طباعة هذه الصفحة

في ندوة نظّمتها الجمعية الجزائرية للدّراسات الفلسفية..

بوسعدية يقدّم تفاصيل رحلته في رحاب فكـر أركــون

تابعت النّدوة: فاطمة الوحش

تناول الأستاذ محمد سعيد بوسعدية، خلال الندوة التي نظّمتها، أول أمس، الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، بالتعاون مع المكتبة الوطنية (الحامة)، تجربته الشخصية في قراءة فكر أركون، مؤكّدا أنّ التمكن من تاريخ الفكر الإسلامي بملله وعقائده، ولو بطريقة تقليدية، كان سببا في اكتشافه للفكر الأركوني الذي راح يخلخل ويزحزح معارفه السّابقة حول الفكر الإسلامي.

 أكّد الأستاذ بوسعدية خلال مداخلته الموسومة بعنوان: “تجربتي الشّخصية في قراءة فكر أركون خارج الإطار الأكاديمي”، أنّ من الأسباب التي دفعته للاهتمام بالفكر الأركوني، الزاد المعرفي الفكري الذي تلقاه قبل أن يتحصل على البكالوريا، واعتبر المحاضر أنّ التمكن من تاريخ الفكر الإسلامي بملله وعقائده، ولو بطريقة تقليدية، كان سببا في اكتشافه للفكر الاركوني الذي راح يخلخل ويزحزح معارفه السابقة حول الفكر الإسلامي، فقال: “كان من حظي المعرفي أن الوالد الذي كان متديّنا حدّ النخاع على الطريقة التقليدية، كان يحوز على مكتبة صغيرة فيها عدة نسخ من القرآن الكريم، وكذا كتيبات صغيرة الحجم تتعلق بسيرة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان يسمح لنا بقراءتها أثناء العطلة المدرسية..كنت أعيش العجيب الخلاب مع هذه الكتب - يقول بوسعدية - إلى أن اصطدمت بقصة الصراع بين علي بن أبي طالب وعائشة أم المؤمنين - رضوان الله عليهما - في معركة الجمل..كانت صدمة بالنسبة لي ولم تصدمني قصة معركة صفين”..
وأشار المتحدث إلى أن والده كان كثير التجوال بمساجد العاصمة، وكان يصطحبه معه أحيانا للسماع إلى دروس العلماء الإصلاحيين من أمثال الشيخ العرباوي وسحنون وسلطاني.
وقال بوسعدية إنه كان من حظه أيضا وجود بعض المشايخ مثل محمد رحو بمسجد العربي التبسي، الذي تلقى على يده فقه العبادات وأحكام الردة، وعلم الكلام على الطريقة الأشعرية لمدة سنة، وأشار إلى أنّ هذا ما دفعه إلى الاهتمام بالفرق الكلامية الأخرى، واكتشاف المعتزلة عن طريق قراءته الخاصة، كما دفعه إلى شراء موطأ مالك وقراءته، والشيخ الإصلاحي الازهري اليعلاوي بمسجد النادي، الذي درسه سيرة ابن هشام والحديث عن طريق رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين للإمام يحيى بن شرف الدين النووي، وكذا تفسير القرآن عن طريق شيخ الأزهر محمد  مصطفى المرري، مشيرا إلى أن أركون كان ضد ما يسمى بالتفاسير العلموية للقرآن الكريم، حيث كان يقول: القرآن ليس كتاب طب ولا كتاب فيزياء بل هو كتاب ديني متعال..هو كتاب أخلاق.
