طباعة هذه الصفحة

إلى ماهر يونس.. بين زمنين

بقلم: الأسيرة المحررة دعاء الجيوسي

 (الحوت قد أعياه بلع يونس وغص غصة.. فصار قصة..  وغاب في لجة الضياع) عندما كتب الشاعر ناهض الريس مطلع التسعينات قصيدته التي صارت أغنية فيما بعد عرفت باسم أغنية خانيونس كجزء من سلسلة أغاني المدن الفلسطينية كان الأسير ماهر يونس يطوي عامه السابع في الأسر فلم يقرأ القصيدة ولم يسمع الأغنية وظلت معرفته بالعبد الصالح ابن مَتّى مرتبطة بالنص الديني ومأثور ما قبل الأسر..
بعد أيام سيخرج ماهر من زنزانته الضيقة بعد أن يكون أطعمها من عمره أربعين عاماً بالتمام والكمال وسيُدرك أن لكل شيء في زمن الأسر مرادف في الحياة الطبيعية.. سيتعلم من جديد أن للساعة السادسة صباحاً معانٍ أخرى غير العدد والتفتيش..
وسيُفاجئ بأن الشمس لا زالت تمارس طفولتها الصاخبة على وجه السماء في هذه الساعة وبأن العصافير لا زالت تغرد عن بلوغها.. وعليه أن يتعلم أن للنهار مُرادفات أخرى غير الخروج للفورة والقراءة والقيلولة الإجبارية..
 وسيُدرك من جديد أن في العالم إختراع اسمه الأواني الزجاجية وأن للقهوة فيها مذاق آخر.. وعليه أن يُعوِد عينيه على مغادرة دائرة الألوان القاتمة والممرات الضيقة.. وعند تحرره من الزمن الدائري لواقع الحياة ومع استنشاقه النسمة الأولى من هواء البلاد عليه أن يُعيد قراءة ألواح بني إسرائيل وأسفارهم فربما لإستنشاق الغويم نسمة هواء عميقة أو تحديقهم في قرص الشمس عقوبة أقرّها رب الجنود..
وقد يكون سقوط المطر على أرض عارة خطيئة نهى عنها إشعيا.. وعلى ماهر أن يُدرك أن الشمس ليست وحده فلشعب الله المختار دفئها في الشتاء..
وخيرها في الصيف وأنه كعابر عمره فقط خمسة آلاف سنة لا حق له فيها.. عندما يخرج ماهر من سجنه عليه أن يتعلّم لعبة الوقت والشخوص.. والتفريق بين المواسم فالربيع يعني زهراً فوق الأرض لا ربواً ينهش الرئتين لنزلاء السجون الساحلية.. والشتاء يعني برداً بات بمقدوره إتقاءه باللباس والغطاء الثقيل وليس موسماً لآلام الروماتيزم وحبات الأكامول السحرية، وله حرية الإختيار في أن يعتبر خريف البلاد الممتد منذ مائة عام موسم لضيق الصدر والضجر أو حقلاً للتمرد.. وعليه أن ينتظر الصيف ويطيل الإنتظار..
 عزيزي ماهر يا أخ القيد، لا تسمع نصحي ولا تُعره بالاً فإني دعوتك للبر ونَسيتُ نفسي ذلك أنني وأنا التي أمضيت رُبع مدة أسرك فقط خلف القضبان لا زلت أجهل لعبة الوقت ومرادفاتها ولا زالت الأمور مختلطة علي فأصحو يومياً أنتظر العدد والتفتيش وأنسجم أكثر مع داكن الألوان  وضَّيق المساحات..
هذا وأنا بنت عشر سنوات سجن لا أكثر فكيف الحال معك وأنت ابن السجن وربيبه لأربعين عاماً..
إبق كما أنت ففي واقعنا الملوث لا أجمل من صفاء السجن ووضوح الرؤية فيه.. ولا أمتع من قهوته الباردة وسجائره الكثيرة.. وعلى هامش الحرية المنقوصة أُهديك أغنية خان يونس فاسمعها ولك معها أعطر تحياتي وقُبلاتي.