طباعة هذه الصفحة

الحوار والتوافق.. طريق الخلاص الوحيد

سياســة شـدّ الحبــال تجرّ ليبيــا إلى المنعطــف الصّعــب

فضيلة دفوس

مخطئ حتما من يعتقد بأن المواجهات الدموية التي شهدتها العاصمة الليبية مؤخرا هي حادثة عابرة وشاذة لا يمكنها أن تتكرّر مرّة أخرى، بل على العكس تماما، فما جرى في طرابلس من اقتتال ذهب ضحيته عشرات الليبيين، يمكن أن يتكرّر في أيّ لحظة وبصورة أفظع وأبشع مادامت أسباب الانفجار والسقوط في براثن الاحتراب الداخلي قائمة، ومادام الوضع محتقن ولا يحتاج إلا لمن يشعل عود الثقاب حتى تلتهب هذه الدولة التي نشدت في 2011 التغيير والاستقرار، فإذا بها تغرق في مستنقع الفوضى الأمنية والتدخلات الخارجية والصراع على السلطة والثروة.
حرب الشوارع التي كسّرت سكون العاصمة طرابلس بداية الأسبوع، لم تكن مطلقا مفاجئة، فالانسداد السياسي الذي بلغ مداه، والسلطة التي تتنازعها حكومتان تصرّ كلّ واحدة منهما على أنها تحظى بالشرعية، وانتشار المجموعات المسلحة، كان سيقود إلى المواجهة. وإخماد نار الاقتتال هذه المرة، لا يعني بأن ليبيا باتت في مأمن من كل خطر، لأن طريق الأمان الوحيد في ليبيا هو اتفاق جميع أطراف الأزمة على تجاوز أطماعهم السلطوية، والانخراط في عملية سياسية تقود إلى إجراء انتخابات يلتزم الجميع بنتائجها.
منذ أن تعذّر إجراء الانتخابات في نهاية ديسمبر الماضي، دخلت ليبيا مرحلة جديدة من عدم الاستقرار السياسي، تفاقمت حدّتها مع إقرار حكومة موازية لحكومة الوحدة الوطنية المعترف بها دوليا، ودخول الهيئتين التنفيذيتين في صراع محموم على السلطة، ثم إخفاق مجلس الأمن الدولي في تعيين مبعوث أممي جديد خلفا للمستشارة الأممية ستيفاني ويليامز، التي أكملت مهمّتها نهاية جويلية الماضي بعد أن نجحت في تحقيق بعض الإنجازات الهامة كوقف إطلاق النار، وأخفقت في تحقيق أهداف أخرى وعلى رأسها الاستحقاقات الرئاسية.
الأزمة الليبية تعرف اليوم مزيدا من التّعقيد بعدما كان الجميع يعتقد بأنّ حلّها بات قريبا، فلا مؤشّرات في الأفق تبعث على التفاؤل، بل على العكس تماما، حيث عادت البلاد إلى حالة الانقسام، وفي المقابل نسجّل تراجعا لجهود التسوية الدولية، وتغوّلا للمليشيات المسلحة التي بات حلّها مسألة مستعجلة لإخراج ليبيا من النفق المظلم.