وأكّد الأستاذ بوسعدية أن الدروس المسجدية دفعته إلى قراءة الكتب التقليدية والنضالية من أمثال عفيف طبارة، وحيد الدين خان، والسيد قطب ومحمد قطب صاحب كتاب “مذاهب فكرية معاصرة”، الذي كان له الفضل في اكتشافه للفلسفة الغربية، وبفضله راح  يبحث عن كل مذهب وفلاسفته، وبتعبير محمد أركون -يقول بوسعدية - كنت أسبح داخل السياج الدوغمائي المغلق، وأضاف: “كل ما تلقيته كنت أعتبره الحقيقة المطلقة التي نتجه بفضلها لا محالة إلى طريق الخلاص، وقال :«هنا أشير إلى أنّ هذا التكوين الديني، لم يكن نضاليا، ولم نكن نعرف معنى النضال الإسلامي؛ لهذا كنت في المقابل قوميا، أؤمن بالوحدة العربية على طريقة اليسار العربي دون أن أشعر بذلك، ولا نعرف معنى اليسار العربي ولا اللائكية ولا البعثية، فقد كنا ضد الرجعية المحلية والعربية، والامبريالية العالمية، كما كنا نسمعها من الخطابات السياسية لبومدين وأمثاله من رؤساء العرب.. هذا أعطاني توازنا لكي أتجنب الغلق أو التوجه للنضال الإسلامي”، يقول بوسعدية.
وذكر المحاضر أن الأستاذ علي الإدريسي، كان له فضل كبير في إخراجه جزئيا من السياج الدوغمائي، حيث علمه روح النقد، فاصبح يقرأ لمالك بن نبي، خاصة ثلاثيته (مشكلة الثقافة شروط النهضة ووجهة العالم الإسلامي)، إضافة إلى كتب أخرى قرأها لما كان في القسم النهائي مثل: أحمد أمين من فجر الاسلام إلى ضحى الاسلام، زكي نجيب محمود، تجديد الفكر العربي، علي عبد الرازق، الاسلام وأصول الحكم، طه حسين، في الشعر الجاهلي، وأشار المحاضر إلى أن اختياره لمادة الفلسفة في السنة الأولى، سمح له بأن يدرس بتمعن تلك المادة،  وكانت القطيعة مع الفكر عموما بعد التحاقه بـ “المدرسة الوطنية للإدارة”، عام 1981، بسبب كثرة المواد وثقلها وصعوبة وصرامة الدراسة، وقال: “كانت لي عودة محتشمة بعد حصولي على دبلوم المدرسة والتحاقي بالوظيفة العمومية بمؤسسة الجيش، استمر الوضع على ذلك إلى أن اكتشفت بالصدفة كتاب محمد أركون، “الفكر الإسلامي نقد واجتهاد” بمكتبة ديدوش مراد بالعاصمة، فأحيا فيّ القراءة وروح البحث من جديد حول ما يتعلق بالفكر الاسلامي”.

