تجسيـد ملموس لقـدرات الجيــش في إدارة سيناريوهـات عسكرية معقّـدة
يندرج احتضان الجزائر لتمرين “سلام شمال إفريقيا 3”، الذي يُنظّم ضمن آلية الاتحاد الإفريقي، ويضمّ وحدات من الدول الأعضاء، في إطار تعزيز قدرات الاستجابة الجماعية لمهام دعم السلام في القارة، وترجمة فعلية لجهود التنسيق الإقليمي التي تراكمها الجزائر منذ سنوات في سبيل تطوير قدرة إقليم شمال إفريقيا.
وشمل التمرين، الذي نظم في المدرسة العليا للمشاة بشرشال بين 17 و29 ماي، مراحل محاكاة لبعثة متعدّدة الأبعاد تهدف إلى ضمان استجابة سريعة وفعّالة في الحالات الطارئة، مع التزام دقيق من قبل الفرق المشاركة في الجوانب التخطيطية والتنفيذية.
كذلك، فإنّ هذا التمرين يندرج ضمن مسعى طويل الأمد تسلكه الجزائر نحو ترسيخ مبدأ “الحلول الإفريقية للمشاكل الإفريقية”، وهو ما أكّد عليه رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون وقيادات الجيش الوطني الشعبي في أكثر من مناسبة، مشدّدة على ضرورة اعتماد المقاربات الواقعية والذاتية في معالجة النزاعات، دون الارتهان لنماذج مفروضة أو تدخّلات أجنبية لطالما عقّدت الأزمات ولم تحلها، إضافة إلى أنّ تنفيذ التمرين التكتيكي “صمود 2025” بالذخيرة الحية تحت إشراف مباشر من الفريق أول السعيد شنقريحة، يبرز حرص القيادة العسكرية للجيش الوطني الشعبي على تقييم القدرات القتالية بشكل دوري، في مختلف التضاريس والظروف العملياتية. وقد أظهر هذا التمرين مستويات متقدمة من التنسيق بين مختلف القوات، وتجسيدًا ملموسًا لقدرات الجيش الوطني الشعبي في إدارة سيناريوهات عسكرية معقّدة في بيئات صحراوية وجبلية، خاصة وأنّ الجيش الوطني يصنف الأول على مستوى القارة في قدرته على القتال في بيئات مختلفة ولفترات طويلة. في السياق، فإنّ الجيش الوطني الشعبي الذي يُصنَّف ضمن أقوى الجيوش في المنطقة، لا يستند فقط إلى العتاد والتجهيزات الحديثة، بل إلى عقيدة عسكرية متجذّرة ترتكز على مبدأ السيادة الوطنية والدفاع عن سلامة التراب الوطني دون مساومة.. هذه العقيدة التي تبلورت تاريخيًا من خلال مراحل الكفاح المسلّح ضدّ الاستعمار، ما تزال اليوم تشكّل البوصلة التي توجّه عمل المؤسّسة العسكرية في الداخل والخارج.
علاوة على ذلك، فإنّ مستوى الاحترافية الذي ميّز سير التمرينين يؤكّد أنّ الجاهزية لا تقتصر على الجانب التقني أو التعبوي، بل تشمل البُعد التنظيمي والانضباط العملياتي، وهو ما يفتح آفاقًا أكبر لمساهمة الجزائر في مبادرات حفظ السّلام تحت مظلة الاتحاد الإفريقي، أو في إطار شراكات إقليمية أكثر تكاملاً.
وخاصة في ظل التحولات السريعة التي تعرفها القارة الإفريقية، سواء على مستوى التهديدات التقليدية كالانقلابات والصراعات الحدودية، أو التهديدات الجديدة المرتبطة بالإرهاب والجريمة المنظمة والهجرة غير النظامية، فإنّ الأدوار القيادية للجزائر في المجال العسكري والأمني لم تعد خيارًا، بل ضرورة تفرضها الجغرافيا والدور التاريخي والبنية المؤسّساتية الصلبة، التي يتمتع بها الجيش الوطني الشعبي.
ما شهدته الجزائر في ماي 2025، من تمرينات عسكرية دقيقة في إطار جماعي وثنائي، يعكس اتساع رؤية الأمن القومي الجزائري، التي لا تتوقّف عند حماية الحدود، بل تمتد لحماية المجال الإقليمي والتموضع بفعالية ضمن آليات صنع القرار الدفاعي على المستوى القاري.
وإذا كانت هذه التحرّكات تعكس قدرة الدولة على تنظيم واستيعاب التحديات الأمنية، فإنها تبرز مدى الانسجام بين التوجهات السياسية للجزائر وعمقها العسكري، في لحظة تتطلب توازنًا دقيقًا بين الدبلوماسية الوقائية والقوة الردعية، وهي معادلة تجيد الجزائر إدارتها دون ضجيج، ولكن بنتائج ميدانية ملموسة.