طباعة هذه الصفحة

التحولات الراهنة للرواية الجزائرية المكتوبــة باللغـة العربيــة

بقلم الأستاذ محمد داود جامعة وهران

في الحلقة الأولى من مقال «التّحولات الراهنة للرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية»، عالج الأستاذ الدكتور محمد داود، بدايات «الرواية» بالجزائر، وأشار إلى أن المنتج الأدبي، في بداياته، كان في أغلبه منخرطا في اتجاه يتبنى الإصلاحات السياسية ذات الطابع الوطني والاشتراكي، ثم ركّز على التحوّلات التي عرفتها الساحة الأدبية مع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات إلى غاية سقوط الأحادية، وإرساء قواعد التعدّدية السياسية والإعلامية، وفتح المجال لجميع التيارات الفكرية والإيديولوجية، وتعرّض إلى أهمّ الأحداث التي أسهمت في تشكيل السّرد الروائي، والسياقات التي ظهرت فيها مختلف التوجهات السّردية، ثم تدرّج ـ على محور تاريخي ـ ليقدم عددا من النماذج الروائية في التسعينيات..
التحرير

 


 -ج - عمارة لخوص وثأر التاريخ
ويمكن أن نقول إن الروائي «عمارة لخوص» وفي روايته «طير الليل» قد خاض في موضوع جد حسّاس جمع فيه بين الرواية البوليسية السوداء ذات الأبعاد التاريخية والسياسية، حيث تتمّ التصفية الجسدية لأحد الضباط في مدينة وهران. ومن هنا التساؤل عن «المستفيد من الجريمة»، ليبدأ التحقيق ويدخل المحققون في دهاليز التاريخ القديم منه نسبيا والمعاصر، وكذلك في المسكوت عنه في تاريخ الثورة التحريرية وفترة التسعينيات، وما تطرحه من أسئلة شائكة.
وتلعب الذاكرة المجروحة والصدمات النفسية والذكريات الأليمة الناتجة عن الحرب التحريرية وعن فترة التسعينيات دورا كبيرا في التحولات السردية للنص، وترفع من وتيرة التشويق والإثارة لتبلغ مداها مع مرور الأحداث وما تحمله من رمزية قوية ترتبط بالحاضر وبالماضي، مما يجعل المحققون يتجهون صوب الماضي لمعرفة الأسرار لهذه الجريمة وبالتالي التمكّن من حل كل هذه الألغاز المرتبطة بها، وبخاصة وأن المشتبه فيهم كثيرون، وهم جميع الشخصيات التي كانت لها علاقة بالضحية، وهي شخصية نافذة تحمل اسم «ميلود صبري» والملقب بـ»طير الليل» وهي كنية، اكتسبها ميلود صبري منذ صغره، أي منذ التحاقه بالكتاب، إذ أن الشيخ «بوزيان فرحي» الذي كان يعلّم القرآن في الكتاب في سيدي بلال هو من أطلق عليه هذه الكنية التي تعني ذلك الشخص الذي يلعب على الحبلين مثل الخفاش.. «إذا التقى الطيور أظهر لها جناحيه قائلا أنا واحد منكم، وإذا التقى بالفئران أبرز أسنانه قائلا بأنه مثلهم»، إذ يقتل «ميلود صبري» ذبحا وتقطع أرنبة أنفه في هذا التاريخ ذي الرمزية الكبيرة بالنسبة للجزائريين، في «فيلا الخليلات» بحي سان هوبر. من قتله؟ ومن المستفيد من الجريمة؟ ولماذا؟ وهل الأمر يتعلّق بعملية إرهابية، أو بتصفية حساب؟ أو بجريمة سرقة أخذت مسارا سيئا؟