الرّحلة في رحاب فكر أركون..

 قال بوسعدية: “كان ذلك في خريف 1993..اقتنيت الكتاب “الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد”، نظرا لعنوانه الجذاب، وليس بسبب مؤلفه، فقد أثار فضولي، ولم أكن أسمع كثيرا بمحمد أركون، عدا بعض الإشارات العامة، مثل محادثة اختلافه مع المصري الغزالي، في ملتقى الفكر الإسلامي الذي جرى في 1984 بفندق الاوراسي، حيث كان عنوان الملتقى “الصحوة الإسلامية والمجتمع الإسلامي”، وكان أركون قد قدّم مداخلة حول اعتبار النص القرآني خطابا لغويا يمكن إخضاعه لمقاييس وأحكام النقد الألسني، كما فعل ذلك من قبل مع سورة الفاتحة في كتابه قراءات في القرآن، وهو ما أثار حفيظة الغزالي الذي قال له أن “كنت تؤمن بصحة ما تدعو إليه، فأنت مرتد”.
وأشار الأستاذ بوسعدية إلى أنه لم يكن يلتقي بكتب أركون في مكتبات العاصمة قبل 1993، خاصة وأن أغلبها لم يكن قد ترجم بعد، وكان المفكر غير معروف بالجامعات الجزائرية في عز الصحوة الإسلامية.
وذكر محمد بوسعدية أن كتاب الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، من ترجمة وتعليق هاشم صالح، كان أول كتاب تصدره المؤسسة الوطنية للكتاب، بمعية دار النشر الخاصة لافوميك، كما نشر في نفس السنة النسخة بالفرنسية عنوان مغاير penser l’islam aujourd’hui وهو الآخر عنوان مغاير للنسخة الأصلية التي صدرت في 1989 بفرنسا بعنوان ouverture sur l’islam وترجم في 1996بنافذة على الإسلام، وقال: “نشر كتاب أركون في تلك الظروف الأمنية من قبل مؤسسة وطنية، أعتقد أنه جاء في إطار الاحتواء الفكري للظاهرة الإسلامية، لكن أقولها صراحة.. كان ذلك بعد فوات الأوان”.
وأوضح المحاضر، في السياق ذاته، أن الكتاب في طبعته الأولى Ouverture sur l’Islam كان موجها للفرنسيين، وكان يحتوي على 21 سؤالا طرحها صحفيون على أركون، بعضها تبدو بديهية لكل مسلم تقليدي، كسؤال ماذا تعني كلمة اسلام ومسلم، ما المقصود بالوحي..لكن أسئلة أخرى تبدو عويصة على المسلم التقليدي العادي، مثل كيف تتمفصل ذروة السيادة الروحية العليا والسلطة السياسة في الإسلام، أو ماهي الروابط الموجودة بين الأنظمة الثلاث الإسلام والعلوم والفلسفة، وذلك من حيث الفعالية العقلية الثقافية، وكانت إجابة أركون حتى على الأسئلة التي تبدو بديهية، مخالفة تماما للإجابات التقليدية التي يمكن أن يقدمها أي إمام عادي في المسجد، حيث استعمل المنهج النقدي التاريخي في إجاباته، وأشار بوسعدية إلى أن تلك الأسئلة ليست في الحقيقة التي فتحت شهيته إلى قراءة فكر أركون، واعتبار هذا الكتاب دليلا فكريا أو لوحة قيادة للغوص في الفكر الاركوني وتسييره وفق معطيات هذا الكتاب، وإنما المحتويات الأخرى والمتمثلة فيما يلي:
أولا، المقدّمة المعنونة: “بعض مهام المثقف المسلم والعربي”، وهي مداخلة ألقاها أركون في مؤتمر علمي بجامعة نيس الفرنسية، تحت عنوان “المثقفون والمناضلون في العالم الإسلامي”، فكانت هذه المقدمة بالنسبة لبوسعدية المفتاح الذي اكتشف به القاموس الفكري الاركوني، وهي مصطلحات لم يلتق بها من قبل في قراءاته الفكرية والفلسفية كما ذكر، كالساحة الفكرية الذي استلهمه من بيير بورديو، والسياح الدوغمائي المغلق، ومديونية المعنى، وهو مصطلح بلوره مارسيل غوشي، والإسلاميات الكلاسيكية التي ترتكز على المنهجية الفيلولوجية والتاريخوية في مقابل الإسلاميات التطبيقية التي تعتمد على المناهج المختلفة كالنقد التاريخي والمعرفي والالسني والانثربولوجي، وهو مصطلح استلهمه اركون من روجي باستيلت صاحب كتاب الانتروبولوجية التطبيقية، مصطلح الأنسنة، المخيال، المفكر فيه واللامفكر فيه والممكن التفكير فيه والمستحيل التفكير فيه، الثقافة العالمة في مقابل الثقافة الشفاهية، الارثودوكسية في مقابل الهرطقة، الظاهرة القرآنية والظاهرة الإسلامية، الايبستيمي، القطيعة المعرفية...وقال: “فرحت أبحث عن كل هذه المصطلحات والمناهج في كتب أخرى وقواميس لإيجاد مفاتيح أصل بها إلى أعماق الفكر الأركوني”.

