طباعة هذه الصفحة

تجارب درامية قليلة.. ودراسات علمية أقلّ

مسرح ذوي الاحتياجات الخاصة تحت مجهر الباحثين

أسامة إفراح

كنا قد تطرقنا، بحر الأسبوع الماضي، إلى مسرحية “أنتيغون” التي أنتجها المسرح الوطني الجزائري وعُرضت بمناسبة اليوم الوطني لذوي الاحتياجات الخاصة. وارتأينا، في هذه السانحة، أن نعود بتعمق أكثر إلى العلاقة بين المسرح وهذه الفئة من المجتمع، محاولين استعراض عدد من الدراسات والكتابات الأكاديمية الجزائرية، وإن كان موضوع مقالنا السابق يعالج تجربة المخرج صادق الكبير رفقة مسرح بلعباس الجهوي، من خلال مسرحيات “غرفة الأصدقاء”، و«الملك أوديب”، ثم “أنتيغون” في مرحلة ثالثة، فإننا نرمي، من خلال هذا المقال، إلى تسليط الضوء أكثر على ما يمكن أن يقدمه المسرح لذوي الاحتياجات الخاصة، وما يمكن أن يقدمه هؤلاء للمسرح.

قليلة جدا هي الدراسات، أو بتعبير أدّق، المقالات العلمية التي خصّصها الباحثون في جامعاتنا لدراسة العلاقة بين ذوي الاحتياجات الخاصة والمسرح. لا نقول هنا إن هذه الفئة لا تحظى باهتمام الدارسين، بل توجد كثير من المقالات الجامعية والدراسات العلمية التي تعنى بالمسائل العلاجية ومشاكل الإدماج وحتى توظيف الرياضة في علاج هذه المشاكل، ولكننا ننبه إلى أن تطرق باحثينا إلى دور المسرح، واندماج هذه الفئة في الإبداع الدرامي، وغير ذلك من أوجه هذه العلاقة، يبقى ناقصا إلى حد كبير. مع ذلك، توجد بعض الأعمال التي تستحق التنويه، وقد استأنسنا ببعضها للحديث عن هذا الموضوع.