هيئتان تتنازعان السلطة

يضع الليبيون، منذ مارس الماضي، أيديهم على قلوبهم خشية أن يحدث المحظور ويقرّر فتحي باشاغا الذي نصّبه البرلمان الليبي في مارس الماضي رئيسا لحكومة جديدة يطلق عليها اسم «حكومة الاستقرار»، دخول العاصمة لمباشرة مهامه من هناك، وطرد السلطة التنفيذية المتمركزة في طرابلس التي يرأسها عبد الحميد الدبيبة والتي مازالت تحظى بالشرعية الدولية مند تعيينها بمقتضى «اتفاق جنيف» الذي تم التوصل إليه في جانفي2021 ونصّ على أن تتسلم حكومته السلطة إلى غاية إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في 24 ديسمبر 2021. لكن الاقتراع لم يجر بسبب خلافات عميقة حول شروط الترشح لرئاسة البلاد.
مخاوف الليبيين كانت في محلّها، والدليل اشتباكات الجمعة والسبت الماضيين التي كان سببها محاولة باشاغا دخول طرابلس عنوة، ومعلوم أنها ليست المرّة الأولى التي سعى فيها رئيس الحكومة الموازية إلى دخول العاصمة وفرض سلطته بالقوة، فقد فعل ذلك في وقت سابق، ونشبت اشتباكات عنيفة بين مجموعات مدافعة عنه وأخرى عن الحكومة الشرعية، تسببت في أضرار مادية جسيمة، ما أرغمه ومن معه على العودة أدراجهم.
وقد أعاد هذا الاقتتال، شبح المعارك التي شهدتها العاصمة الليبية قبل نحو عامين عندما فشلت محاولة المشير حفتر، في السيطرة عليها عسكريًا واضطرّ للانسحاب منها في جوان 2020.
تشكيل حكومة موازية في ليبيا لم يقدّم شيئا لليبيين، بل على العكس تماما، حيث وضع أمن البلاد على المحك، وهو يهدّد بنسف اتفاق وقف إطلاق النار الموقّع بين الأطراف الليبية في أكتوبر 2020 والذي استطاع أن يوقّف صخب السلاح ويعيد الهدوء إلى حدّ بعيد.
ومع تأكيد باشاغا على أنّه ذاهب إلى طرابلس لا محالة، وإصرار الدبيبة على البقاء في منصبه حتى تسليمه إلى سلطة منتخبة، لا يبقى هنالك أيّ مجال للتفاؤل، إلاّ إذا حصلت معجزة، وتنازلت إحدى الهيئتين عن السلطة لصالح الأخرى، وهذا الأمر يبدو مستبعدا بل مستحيلا في الوقت الحالي، ما يدفع إما لبقاء الوضع على حاله أو حدوث الاصطدام والمواجهة مرّة أخرى، وقد تكون الحرب هذه المرّة مدمّرة وبلا نهاية.
تعثر اختيار مبعوث أممي
بالرّغم من أن عددا كبيرا من الليبيين لا يرون أهمية لوجود مبعوث أممي، بل ويذهبون إلى أن المبعوثين الأمميين التسعة الذين تداولوا على الأزمة الليبية تحوّلوا إلى جزء منها إما بفشلهم في تحقيق حلّ يرضي الجميع وينهي المعضلة، أو لأنّهم اصطفوا إلى جانب طرف من أطراف الصّراع، فإن الحقيقة التي يتفق عليها الجميع، هي حتمية أن يكون هنالك وسيط أممي يتولى جهود التسوية ويشرف على تقريب وجهات النظر بين الإخوة الفرقاء للوصول في النهاية إلى مخرج سياسي آمن.
ومنذ تفجّر الأزمة الليبية في 2011، أرسلت الأمم المتحدة عددا من المبعوثين الدوليين إلى ليبيا، كان أوّلهم وزير الخارجية الأردني الأسبق عبد الإله الخطيب الذي عيّنه الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، بان كي مون، لإجراء مشاورات عاجلة، في وقت كانت الدماء لا تزال ساخنة عقب الأحداث التي أسقطت النظام السابق، لكنه لم يبق في مهمته أكثر من أربعة أشهر دون تحقيق شيء يذكر.
وفي 20 سبتمبر من نفس السنة، عُين الدبلوماسي البريطاني إيان مارتن رئيساً للبعثة الأممية لدى ليبيا، وبقي حتى أكتوبر 2012، دون أن يحقّق هو الآخر أيّ تقدّم في الملف الليبي الآخذ في التعقيد.
عقب رحيل مارتن، تولى الدكتور طارق متري، السياسي والأكاديمي ووزير الإعلام اللبناني الأسبق، رئاسة البعثة الأممية لدى ليبيا، واستمرت ولايته قرابة سنتين، لكنّها اصطدمت بتصاعد النزاع، حيث تحوّلت شوارع ليبيا إلى ساحات اقتتال تتزاحم بالمليشيات التي وجدت في البيئة الجديدة مجالا سهلا لممارسة عنفها، ومنذ ذلك التاريخ دخلت البلاد في دوامة الاحتراب الداخلي زادها تعقيدا ظهور المجموعات الإرهابية والتدخلات الخارجية.
وفي أوت 2014، تسلم الدبلوماسي الإسباني برناردينو ليون مهمته الأممية، وساهم في جمع غالبية الأطراف السياسية في البلاد لتوقيع اتفاق سياسي في نوفمبر 2015، انبثقت عنه الحكومة المؤقتة بقيادة فايز السراج، والتي حظيت بتأييد المجموعة الدولية لكنّها أثارت رفض مجموعة شرق ليبيا، ووصفت الفترة التي تولى فيها ليون عمله بأنها الأصعب، إذ اشتدّ الاقتتال وارتفعت وتيرة تسلّط الميليشيات المسلحة.
كانت مهمة مارتن كوبلر، المبعوث الأممي التالي إلى ليبيا محددة، وهي تطبيق اتفاق 2015، لكن الدبلوماسي الألماني، الذي عيّن في الفترة من 17 نوفمبر 2015 إلى 21 من جوان 2017، أخفق في ذلك على الرغم من تجاربه السابقة في العراق وأفغانستان والكونغو الديمقراطية، وذلك بسبب خلافات الأطراف الليبية التي ساهمت إلى حد كبير في إفشال الاتفاق.
بعد الضغط الذي واجهه، ألقى كوبلر المنشفة وغادر، ليخلفه في جوان 2017، الدكتور غسان سلامة الذي حقق بعض التقدّم في ملفات المصالحة والحوار.
كما أشرف سلامة على عقد مؤتمر برلين الذي شاركت فيه كل الأطراف الإقليمية والدولية المتصلة بالأزمة الليبية، وتوّج المؤتمر بالتأكيد على دعم اتفاق 2015، والتشديد على الحل السياسي ووقف التصعيد.
ورغم العمل الذي أنجزه، فقد واجهت سلامة تحدّيات جمّة، لعلّ أهمّها معارضة أطراف داخلية وخارجية لمبادراته، ثم اشتداد الفوضى الأمنية، ما دفعه للاستقالة تحت مبرر المشاكل الصحية.

