طباعة هذه الصفحة

لا للاستدانة ولا للإقتصاد الرّيعي..البروفيسور فارس هباش لـ “الشعب”:

الرّئيس تبون يؤسّس اقتصاد السّيادة

فايزة بلعريبي

 الأسرة المنتجة والشركاء الاقتصاديين..رؤية جديدة لواقع وضع حدّ للبيروقراطية

الفلاحــة والصناعــة.. قطاعــان مفتاحيــان للانتقال إلى الاقتصاد المنتـــج

 الاستقـلال المالي..خيـار إستراتيجـي يستنـد إلى رؤيـة تنمويـة واضحـــة

عضويــة الجزائـر بالبنــوك الدوليـة..تنويـــع المحفظـة الماليـة

 الجزائر اليوم..قوّة اقتصادية بما تمتلك من أرصدة مالية بالبنوك العالمية، واحتياطات صرف وقدرات مالية مستقرة، إلى جانب مداخيل منتظمة تعزّز المداخيل السنوية للدولة، وترسم منحنى تصاعديا لمؤشرات الاقتصاد الكلي. وتمكّنت من تعزيز رصيدها من الشراكات العالمية، بعقود طويلة الأمد، منحتها موثوقية دولية، وثقلا اقتصاديا وماليا على مستوى الهيئات والمؤسسات المالية العالمية، فالجزائر من أقوى المساهمين بالمؤسسات الكبرى مثل البنك الإسلامي للتنمية، بنك التنمية الإفريقي وبنك “بريكس” الذي أعلن مؤخرا قبول عضويتها بمساهمة قدّرت بـ 1.5 مليار دولار. وهي المساهمات التي تترجم التوجه الإستراتيجي نحو تنويع المحفظة المالية والاستثمار خارج الحدود. الجزائر اليوم تحقّق مكاسب سياسة حكيمة تستقي من روح الثورة التحريرية المباركة، وتلتزم بمبادئها السامية.

 أكّد الخبير في الإستراتيجيات الحكومية والأستاذ بجامعة سطيف، البروفيسور فارس هباش، أنّ انتقال مؤشرات الاقتصاد الوطني، من الخانة الحمراء إلى الخضراء، وفق منحنى تصاعدي على مرأى الملاحظين والخبراء من الهيئات المالية العالمية، يدفع فعلا إلى التفاؤل، في ظل استراتيجية الإنعاش الاقتصادي التي دخلت منعرجا محوريا خاصة مع بداية العهدة الثانية للرئيس تبون، التي تميزت بالسرعة القصوى للأداء والنتائج الميدانية، بعد جملة الإصلاحات الاقتصادية التي باشرها رئيس الجمهورية منذ بداية عام 2020، وترجمت فعاليتها في التحسن الفارق على مستوى جميع القطاعات الاقتصادية التي استرجعت عافيتها، وتجاوزت بكثير مستوياتها قبل الجائحة، لتتحول الأرقام والمؤشرات الاقتصادية من اللون الأحمر إلى الأخضر.
ولعل أبرز هذه المؤشرات - يقول البروفيسور هباش - الناتج الداخلي الخام الذي أصبحت تركّز عليه الجزائر كثيرا باعتباره أهم مقياس دال على حجم اقتصاد البلاد من جهة، والمستوى المعيشي للمواطن من جهة أخرى، كما واصل الاقتصاد الوطني تحسنه في السنوات الخمس الأخيرة، وتخطى الناتج الداخلي الخام عتبة 200 مليار دولار في عام 2022، وهذا لأول مرة منذ 10 سنوات، حيث بلغ ما قيمته 195 مليار دولار عام 2021 ثم انتقل إلى 225 مليار دولار عام 2022، ووصل في سنة 2023 إلى 244 مليار دولار، و267 عام 2024، مع توقعات بوصوله إلى حجم 400 مليار دولار نهاية عام 2026.