من التلّقي.. إلى الإنجاز والإبداع

في مقاله “الفعل الدرامي وآليات التلقي في مسرح ذوي الاحتياجات الخاصة” المنشور سنة 2021 بالمجلة العلمية “سوسيولوجيا”، يرى الباحث عثمان ميهوبي، من جامعة قاصدي مرباح بورقلة، أن الفعل الدرامي عند ذوي الاحتياجات الخاصة يشكل “قفزة نوعية في التعاطي مع هذه الحلقة الاجتماعية”، خاصة حين “ينتقل صاحب الإعاقة من فعل التلقي والمشاهدة إلى فعل الإنجاز والأداء”، ومن هنا يأتي الحديث عن الفعل الدرامي مقرونا بالمهارات التي يتصف بها الممثل عموما على ركح المسرح قصد تحقيق الهدف المنشود من المسرحية عند هذه الفئة بالذات، وآليات تحققه، والتي “نرى أنها تتراوح بين صنفين هما الأداء الحركي الحسي والأداء الصوتي الإلقائي في العرف العام”، يقول ميهوبي.
ويذكّر الباحث بأن المسرح ظاهرة احتفالية جماعية يقوم بها العديد من الممثلين على اختلاف أعمارهم، ومواهبهم قصد التعبير عن قضايا وطموحات المجتمع في الحياة، وبما أن المسرح هو فن أدائي ينضح بالحركة والحيوية، وجب فسح المجال لذوي الاحتياجات الخاصة، قصد دمجهم ضمن المجموعات المسرحية، ممثلين أو متلقين، فوقوف الممثل من ذوي الاحتياجات الخاصة على ركح الخشبة، أمام الجمهور في عرض مسرحي، بدون حواجز، لاشك أنه يتطلب الكثير من الثقة بالنفس والشجاعة، وهو الأمر الذي ينعكس إيجابا عليهم، إذ تزيد ثقة الفرد بنفسه، ويكسر الكثير من المعوقات التي كانت تقف حجر عثرة أمام طريقه، بالإضافة إلى كشف تلك الإمكانيات والمواهب النفسية والوجدانية والأدائية، التي يتحلى بها الممثل من ذوي الاحتياجات الخاصة، وعليه يلعب الفعل الدرامي دورا هاما في الكشف عن مختلف هذه المواهب وتشخيصها.
أكثر من ذلك، يرى ميهوبي أن تشكل الفعل الدرامي لذوي الاحتياجات الخاصة مرتبط بمهارات الممثل نفسه، فالممثل “المعاق البيّن الإعاقة” لا شك هو ممثل متفرد ومتميز عن غيره، خاصة إذا “كان ذا قدرات ومواهب أدائية تميزه عن غيره من الممثلين”، ضف إلى ذلك قدرته وتمكنه من توظيف أدواته الداخلية، والتي تضم الجوانب العاطفية والشعورية للشخصية، وسيتفاعل معه الجمهور من الوهلة الأولى، “ويتعاطفون معه، ومع إعاقته وموهبته”، إضافة إلى الفعل الدرامي المنوط به في المسرحية، وهكذا سينقل الصورة الواقعية الحقيقية بحذافيرها عن الحياة، وما تعاني منه هذه الفئة من معوقات في صمت، وعليه فجوهر وروح العمل الدرامي الذي يتداول بين الممثلين في شكل معادلة تتنامى لتقدم للآخر غاية وهدفا من العمل الدرامي في حد ذاته، وهو العنصر الذي يحول وينقل النص من المكتوب إلى الأداء، على اعتبار أن المسرح فن يقوم على الأداء، وهنا وجب التركيز على الحوار في الفعل الدرامي عند ذوي الاحتياجات الخاصة، فليس بالضرورة أن يتقيد الممثل صاحب الإعاقة بكل ما طلب منه في النص، بل يكتفي بإنجاز الأهم فقط، ونظرا إلى أن الحوار الدرامي “مركز منتقى مهذب، وله غاية محددة، أي أنه درامي، ولا شك أن الكتاب المسرحيين جميعا يعرفون ذلك، ويفرقون تفريقا دقيقا بين الحوار المسرحي والكلام العادي”، وجب الأخذ بعين الاعتبار تلك الفئة التي لا تستطيع التواصل إلا عن طريق لغاتها وإيماءاتها الخاصة بها فقط، يقول الباحث.
وخلص ميهوبي إلى أن المسرح حق للجميع وليس حكرا على فئة دون غيرها في المجتمع، فهو فن أدائي يتسع ليضم كل الشرائح، لذا وجب إعادة النظر في فئة ذوي الاحتياجات الخاصة باعتبارها فئة تعاني “التهميش والتقزيم”، فبالمسرح يمكن تبني العديد من القضايا ذات الطابع الاجتماعي والنفسي لهم، وذلك إذا وظف بطريقة محترفة وجيدة، فإنه لاشك سيسهم في إنشاء جيل واع، ومثقف في شتى مجالات وجوانب الحياة الاجتماعية والثقافية، والاقتصادية، وذوو الاحتياجات الخاصة هم شركاء في المستقبل “وهم الثروة الحقيقية بما وهبهم الله من قدرات وطاقات خلاقة ومنتجة”، ومن هنا فالعمل على دمج هذه الفئة في مجال التمثيل، وتحميلها ما تطيق من مسؤولية، في بناء تشاركي تفاعلي مع بقية الممثلين “لا شك يدفع عجلة التواصل والانسجام لهؤلاء في المجتمع، ويؤهلهم للحياة”.
واعتبر ميهوبي أن المسرح دواء ناجع في كثير من الحالات لمثل أولئك الذين يعانون عزوفا وتقوقعا على أنفسهم، بناءً على النظرة السلبية التي جعلت منهم كذلك، وقد أصبح التمثيل والأداء علاجا ناجعا في إعادة هيكلة وبناء شخصية الفرد “المعاق” وبث روح الأمل والنجاح والقدرة على كشف مواهبه وإمكاناته، فكلما سنحت الفرصة له للتمثيل والتواصل مع الآخرين سواء على خشبة المسرح، أو في مقامات مشهدية، كلما اكتشفنا عالما خفيا لحلقة مهمة في المجتمع تعج بالحركة والأمل وتبحث عمن يحرك غرائزها ويصقل مواهبها حتى تساير الآخرين.