المهمّة الأممية في الميزان

وباستقالته خلا منصب مبعوث الأمم المتحدة للأزمة الليبية للمرة السادسة، حتى تم تعيين يان كوبيتش الذي لم يحدث أي اختراق في جهود التسوية بليبيا.
في الثاني عشر من مارس 2020، عيّن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الدبلوماسية الأمريكية ستيفاني ويليامز ممثلة للأمم المتحدة بالوكالة ورئيسة لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا.
وشغلت ويليامز منصب نائب رئيس البعثة الأممية في ليبيا منذ أوت 2018، وشاركت غسان سلامة في جهود صياغة حلول سلمية للأزمة الليبية، منها إشرافها على المسار الاقتصادي. ورغم أن بعض الليبيين اتهموها بالتحيز وعدم القدرة على إدارة الملف، وأن ما تحقق من إنجازات في حقبتها مرده للدعم الدولي، فالمؤكّد أن ويليامز حققت إنجازات هامة.
لقد عملت وليامز منذ تعيينها في مناصبها المختلفة المتعلقة بالملف الليبي كرئيسة للبعثة بالإنابة أو نائبة للمبعوث الأممي أو مستشارة للأمين العام على تحقيق تقدم في جهود الحل، وتمّ في ولايتها التوقيع على اتفاق جنيف في أكتوبر 2020، شمل وقف إطلاق النار بين الأطراف الليبية، وفتح الطريق الساحلي وإخراج المرتزقة والقوات الأجنبية وحل المليشيات ونزع سلاحها. كما تحدّد في عهدها موعد إجراء الانتخابات التي كانت مقرّرة في 24 ديسمبر 2021، وتمّ تشكيل سلطة تنفيذية موحدة من مجلس رئاسي وحكومة، هي حكومة الوحدة الوطنية التي يرأسها الدبيبة، لكن دائما كان هناك في ليبيا من يعتقد بأن المبعوثين الأمميين يعملون في الاتجاه المعاكس لمصالحه، لهذا اصطدمت ويليامز كما اصطدم المبعوثون السابقون بمن يعارض مبادراتها ويعرقلها، لتفشل بالنهاية في إقرار القاعدة الدستورية، ويسوء الوضع بعودة الأزمة الليبية إلى المربع الأول واشتداد الانقسام السياسي بين حكومتين متوازيتين، والاشتباكات بين المليشيات.
وفي ظل هذا التردي، قرّرت ويليامز هي الأخرى رمي المنشفة، وغادرت منصبها في نهاية الشهر الماضي، دون أن تترك بديلا، مع استمرار الخلاف في مجلس الأمن على تسمية مبعوث أممي في ليبيا.