تركيبـة اقتصاديـــة متنوّعـــة ونتائـــج لافتـــة

 وقال هباش إنّ الاقتصاد الوطني عرف حيوية بارزة وحركية سيحفظها التاريخ الذي كان على موعد مع تحولات اقتصادية كبرى، وإنماء نوعي، خاصة بعد تبني الجزائر، بتوجيهات من رئيس الجمهورية، لإطار مرجعي للنموذج الاقتصادي الجديد الذي رسم معالم مخطط الإنعاش الاقتصادي، بشكل يمنح الفرصة لجميع مكونات المجتمع، خاصة فئة النساء في إطار استراتيجية “الاقتصاد العائلي والأسرة المنتجة” والشركاء الاقتصاديين، للمشاركة في معركة الخلاص النهائي من الاقتصاد الريعي والتبعية للمحروقات..أهداف سامية حققتها الجزائر - يضيف هباش - بفضل سمو القانون وتكافؤ الفرص واعتماد التشاركية في رسم السياسات والاستدامة المالية وتقوية المؤسسات ورفع مستوى الأداء، حيث يقوم النموذج الاقتصادي الجديد خلال مساره التصحيحي على تنويع النمو واقتصاد المعرفة ووضع سياسات جديدة للتصنيع موجهة نحو المؤسسات الصغيرة والمصغرة والناشئة، أين يتم منح الأولوية في مجال التركيب الصناعي للمنتجات بما يضمن تحقيق أعلى نسبة إدماج محلي، وكل هذه – يؤكد هباش - معطيات تصب في خانة تنويع الاقتصاد الوطني، ورفع أدائه وإبراز دور المؤسسات المكونة له.
قطاعـات مفتاحيــة للنّهضــة الاقتصاديــــة
 وعن آلية التحرر الاقتصادي الذي تسعى إليه الجزائر، قال البروفيسور هباش إنّ ثمة قطاعات اقتصادية ذات إمكانات كبيرة ونمو مطّرد، أبرزها قطاع الطاقة الذي يمثل رافعة قطاعية لبقية النشاطات الاقتصادية، خاصة مع استمرار شركة سوناطراك في تحقيق الريادة عالميا من حيث عدد الاكتشافات النفطية والغازية، ما يجعل القطاع مساهما رئيسيا في رفع الناتج الداخلي الخام. بالإضافة إلى هذا الأخير - يقول محدثنا - فإن قطاع الصناعة يمثل سوق مستقبلية كبيرة بالنظر إلى الفرص التي يقدمها للمستثمرين، بدليل تسجيل الوكالة الوطنية لترقية الاستثمار 13700 مشروع استثماري بين الفترة الممتدة من ديسمبر 2022 ونهاية مارس 2025، حسب البيانات التي قدمتها الوكالة، موزعة على العديد من الفروع الصناعية بمختلف أنواعها. وبالنظر إلى إمكانات النمو الكبيرة التي يمتلكها القطاع الفتي المتعلق بالشركات الناشئة واقتصاد المعرفة، وإلى التحفيزات التي تقدمها الدولة الجزائرية، وطموح ورغبة السواعد الجزائرية في الارتقاء باقتصاد البلاد، فإنه يجب التعويل عليه ليصبح مساهما بنسب محددة في الناتج الداخلي الخام.