مسرح ذوي الاحتياجات الخاصّة.. بالأرقام

كما يظهر من عنوان مقالها “ذوو الهمم العالية وإدماجهم فنيا ـــ غرفة الأصدقاء والملك أوديب ـــ أنموذجا للمسرح الجهوي سيدي بلعباس”، المنشور بالمجلة العلمية “النص” سنة 2021، ركزت الباحثة عباسية مادوني من جامعة تلمسان، على تجربة صادق الكبير في مجال مسرح ذوي الاحتياجات الخاصة، وهو ما تطرقنا إليه في مقال سابق.
وفي مجال العناية بهذه الفئة، ومحاولة الوقوف عند احتياجاتها واستكشاف مهاراتها الإبداعية خاصة فيما يتعلق بأبي الفنون، عرضت مادوني نتائج دراسة قام بها فريق من الباحثين في الإعلام وعلوم المسرح تحت إشراف الدكتور كمال الدين عيد، وهو مخرج ومبدع ومنظر أكاديمي، وأستاذ مناهج الإخراج المسرحي بالمعهد العالي للفنون المسرحية بأكاديمية الفنون بمصر، حيث أقبل على دراسة حول “قضايا ذوي الاحتياجات الخاصة في دراما المسرح الحديث”، معتبرا أن الفن يلعب دورا هاما في معالجة العديد من قضايا ومشكلات المجتمع حيث يعكس الفن حياة المجتمع السياسية والاقتصادية والثقافية، ويعد المسرح أداة فنية مهمة يمكن من خلالها طرح ومناقشة العديد من القضايا مع تقديم حلول لها.
وقد كشفت النتائج عن اهتمام كتاب المسرح الحديث بقضايا المعاقين، حيث جاءت قضية الظروف الاقتصادية في الترتيب الأول بنسبة 40 بالمائة، يليها قضية اتجاهات المجتمع والأفراد تجاه ذوي الاحتياجات الخاصة بنسبة 22.5 بالمائة، ثم قضية زواج تلك الفئات بنسبة 20 بالمائة، قضية التأهيل بنسبة 10 بالمائة، وتربية وتعليم هؤلاء الأفراد بنسبة 5 بالمائة، وأخيرا قضية دمج ذوى الاحتياجات الخاصة بنسبة 2.5 بالمائة، “وهي نسبة جد ضئيلة تكشف عدم الالتفات الجدي نحو هذه الفئة”.
كما اعتمد الكتاب المسرحيون بدرجة كبيرة على الأفراد ذوي الإعاقة الحركية في التعبير عن تلك القضايا حيث جاءت الإعاقة الحركية في الترتيب الأول بنسبة تفوق 53 بالمائة، بينما جاءت في الترتيب الثاني الإعاقة البصرية بنسبة 25 بالمائة، وفي الترتيب الثالث الإعاقات المتعددة بنسبة تقارب 22 بالمائة، واعتمد الكتاب على شخصيات ذوى الاحتياجات الخاصة لكي تلعب أدوارا رئيسية في دراما العصر الحديث، حيث جاءت الشخصية الرئيسية المعبرة عن شخصية المعاق في الترتيب الأول بنسبة 87 بالمائة، بينما جاءت في الترتيب الثاني الشخصية الثانوية بنسبة 12.5 بالمائة.
وأبرزت الدراسة أن أكثر السمات الايجابية للشخصية المعبرة عن ذوي الإعاقات في النص المسرحي هي قوة الإرادة وجاءت بنسبة 35 بالمائة، يليها التوازن العاطفي والاعتماد على النفس بتكرار واحد بلغ 25 بالمائة، التقبل للآخرين بنسبة 10 بالمائة من إجمالي العينة، بينما كانت السمات السلبية للشخصية المعبرة عن تلك الفئة في النص المسرحي هي الاعتماد على الآخرين وظهرت بنسبة تقارب 27 بالمائة، يليها الانطواء والعزلة بنسبة 23 بالمائة ثم عدم تقبل الذات والاحتفاظ بمشاعر سلبية تجاه الآخرين بنسبة تقارب 17 بالمائة، وقد أوضحت النتائج أن أكثر أنواع الصراع الذي تواجهه الشخصيات المعبرة عن الإعاقات هو الصراع بين الشخصية والتهديدات الخارجية، حيث جاء في الترتيب الأول بنسبة تقارب 59 بالمائة ثم الصراع بين الشخصية وذاتها بنسبة تفوق 27 بالمائة، بينما لم يهتم الكتاب المسرحيون بطرح حلول لمشكلات ذوي الاحتياجات الخاصة، بقدر اهتمامهم بعرض القضايا فقط وذلك بنسبة كبيرة بلغت 90 بالمائة، فيما لم يمثل طرح الحلول سوى 10 بالمائة فقط.
ويمكن تقديم ملاحظتين حل هذه الدراسة: الأولى أن نتائجها تدعو فعلا إلى التأمل والتفكير، بالأخص في تغيير توظيف هذه التيمة، أو هذه الفئة، في الأعمال الدرامية، والثانية هي الأمل في أن تنجز جامعاتنا دراسات مشابهة، قد تمكننا من قراءة أفضل لهذا الموضوع في بلادنا.

