية استعمال خام الحديد قبل عملية نزع الفوسفور لتسويقه بتركيز 0,8 من خلال نقله إلى مصانع أخرى، تحتوي على حديد ذي نسبة تركيز أقل من أجل القيام بعملية “بلاندينغ” مع الحديد ذي نسبة تركيز 0,8، لإمكانية استعمال المزيج المتحصل عليه كخام قبل عملية تصفية الفوسفور.

البداية...
أعطى رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، شهر ماي الماضي، موافقته للانطلاق في المرحلة الأولى من استغلال العملاق النائم “غار جبيلات”، بالنظر الى أهميته في تحريك عجلة التنمية محليا ووطنيا، خاصة وأنه يتربع على مساحة تؤهله لأن يكون ثالث أكبر احتياطي للحديد في العالم بمخزون هائل يتجاوز 3 ملايير طن من الحديد، من بينها 1,7 مليار طن قابلة للاستغلال في المرحلة الأولى. كما يضعه تواجده على الحدود الجنوبية الغربية ضمن المناطق الحرة والمعابر الحدودية نحو إفريقيا. وسيتم، برأي متابعين، فهم إصرار رئيس الجمهورية منذ توليه سدة الحكم نهاية 2019، على إطلاق مشروع “غار جبيلات”، بالعودة الى نقطة البداية التي صنعت حلم “عملاق الحديد” في العالم.
يعود اكتشاف غار جبيلات الى منتصف القرن الماضي في 1952 في أقصى الجنوب الغربي للجزائر من طرف العالم الفرنسي بيار جيفاناين. بالرغم من هذا الاكتشاف فشل الفرنسيون طوال سنوات تواجدهم وإلى غاية الاستقلال من استخراج الكنز الدفين داخله؛ كنز حجبت الاكتشافات المتعاقبة للذهب الأسود في الصحراء الجزائرية الرؤية عنه.
وبالرغم من المحاولات المتعاقبة في حقبات ماضية، فشلت كل الجهود المبذولة لإخراج مشروع غار جبيلات من حالة السبات الى اليقظة ومن مجرد دراسات تخبئُها أدراج المكاتب الى مشروع حقيقي في الميدان، لتبقى جدواه ونجاعته الاقتصادية آنذاك مجرد حبر على ورق.
إصرار...
متابعة، تنفيذ، فتحقيق للحلم
وبمجرد تولي السيد عبد المجيد تبون رئاسة الجمهورية، وضع نصب عينيه هدف الإقلاع الاقتصادي، تبنى أسسه على قطاعات استراتيجية وحيوية. لذلك ومنذ 2019 وبالتوازي مع البناء المؤسساتي، فتح السيد الرئيس ورشات متعددة لتهيئة الظروف المناسبة لإخراج ما اصطلح على تسميته بـ “العملاق النائم” من حالة السبات في إطار إيجاد البدائل الاقتصادية للمحروقات، بعد أزمة اقتصادية عالمية مدوية في 2014 عمقت من شدتها وتداعياتها جائحة كورونا.
لذلك أعطيت الأولوية لهذا المشروع، خاصة مع توقع الدراسات أن يكون سببا في استحداث 20 ألف منصب شغل، بينها 4800 منصب شغل مباشر وما يقارب 14500 منصب غير مباشر، ما يعني أنه سيكون محوريا لإرساء ديناميكية في سوق الشغل في تندوف والمناطق المجاورة لها.

العد التنازلي
بداية العد التنازلي كانت بإعلان الحكومة في 2020 عن خطة عمل “لإطلاق مشاريع عملاقة لاستغلال مناجم الحديد والفوسفات والزنك والرصاص، تخص إضافة إلى استغلال منجم الحديد في غار جبيلات، استغلال مناجم الفوسفات في مناطق تبسة وسوق أهراس وعنابة شرق الجزائر بثروة تناهز ملياري طن، ومنجم للزنك والرصاص في منطقة بجاية شرق البلاد، إضافة إلى إطلاق مشاريع التنقيب واستغلال محيطات الذهب ومادة الليثيوم”.
إصلاح الإطار التشريعي والتنظيمي للنشاط المنجمي في الجزائر، شكلت نقطة انطلاق حقيقية، خاصة وأنه من بين أهم العوائق التي وقفت في وجه إطلاق حقيقي لهذا القطاع.
فكان قانون 14-05 المسير لقطاع المناجم أحد المحاور الإستراتيجية لتحقيق القفزة النوعية، من خلال وضع قانون مرن ومحفز للاستثمار في المناجم، الذي يعتبر أحد أهم القطاعات المحورية لخطة الإنعاش الاقتصادي في الجزائر، يعوض القانون المسير لقطاع المناجم الذي اعتبره المختصون منفرا للكثير من المستثمرين، خاصة وأن القانون 14-05 يجبرهم على دخول مناقصة، ما جعلهم يتوجهون إلى مجالات أخرى.
وعندما يُمنح المستثمر ترخيصا للاستكشاف، وبعد قيامه بدراسة لمنجم حول مخزونه والوسائل اللازمة لانطلاق مشروعه، مع تحديد نسبة أرباحه، يجد نفسه بعد تقديمه الملف للوزارة أمام قانون لا يسمح بمنحه ترخيص استغلال المنجم، بل يجبره على دخول المناقصة المتعلقة بالمشروع، لذلك يرفض الكثير من المستثمرين هذه الطريقة ولا يقبلونها.