خيوط الأزمة بيد الكبار

لأنّ الأزمات تجرّ بعضها في ليبيا، فقد تحوّل تعيين مبعوث أممي جديد هو الآخر إلى أزمة معقّدة عصيّة على الحل، في ظل فشل المجتمع الدولي في اختيار واحد من المرشحين الكثر الذين تقدّموا إلى هذا المنصب لملء الشغور الذي تركه السلوفاكي يان كوبيش منذ مغادرته في نوفمبر الماضي، ثم المستشارة ستيفاني ويليامز.
وهكذا، وبينما يستمر الانسداد السياسي وتتعمّق الانقسامات ويطلّ العنف برأسه من جديد في ليبيا، تتعثر محاولات تعيين مبعوث أممي جديد بسبب حالة الانقسام وغياب رؤية مشتركة لدى الفاعلين الإقليميين والدوليين لحل الصراع السياسي في البلاد.

سبب البلاء

 ومن هنا يتجلى واضحا عمق الأزمة الليبية وصعوبة حلها، فهي تتجاوز الفواعل الداخلية، وتمتدّ إلى التدخّلات الخارجية، لهذا فإنّ الحل في ليبيا مرتبط بإرادة دولية حقيقية لكف الأيادي الداخلية والخارجية التي تشعل النار، لكن هذا الأمر غائب، وما نراه على الأرض هو صراع مجموعة من الدول على بسط نفوذها في ليبيا من خلال دعم هذا الطرف أو ذاك، وتلك المجموعة المسلّحة والأخرى. والأكيد أنه لا مجال لانفراج الوضع في ليبيا دون وضع حدّ للتدخلات الخارجية، وإخراج المرتزقة والقوات الأجنبية، وحصر جهود التسوية بين الليبيين الذين سيعرفون حتما كيف يتجاوزون خلافاتهم ويحلون مشاكلهم بأنفسهم.
وفي مداخلة له أمام مجلس الأمن، وضع المندوب الليبي لدى الأمم المتحدة طاهر السني أصبعه على الجرح، وأشار إلى أن التدخلات الخارجية هي سبب مأساة ليبيا وهي التي تعطّل إجراء الانتخابات.
وأعرب السفر الليبي عن أسفه لأن «اهتمام المجتمع الدولي بليبيا ينصب فقط على ثلاث ملفات: أولها استمرار تدفق النفط، ومنع الهجرة لأوروبا، ومكافحة الإرهاب، وغير ذلك مما يحدث في ليبيا لا يهم. هذا شيء مؤسف للغاية». وبالفعل الدول المتدخلة في الشأن الليبي لا يهمّها إلاّ النفط خاصة في هذه الفترة الحرجة التي يمرّ بها قطاع الطاقة في العالم.
ليبيا اليوم في وضع لا تحسد عليه، انسداد سياسي، وشرخ يتوسّع، وسلطة تتنازعها حكومتان متصارعتان، وغياب مبعوث أممي، وتعثر العملية السياسية، وبالمقابل يطلّ التصعيد العسكري برأسه من العاصمة المزروعة بالمليشيات المسلحة.
لهذا، لا يمكن أن تحلّ الأزمة الليبية إلا بالتخلّص من سطوة السلاح والمجموعات المسلحة، وبأخذ الليبيين زمام المبادرة لتسوية خلافاتهم بأنفسهم عبر الحوار والتفاهم دون تأخير أو مماطلة، فالوضع بالفعل يبعث على الخوف والقلق، ويكفي الليبيين ما أضاعوه في الفوضى وعدم الاستقرار.