توصيات.. للمستقبل

في الأخير، نختتم هذا المقال بالتوصيات التي اقترحها الباحث ميهوبي من جامعة ورقلة خلاصة لدراسته:
ـــ يشكل المسرح بلا منازع آلية تواصل عريقة وعميقة في الوقت نفسه له بالغ الأثر في إعادة تغيير النظرة السلبية الكلاسيكية، التي تقوم على الشفقة والرحمة لذوي الاحتياجات الخاصة، بل يتجاوزها لمرحلة الإدماج والتواصل معهم كأفراد عاديين في المجتمع.
ـــ ضرورة العمل على تدريب وإعداد أساتذة وإطارات مختصة في مجال مسرح ذوي الاحتياجات الخاصة، وذلك قصد رسم الطريق السليم والسوي لذوي الاحتياجات لإدماجهم في شتى المحافل المسرحية، وفسح المجال أمامهم لخوص غمار الأداء والتمثيل كغيرهم من “الأصحاء”.
ـــ تكوين فرق وجمعيات تهتم بمسرح المعاق على كافة ربوع الوطن، وتخصيص أماكن مميزة لهم، وظيفتها ربط المعاق بالمسرح وتعريفه به، وتكوينه ليتجاوز حدود إعاقته للإبداع والابتكار.
ـــ ضرورة إعداد قواميس، وكتب متخصصة عن مسرح ذوي الاحتياجات الخاصة، مع إنشاء فرق بحث أكاديمية في هذا المجال، قصد تسيير عملية التمثيل لذوي الاحتياجات الخاصة على اختلاف مواهبهم وتعدد إعاقاتهم.
ـــ العمل الدؤوب على محاكاة البلدان المتطورة في هذا المجال، من خلال استثمار الأفكار والقضايا المطروحة حديثا، ومحاولة تأهيل المعاق وفقها.
ـــ ضرورة نشر الوعي المجتمعي حول هذه الفئة والعمل الدؤوب على تغيير النظرة الكلاسيكية السلبية لهذه الفئة، قصد إزاحة كل العراقيل والصعوبات لإعادة دمجها وتأهيلها.
ـــ العمل على فتح مشاريع بحثية أكاديمية في هذا المجال، بغية رسم الطريق الصحيح للتكفل بذوي الاحتياجات الخاصة في المسرح، واشتراك المعاق في التمثيل والأداء.