طباعة هذه الصفحة

معركة الكتابة من خلف قضبان الأسر

بقلم الأسير الفدائي: ناصر الشاويش

تُفرغ منفضة سجائرك المصنوعة من علب التونة الفارغة والملآى بأعقاب السجائر الكثيرة، تجلس على أطراف برشك الحديدي الذي يُعد غرفة نومك ومكتبتك في آن معا. ترتشف قهوتك التركية التي تعدها بإتقان وتروِ بعد أن تمزج أنفاسك الصباحية فيها أثناء إعداداها.
وتبدأ تهيء للنص الحنيني الذي يلمح عليك طقوس الولادة الأولى فوق شراشف الأوراق البيضاء ليولد النص مكتملا بحلته الأدبية، وتفاصيله، ومفرداته اللغوية وبما يحمله من اخيله شعرية تستدرج قلمك للكتابة. تضع أوراقك البيضاء كالعروسة البكر بدلال على خشبة مستطيلة اخترعتها الحاجة لتسد مكان طاولة الكتابة التي نادراً ما تسمح لك الظروف باستخدامها - إن وجدت - لضيق مساحة الزنزانة.
تحاول اقتناص فرصة الهدوء التي قد لا تدوم طويلاً في زحمة السجن الصاخب الذي لا تهدأ فيه الأجواء من ضجيج الأقفال الفولاذية والطرق على عشرات الأبواب الحديدية المزعجة المحيطة بك من كل جانب داخل القسم. والصّراخ المتصاعد في ساحة السجن الملاصقة لغرفة نومك، والممتلئة بعشرات الأسرى ومكبرات الصوت التي نادراً ما تصمت في كل زاوية من زوايا السجن، والتي يستخدمها حراس السجن للإعلان عن حلول أوقات العدد الأمني، ولضبط ما يسمونه بالمخالفات الانضباطية من قبل الأسرى من خلف نافذة غرفة المراقبة المحصنة، إضافة إلى التوترات اليومية بيننا وبين إدارة السجن على مختلف الأمور الحياتية التي لا تلبيها إدارة السجن إلا بعد شق الأنفس، تقتنص فرصة الهدوء تلك أينما ومتى وجدت، فقد تكون خلال فترة القيلولة التي تبدأ ما بين الثانية عشر ظهراً أو الواحدة وقد تكون في ساعات الصباح الباكر ما بين الرابعة إلى الثامنة صباحا، وقد تكون في ساعات الليل المتأخرة ما بين الحادية عشر والثانية عشر أو الثالثة فجرا..
تبدأ بفض بكارة الأوراق التي تُلح عليك بإغواء صامت متّشحا بالبياض الناصع لكي تفض بكارتها بأسنة أقلامك المتعطشة للصهيل، والانطلاق في براري النص الشعري، وواحات قصيدتك التي اكتملت بكامل عناصر وأسباب هطولها كالغيمة الماطرة. ينطلق قلمك مُصهلاً فوق الصفحات، ممتزج رائحة الورق والحبر مع دخان سجائرك المتصاعد في فضاءات السجن الضيقة ونحو سقف زنزانتك الأضيق، فتحاول استعادة اخيلتك الشعرية التي تفر للحظات من سماء سجنك المحاطة بأطنان الأسلاك الشائكة والمربعات الفولاذية التي تحجب عنك الحياة بكامل تفاصيلها وتطبق على الصدور.. تستعين بذاكرة كادت أن تصاب بالعطب لكثرة ما تجبرها على احترار الصور ذاتها والمشاهد والذكريات القديمة ذاتها التي باتت غذاؤك الوحيد كلما شعرت بالحنين لماضٍ لم تعد تتذكر منه سوى وجوه من رحلوا من معبد شمسك الوطنية، تعود لتُمسك بزمام اخيلتك الهاربة من ضجيج المكان وتبدأ برحلة تحررك اللحظية من أسرك إلى عوالم نصك الأدبي الذي ينتزع القضبان المنغرسة في صدرك طوال رحلةُ سجنك؛ لأنّك تخرج عبر نصّك من واقع أسرك الأليم إلى لحظات الابداع.