إصلاح الجانب التشريعي للقطاع أعطى الأولوية القصوى لغار جبيلات من خلال عقد شراكة إستراتيجية مع الصين وإعطاء الأولوية للبنى التحتية، حيث أوصى رئيس الجمهورية في مجالس الوزراء المتعاقبة بالإسراع في إنجاز خط السكة الحديدية الرابط بين غار جبيلات وبشار والربط بين المنجم وميناء جن جن بجيجل، بالإضافة الى تحفيز الشباب على إنشاء مؤسسات صغيرة وناشئة ناشطة في قطاع المناجم من أجل التأسيس لصناعة تحويلية مرافقة للمشروع العملاق، بتسخير كل الإمكانات البشرية والمادية واللوجستيكية الموجودة.
كل ذلك مع مراقبة مستمرة من طرف رئيس الجمهورية لمدى تقدمها في الميدان لتحقيق الأهداف المرجوة في آجال محددة لتنفيذ المشروع- الحلم.
منجم غار جبيلات بسبب نجاعته الاقتصادية، على اعتبار أنه أحد أهم الاستثمارات خارج قطاع المحروقات، ستضخ فيه استثمارات أولية تصل لنحو (2) ملياري دولار، بل هو خطوة حقيقية نحو اقتصاد منتج ومتنوع، سيخفف إطلاقه عبء ارتفاع سعر الحديد في السوق العالمية بعد الأزمة الصحية العالمية وتداعياتها الاقتصادية، وينعش مختلف القطاعات المرتبطة به، خاصة الصناعة والبناء والأشغال العمومية.
ويؤكد مختصون، أنه “يكفي أن احتياطي المنجم المعلن عنها تعادل 3,5 ملايير طن، منها 1,7 مليار طن قابلة للاستغلال في المرحلة الأولى التي ستكون في حدود 2026، ما سيجعل من الجزائر واحدة من أهم موردي الحديد في العالم، خاصة عند الانتهاء من إنشاء سكة الحديد التي ستربط المنجم بتندوف، فبشار فوادي تليلات بوهران ومنه إلى ميناء جن-جن في ولاية جيجل عبر البواخر، وهو ما سيحقق وصول الخام للتصدير”.
 بالإضافة الى إنشاء مجمع مشترك مع الشريك الاستراتيجي الصيني وإنجاز وحدات إنتاج أنموذجية في إطار شراكة البلدين في مشروع غار جبيلات، وجاء ذلك بإمضاء اتفاقية شراكة بين المؤسسة الجزائرية للحديد والصلب “فيرال” و3 شركات صينية عملاقة مختصة في مجال التنقيب والاستغلال المنجمي وهي شركة “أم.سي.سي” و«سي.دابليو.اي” “هايداي سولار” في 2021.
أخيرا...
 للجزائر ذراع اقتصادي سيادي
 بعد سبعة عقود من الانتظار، تم الاطلاق الرسمي لاستغلال مشروع غار جبيلات في مرحلته الأولى، أول أمس؛ إطلاق كان على الجزائر انتظار تحقيق حلمه منذ 1952 لترى تقدم المشروع ميدانيا والبداية الفعلية لإنتاج كنزه “الرمادي”، من أجل تطوير قطاع المناجم والاستغلال الأمثل للثروات وبعث الأنشطة المنجمية.
تم إطلاق مشروع غار جبيلات بعد استيفاء كل الشروط المناسبة لتحرير روح المبادرة وتنويع الاقتصاد ضمن رؤية شاملة ومستقرة في سياق بناء الجزائر الجديدة والتحول الاقتصادي من الريعي الى متنوع بإيجاد موارد حقيقية بعيدا عن المحروقات، تحقق النجاعة والجدوى المطلوبتين لتحريك عجلة التنمية محليا ووطنيا.
ويمر استغلال هذا المنجم عبر عدة مراحل ممتدة من 2022 إلى 2040، يتم خلال المرحلة الأولى الممتدة من 2022 الى 2025 استخراج من 2 الى 3 ملايين طن من خام الحديد، ينقل برا إلى بشار وشمالها من أجل تحويله وتثمينه من قبل متعاملين وطنيين لديهم رغبة قوية في الاستثمار في القطاع المناجم.
أما المرحلة التالية تبدأ من 2026، تنطلق مباشرة بعد إنجاز خط السكة الحديدية الرابط بين بشار وغار جبيلات، حيث سيتم استغلال المنجم بطاقة كبرى تسمح باستخراج ما بين 40 و50 مليون طن سنويا.
 بدء استغلال غار جبيلات هو بمثابة منعرج مهم للاقتصاد الوطني، يعزز إعلان 2022 اقتصادية بامتياز، لمساهمته في توفير الحديد المادة الحيوية في قطاعات إستراتيجية كالصناعة، البناء الأشغال العمومية والصناعة التقليدية، بالإضافة إلى أهميته في توفير المواد الأولية للصناعات التحويلية الوطنية.
وفي الموضوع، قال عرقاب خلال افتتاح مشروع “غار جبيلات”، إنه “ليس خاصا بقطاع المناجم فقط، بل يتعداه إلى كل القطاعات بالخصوص قطاعات النقل، الأشغال العمومية، الطاقة، المياه، المالية، البيئة، التهيئة العمرانية والأمنية”، ملخصا فوائد المشروع في ثلاث، “توفير مناصب الشغل، خلق وتطوير المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتطوير السكن والهياكل الاجتماعية”، فمن المنتظر ان يوفر استغلاله ما بين 10 و20 مليار دولار تمثل صادرات سنوية من الحديد وفق أرقام الجمارك الجزائرية.
انطلاق مشروع غار جبيلات بالنسبة للجزائريين، لحظة تاريخية فارقة تجسدت فيها السيادة بكل معالمها، فإطلاق استغلاله بشراكة صينية بمثابة صورة واضحة وميدانية عن توجهات الجزائر الجديدة الاقتصادية، بعيدا عن التدخل الأجنبي في خياراتها الإستراتيجية لإطلاق عجلة التنمية في مختلف مناطق الوطن وبعيدا عن الإقصاء.