مسرح الجريمة «فيلا الخليلات» ملكية لميلود صبري الذي لا يعلم بوجودها أحد عدا المقربين جدا من ميلود صبري، مما يدل على أن الضحية شخصية غامضة جدا ولغز كبير. بإمكاننا أن نعرف مكان وزمان الجريمة الرئيسية، وأسماء بعض مقترفي الجرائم الأخرى بسهولة، لكن علينا اكتشاف المجرم الحقيقي وأسماء المتورّطين معه، ومعرفة الدوافع الحقيقية وراء ذلك، وهذا ليس سهلا، بسبب أن التحقيق في الرواية يأخذ اتجاهين وهو مزدوج: تحقيق يقوم به العقيد كريم سلطاني وتحقيق يقوم المحامي إدريس طالبي، ونتائج التحقيقين يلتقيان في نقطة واحدة: الدوافع الكامنة وراء الجريمة الرئيسية والجرائم الأخرى والروابط التي تجمع بينها. وهي روابط تتقاطع مع ماضي كل الشخصيات ومع الحاضر، أي الخيانة الزوجية ودوافع الانتقام.
 -د- أحمد عبد الكريم: الرحلة والمغامرة الفكرية:
عندما نحاول قراءة هذا النص الروائي، أول شيء يدفع بنا للتساؤل يتمثل في العنوان، وهي تعني فيما تعني عملية تجميع لمجموعة من الأجزاء والأشكال المتناثرة وإلصاقها في عمل متكامل، قد يكون عملا فنيا، وبخاصة وأن صاحب النص يهتم بالفن التشكيلي، وقد جاء الرواية على شكل لوحة فنية تتضمّن عدة صور ومواقف، والرواية هي اسم للوحة قام برسمها «علي الجنوي»، أحد أبطال الرواية، ألصقت بها أجزاء من مخطوط هدنة بين المسلمين والمسيحيين لتعود إليه مرة ثانية. وهي رواية تتعامل مع القضايا المعرفية بامتياز، فمن تطرقها إلى القضايا المتعلقة بالوطن وبتاريخه وبهويته اللغوية والدينية، أي الخط العربي الجميل، وبالنزعة الصوفية وحديثها عن البيئة الصحراوية لما تحمله من أسرار وسمو جمالي ومتعة كبيرة، وهي الفضاء السحري الذي امتلك وجدان الشخصيات الروائية؛ ولذلك نجد أن هذا الفضاء يحتل حيزا كبيرا في النص الروائي.
ويشير النص إلى مجموعة من التناقضات الثقافية التي يعيشها المجتمع الجزائري، وكذلك علاقته مع فرنسا، حيث يسافر كثيرون إلى مدينة باريس بحثا عن العمل أو عن الشهرة وغيرها من الامتيازات التي تغيب في بلدهم، وهذا يمسّ كثيرا من الفنانين والمثقفين الذين خابت آمالهم. ولعلّ الحدث الرئيسي لهذا النص الروائي، قد يتمثل في سرقة مخطوط هدنة بين المسلمين والمسيحيين للخطّاط المشهور ابن مقلة من متحف آيا صوفيا بإسطنبول - تركيا، مما جعل البحث عن السارق يأخذ طابع البحث البوليسي، لكن الرواية لا تنتمي إلى هذا النوع من الكتابة الروائية. وابن مُقلة، وهو أبو علي محمد بن علي بن الحسين بن مقلة الشيرازي، عاش في القرن الثالث الهجري، أي نهاية القرن التاسع الميلادي، ببغداد، وهو وزير عباسي، وكاتب، وشاعر. كان من أشهر خطاطي العصر العباسي، وأول من وضع أسسا مكتوبة للخط العربي. وهكذا تدخل الأحداث في أجواء البحث الأمني لأجل اكتشاف سر اختفاء الوثيقة واختفاء الجاني، وتحمل السؤال: لماذا أقدم الجيلاني على ذلك الفعل؟ ولماذا قام بسرقة زهرة الخفاش للفنان «فان كوخ» من معرض بالقاهرة؟ لكن الأسئلة ظلّت بدون أجوبة، مما يضفي غموضا كبيرا على الرواية وعلى أحداثها التي جرت في العديد من الفضاءات. اسطنبول، بغداد، القاهرة، باريس وصحراء الجزائر.. وهي رواية غنية بالأحداث والرمزيات.