مواصلة قراءة أركون وما كتب عنه

 أكد الأستاذ بوسعدية أنه لم يكن سهلا عليه فهم المغزى العام لمشروع أركون، خاصة وأن أركون ألح على أن مشروعه النقدي لا يفهمه من لم يقرأ رسالة الشافعي، مشيرا إلى أنه لم يستطع قراءة الرسالة التي حققها أحمد محمد شاكر بتمعن، بل كانت قراءته لها سطحية، خاصة وأن اركون لخصها تلخيصا محكما في كتابه نقد العقل العربي.
وأوضح المحاضر - في السياق ذاته - أن قراءته وتلقيه للنسخة الأولى “تاريخية الفكر العربي الإسلامي”، كانت مغايرة تماما للنسخة الاخيرة “نقد العقل الاسلامي” الصادرة في 2009، حيث أصبح متمكنا، ولو نسبيا من القاموس الأركوني، ومن المناهج المستعملة، كما أشار إلى أنه بين قراءته للنسختين، اهتم بقراءة كتب أخرى لأركون مثل كتاب “الفكر العربي”، إضافة إلى كتاب آخر قال إنه كان سببا في خلخلة وزحزحة أفكاره هو: “قراءات في القرآن”، والذي يرى فيه أركون ان القراءات الحداثية للقرآن تتطلب الإحاطة بالأرضية المفهومية الخاصة بـ “اللسانيات الحديثة”، مع ما يصاحبها من أطر التفكير والنقد الابستيمولوجي، كما يجب على القارئ التمييز بين الاحتجاج والإدراك والتأويل والتفسير الذي يتم في الإطار المعرفي العقائدي، وبين التحليل والتفكيك للخطاب الديني، مؤكّدا أن أركون، بكتابه هذا، يكون أول من تجرأ على تطبيق المنهجيات الحديثة وعلوم الألسنيات، والمنهجية البنيوية على النص القرآني، بغرض كشف البنية اللغوية لهذا النص، كما فعله في سورة الفاتحة، فضلا عن تطبيقه بمنهجية النقد التاريخي، كما فعل في قراءة سورة الكهف، إلى جانب المنهج الانثربولوجي، كما فعل في سورة التوبة، مشيرا إلى أن الهدف من كل ذلك، هو تبيان حقيقة العلاقة القائمة بين الوحي والتاريخ وزحزحة مفهوم الوحي التقليدي الذي قدمته الأنظمة اللاهوتية.

ماذا يريد منّا أركون؟

 يرى الأستاذ بوسعدية أن هدف أركون الأساسي هو تحرير الوعي الإسلامي من السياج الدوغمائي والخروج منه، وذلك بتفكيك الإرث الديني عن طريق نقد العقل الإسلامي.

هل نجح مشروع أركون؟

 اعتبر الأستاذ محمد السعيد بوسعدية، أنّ السؤال سابق لآوانه، ولا يمكن الحكم عن المشروع إلا مستقبلا، مشيرا إلى أنها مهمة الأجيال الصاعدة، حيث قال: “شخصيا، أشعر أنّ هناك اهتمام متزايد من قبل عموم الناس بالفكر الأركوني، رغم صعوبته، ويبدو لي أن الشبكات الاجتماعية، وخاصة “فايسبوك”، ساهمت في انتشار أفكاره، وأنا شخصيا كنت أنشر سلسلة بعنوان كشف المكنون في فكر أركون، والكثير من الأصدقاء أكدوا لي أنّهم اكتشفوا أركون بفضل هذه المناشير”.
وفي كلمة أخيرة، قال الأستاذ بوسعدية: “كان أركون صادقا في مشروعه، وكنت أشعر بالألم والإحباط الذي يصيبه أحيانا عبر كتبه، وأتابع ندواته عبر اليوتيوب، لا أعرف مفكرا نال من الألقاب المتناقضة كما نالها أركون، فهو الملحد والكافر والمسيحي المبشر والمستشرق، وهو أيضا الأصولي كما وصفه الفرنسيون عندما ندّد برواية “آيات شيطانية”، وهو أيضا السلفي كما وصفه الهولندي رون هالبر في كتابه “العقل الاسلامي أمام تراث أصل الأنوار في الغرب -الجهود الفلسفية عند محمد أركون”، والتونسي محمد المازوغي الذي وصفه بـ “الاخواني”.