طباعة هذه الصفحة

لا عشاق .. ولا شعراء سواكم!

بقلم: أحمد الصيفي «منبر أدباء بلاد الشام» ـ فلسطين

لا عُشَّاقَ ولا شعراءَ سِواكم، لا أنبياءَ في هذا العصرِ سِواكم.. أملُ البصيرةِ الّذي يَملأُ بيادرَنا قمْحًا، أغنياتٌ تصدحُ لعيونِ الوطن، أملٌ يفتحُ الطّريقَ إلى قلبِ الحياةِ الّتي نشتاق، لهيبُ نارٍ مُقدَّسةٍ تسْكنُ جوْفَ الرَّمادِ، تتوهّجُ في حَبَّةِ الفؤاد. راحاتٌ وجِباهٌ عَطِرة، وجوهٌ نَضِرة.. مَنْ مثلُكم يتلمَّسُ تنهّداتِ شوقِهِ وحنينِه بيدِه وسطَ العَتمة؟؟
همُ مَنْ إذا قامتِ الكلمةُ بين أيديهم.. ارتعشَتْ، خشَعَتْ، تقزَّمَتْ، ثُمَّ قامَتْ توضَّأتْ وصَلَّتْ ركعتين في مِحْراب تضحياتهم. تَسْهرونَ والنَّاسُ نِيام.. تبكونَ ونحنُ في ابتسام.. نَسْتدفِئُ نَتأمَّلُ الشَّمسَ الجميلةَ، وأنتم تُصاحِبونَ برودةَ الوحدةِ والظّلام. أسْرانا، كم مِنْ موكبِ أحلامٍ مُفْعَمٍ بالحياةِ حَرَقْتم وتَحْرقون؟؟ كم قلعْنا مِنْ قِيَمٍ وأنتم تزرعون؟؟ أنتم الفكرةُ والإنسان.. وإنْ سكنتم بلادَ القفرِ والنّسيان.. عَشِقْتم أجملَ الجميلات، تساميْتم لأجلِها بالتّضحيات.. فَعَلَتْ منازِلُكُم فوقَ النّجماتِ والغيمات. صدِّقوني، أيّها الأسارى، أنتم تعيشونَ في ربيعِ الحياة، ونحنُ في خريفها.. ربيعِ الفكرةِ الطَّاهرةِ الّتي لم تُدَنَّسْ.. خريفِنا خريفِ الضَعفِ الّذي جَفَّ وجْهُهُ وتيَبَّس.
أنتم الجَمْرُ ونحنُ الرَّماد، أنتم روحُ البلادِ، رائحةُ الصَّنَوبرِ شموخُ الأوتاد. دينُكم الحقُّ الّذي ليسَ فيه رِياء.. صدِّقوني، نحنُ البُؤساء!! أصبحنا نُعاقرُ نُسامِرُ الخَواء، فلا إلى هؤلاءِ صِرْنا، ولا إلى هؤلاء. عندما تدورُ الأيَّامُ على الرِّجال، تَجِفُّ حلوقُ الكلمات، وتصغرُ الدّنيا في العيون.. يُصبحُ الزّمانُ والمكانُ ظِلُّهما ثقيلا، تضيعُ منَّا ومنهم الأشعارُ والذّكرياتُ على جَنَبَاتِ أرصفةِ اللّيلِ الطَّويل، تهتزُّ أطيافٌ لِماضٍ وحاضرٍ فوقَ جِباهِ الأزاهر.. ما أثقلَ دموعَهم!! وما أعزَّ دماءَهم!! ستبقى لديهم الأرضُ والشَّمسُ.. الأعلى، الأغلى والأحلى. أنتم صوتُ نايٍ صافٍ حزين، يَضُجُّ بالأنين يُغنِّي لفلسطين، بوصلةُ السَّفين، حقلٌ من الجوري، طائرُ العنقاءِ الّذي يَنبتُ مِن جَمْرِ السّنين. وقِصَصُكم المحفورةُ على الجدران بأظفارِ الحَنينِ والأنين.. ستغدو يومًا أشجارَ برتقالٍ وياسمين. لن نتعبَ، وإنْ كثُرَتْ وتعدَّدَتِ المَحطّات، ولو اتَّسَعَتْ وجوهُ المَفازات، أو اختبأنا خلفَ خوفِنا، وإنْ أعلنَ الظَّمأُ والجوعُ والنَّفيُ فينا النَّفير.. أو زَحَفَ صوتُ عَويلِ اللّيلِ الطّويلِ في دواخلِنا كالسَّعير.. سَنبقى.. سَنبقى نَعشقُ رائحةَ البحرِ والشِّعرِ واللّيمونِ وهَمْسَ العصافير. وإنْ جَفاني زَماني فلن أتخلّى عن ألواني، وإنْ اقتلعني، والجوعُ غَطَّاني، أو أشعلَ الانتظارُ نيراني.. لا وفاءَ لمَنْ أسلمَ ذاكرتَهُ للنّسيانِ.. يومًا ما سنقطعُ المسافاتِ، سَيُغنّي الحقلُ ما نَسينا مِنَ الأغاني، أو ما تجمَّدَ في الشّريانِ مِنْ أمانِ. باقٍ أنا في فمِ الزّمانِ أغنيةً، وعلى جبينِ الجَليلِ دمعةً.. لن أهربَ مِنْ نفسي إلى المجهول، ولو ملأ الألمُ كلَّ مساماتِ قصائدي عويلا.. سأبقى أمشي ولو كنتُ مُقيَّدًا ظامئًا شقيّا عليلا.. ستبقى آمالي تمشي وتسعى، وإنْ كانتْ مَبتورةَ الأطراف.. ما زالَ في يدي المِعولُ يَتململْ، يتسلّلُ إلى ذاكَ الحقلِ الأجمل. الحقُّ يسكنُ أنفاسَ الياسمين، قلبَ البحَّارةِ الآملين، زيتونَ هذا البلدِ الأمين.. يسكنُ رائحةَ البحرِ ووَجْهَ البدر.. يسكنُ رنينَ أجراسِ المِيلادِ وخشوعَ المُصلّين. لا يزال في الأفقِ شحاريرُ وزنابق... آتٍ ذاكَ الصَّباحُ الضَّاحك...طالعٌ ذاك الفجرُ الّذي بالأملِ دافق، هو آتٍ... هو آتٍ ورَبِّ السَّماءِ والطَّارق ....