 -و- العربي رمضاني والهجرة السرية ومخاطرها:
وهي ذات الرحلة التي تناولها في روايته العربي رمضاني «أناشيد الملح: سيرة حِراك»، لكن هذه المرة رحلة غير قانونية يقوم بها شباب ضائع يبحث أيضا، مثل شخصية حميد عبد القادر، عن السعادة وعن الحياة الكريمة في الهناك، في «الجنة الموعودة»، وفي سفن لا تملك الصلابة والقوة المأمولة، وقد تغرق في أي لحظة بسبب هشاشتها. والرواية تشكّل نوعا من السيرة الذاتية توحي بكثير من الحقائق الواقعية التي يعانيها شباب الجزائر الذي يخاطر بنفسه على متن «قوارب الموت»، رافعا شعار «يأكلوني الحوت وما يأكلونيش الدود»، في إشارة واضحة إلى عدم الدفن في الوطن، وهو احتجاج صريح على الوضع القائم في الجزائر، بل صرخة في وجه الظلم.. إنها مأساة الكثير من الشباب العاطل عن العمل والباحث عن أقف جديد. فيروي لنا النص شهادة «عائد من الموت» عبر المحطات المختلفة التي مرّ بها البطل وعبوره لمختلف البلدان التي توقف فيها، ليعود إلى الجزائر.
والرواية هي عبارة عن سيرة ذاتية لشاب جزائري خاض غمار البحر وعاش أهواله بحثا عن الخلاص من واقع مزري، إذ يتحوّل الحلم إلى كابوس مؤلم، يسرد فيه تجربته مع الهجرة غير القانونية أو «الحرقة»، حيث انتقل من الجزائر إلى تركيا ومنها إلى اليونان بحثا عن منفذ يقوده إلى أوروبا. وعالم هذه الرحلة الشاقة هو عالم قاس جدا، عاشه البطل بكل جوارحه، وكان عليه أن يتأقلم مع كل الظروف للنجاة من الموت أو الاعتقال من قبل السلطات الأمنية للبلدان التي حطّ الرحال بها، مما يضطره لإخفاء هويته الجزائرية وانتحال الهوية السورية، هوية شعب يتعرّض لضغوطات الحرب الأهلية الدائرة في بلده، ويسعى أبناؤه للهروب من تلك المآسي. وقد تعرف على أجناس مختلفة، من عرب وأفارقة وآسيويين، خاضوا معه هذه التجربة المرّة، حيث يتهدّدهم الموت في كل لحظة، فالغرق في البحر أو بالصعقة الكهربائية على الحدود المغلقة بالأسلاك الشائكة. ويهجر الشباب إلى بلدان الضفة المقابلة للبحث عن العمل وعن ظروف العيش الكريم وعن الحرية التي افتقدوها في بلدانهم الأصلية التي تتحكّم فيها العصابات الفاسدة. وقد جاءت الرواية على شكل رواية تسجيلية تسرد الوقائع كما عاشه المهاجرون وفي مختلف المحطات من عبور للبحر والسجون والمخيمات المخصّصة لهم في اليونان وتعرضهم لابتزاز وكذلك تلاعبات حراس الحدود والجمارك والوسطاء والمهربين، الذين يستثمرون في مأساتهم، إلى غير ذلك من المنخرطين في هذه العملية غير القانونية أو كما تسمى إجحافا بالهجرة غير الشرعية. ويقابله في ذلك إنسانية العابرين للحدود وتضامنهم وأخلاقهم العالية. هي حكاية خيبة وانكسار لفئة من المجتمع الجزائري، وهي مأساة حقيقية، لا ينجو منها إلا القليل، القليل. وهي رحلة داخل بلدان أخرى تجعل البطل ينبهر بجماله وحرية أبنائها، وهي الأمور التي يخلو منها وطنه، كما يتعرّف على تسامح رجال الدين في اليونان الذين يقدّمون مساعدات جمة لهم. وهي الرواية، على الرغم من مأسويتها، فغنها تشع بالتسامح والإنسانية العميقة.

 الخلاصة:

وفي الخلاصة يمكن القول إن هذه الفترة، أي الألفية الثالثة، قد شهدت صدور مجموعة كبيرة من النصوص الروائية وبروز العديد من الأسماء الأدبية ممن عايشوا عن قرب الأحداث الدامية التي عرفتها الجزائر في التسعينيات، وتأثروا بها أيما تأثير وتركت في نفوسهم جراحا كبيرا وصدمات نفسية عميقة، ومن أمثال هؤلاء نجد كل من بشير مفتي وحميد عبد القادر وعمارة لخوص وهي هواجس تعود وتكرر وتبرز إلى السطح في النصوص وبأشكال مختلفة. ويمكن القول إن الرواية الجزائرية في العصر الراهن قد عرفت أسماء جديدة ومنها سعيد خطيبي وسمير قسيمي وعبد الوهاب عيساوي وبومدين بلكبير وأحمد طيباوي ورفيق جلول وغيرهم كثير، تفتح أفاقا جديدة في الكتابة والابداع.