طباعة هذه الصفحة

السّيرة الفلسطينية

2 - ثرثرة من خلف القضبان

بقلم الأسيرة المحرّرة: دعاء الجيوسي

 بعد أن أتمّت عجوزنا القاصّة تعريفنا بأنجالها وألقت بين يدي الجمع أحمالها..قالت أيا كرام بعد أن علمتم حال أبنائي في مواسم الجوع، وخبرتم أني ما ولدتهم لخنوع تعالوا أحكي لكم عن تفصيلة في أيامهم الثقيلة..ذلك أنهم تحت القيد تلاحقهم لعنة التشريد....فابن التيه من يجهل أبيه يُشتّتهم على الدوام ومرّ الأيام...وفي رحلة نقلهم من درك جهنّمي لآخر جديد يُكومون في صناديق حديد اسمها (البوسطة) بالضبط كالقبور، يومهم فيها ويل وثبور وكل ما عَظُم من الأمور..داخل الصندوق آخر أصغر منه، وداخل هذا الصغير قفص وحرس، وكومة جثث القيد يشدّها والسوط يحدّها والموت حدها، ويبدو والعلم عند الرب أنّ من صنع الصناديق ليس حداداً بل من أهل الطب، وإلا كيف علم أسرار العظام وخلق الآلام؟ وكيف لصانع أن يعلم كم ساعة بالضبط يحتاج الألم ليولد في الجسم، وكم قيد يكفي لِيُبدد اللحم؟

ورغم الوجع والتعب وسوء المنقلب، وما قدمت وفي وصفه أسرفت قد تعجبون، فأبنائي وبناتي لا يزالون أحياء، أذكر أنّي مرةً كنت أزورهم في محبسهم بقمة الكرمل، فبكيت ودعيت ورثيت وصليت، وبلا إطالة اسمعوا ما رأيت...كانت زهرة عمري تتوكأ على الجدار أتتني يقصم ظهرها الوجع ولكنها جميلة..كان شعرها فاحما منسدلا ناعما، ابتسامتها تسحر لا آلام الأسنان ذهبت ببسمتها، ولا تقوس عمودها الفقري أذهب شوه مشيتها....سألتها أيا بنية أتراك هرمتي أم أنّ أعيني أخطأتك، فتبسمت وقالت يا أجمل الأمهات أنا لا زلت حية وسأحيا، أتعرفين كيف أُقاوم العمر والقهر وباب القبر...أنا أُطيل شعري وأُغنّي، إن ألهب الصوت ظهري أغني، للبلاد والربيع للغزلان تتقافر بأبواب طولكرم، للشموع تولد في بيت لحم، لأطفال لم أنجبهم بعد، لوطن أنزُفه وحبيب لا زلت لا أعرفه، وأكتب على حديد البوسطة وجدار الزنزانة أسماء مائة طفل سأنجبهم، فدعيك من وجعي واحفظي عنّي وعن إخوتي وأخواتي هذا البوح، واحمليه للناس قولي لهم....
إنّنا معشر الأسرى
بقية البلاد
صوفية العُباد
وإنّا قرامطة بلا إلحاد..
قولي لهم:
إنّنا سيف في ثورة الزنج
وإنّا مورسكيون بمحاكم الإفرنج...
ثم قولي:
إنّنا على الجبل لم ننزل
لم نخذل نبياً
ولا أبياً
وإنّنا لا نزال أحياء
وبعد أن سمعت من بنيتي ونقلت لكم، تقول العجوز هلا وصل الصوت أم ضاع بجملة ما ضاع من شعبنا وأمتنا في زمن الموت؟