قرارات سيادية وصلابة اقتصادية

 واعتبر البروفيسور هباش، أنّ ارتفاع نسبة مساهمة القطاعات الإستراتيجية في الناتج المحلي الإجمالي خلال سنتي 2023، 2024، مؤشر إيجابي عن مستوى تنوع الاقتصاد الوطني ومدى ديمومته وصلابته ومقاومته للهزات الاقتصادية العالمية، حيث كان ولعقود طويلة قطاع الطاقة الدرع الواقي للاقتصاد الوطني، إلا أن اهتمام الجزائر، بتعليمات صارمة من طرف رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، بتطوير جميع القطاعات المنتجة والخدماتية، دون إقصاء لأي منها، جعل العديد من القطاعات تعود إلى الواجهة على غرار قطاعي الصناعة والفلاحة، اللذين انخرطا إلى المنظومة الدفاعية الاقتصادية للبلاد، حيث يعود هذا التحول النوعي في مستوى الأداء، إلى الإرادة السياسية الحقيقية التي تترجمها جملة الإجراءات الميدانية التي اتخذها السلطات العمومية، من أجل إعطاء دفع قوي للقطاع الفلاحي الذي تعول عليه الجزائر لكسب رهان الاكتفاء الذاتي وتحقيق الأمن الغذائي.
وأشار هباش إلى الارتفاع النسبي، في نسبة مساهمة قطاعي الصناعة والفلاحة، خلال السنوات الثلاثة الأخيرة، حيث بلغت نسبة مساهمة هذا الأخير 13 بالمائة في الناتج المحلي الخام، بقيمة اقتصادية تعادل 35 مليار دولار، وهي نسبة - يؤكّد محدثنا - تؤشّر على مدى نجاعة السياسات المعتمدة والإصلاحات التي أقرتها الجزائر منذ تولي الرئيس تبون سدة الحكم، ليمهد السبل من أجل تطوير الاستثمارات الفلاحية التي نجحت في تغطية 75 بالمائة  من الحاجيات الغذائية للبلاد.
ولقد تجسّد الاكتفاء المحلي - يقول البروفيسور هباش - في اتخاذ رئيس الجمهورية، لقرار سيادي وتاريخي بعدم استيراد القمح الصلب ابتداءً من 2025، والتوقف نهائيا عن استيراد الشعير العام المقبل، مع تسطير استراتيجية لإنتاج الحبوب على مساحة تقدّر بـ 3 ملايين هكتار.
من جهة أخرى، بلغت نسبة مساهمة قطاع الفلاحة في خلق مناصب الشغل 7 بالمائة، ما يعادل حوالي 2.6 مليون منصب شغل، وهي نسبة مرشحة للارتفاع بعد الشراكات النوعية التي أبرمتها الجزائر مع كبريات الشركات العالمية الرائدة في مجال التكنولوجيا الزراعية، مثل شركة “بلدنا” التي استثمرت ببلادنا عبر مشروع استراتيجي من ثلاث محاور، لإنتاج الحليب المجفف وإنتاج اللحوم الحمراء وزراعة الأعلاف على مساحة 117 ألف هكتار وقيمة استثمارية بلغت 3.5 مليار دولار، وإنتاج البقوليات مع الشريك الإيطالي.

مساهمة بالبنوك العالمية وصوت صانع للقرار

 ولا يمكن أن يكتمل الحديث عن الاقتصاد ومؤشراته واستراتيجياته، دون التطرق إلى أهم روافده وهو التمويل. في هذا الصدد، أوضح البروفيسور هباش أن الجزائر رسخت في السنوات الأخيرة، توجها ماليا مغايرا ضمن محيطها الإقليمي والدولي من خلال توسيع مساهماتها داخل أبرز البنوك التنموية، دون أن تلجأ إلى الاستدانة منها. فقد عزّزت حضورها ببنك التنمية الإفريقي عبر مساهمات إضافية، ووقّعت اتفاقيات تعاون واسعة مع البنك الإسلامي للتنمية تمتد بين 2025 و2027. كما أعلنت رئيسة بنك التنمية الجديد، منذ أسبوعين، عن انضمام الجزائر رسميا إلى “بنك مجموعة بريكس” بمساهمة مالية تقدر بـ 1.5 مليار دولار. ووافقت الجزائر خلال عام 2024 على زيادة اكتتابها في بنك التنمية الإفريقي بأكثر من 36 ألف سهم لتصنف ضمن أبرز المساهمين الإقليميين بالبنك.
وفي فيفري 2025، رفعت الجزائر حصتها في رأسمال البنك الإفريقي للاستيراد والتصدير “أفريكسيم بنك” من خلال الاكتتاب بـ 2285 سهما إضافيا. وخلال اختتام أشغال الاجتماعات السنوية للبنك الإسلامي للتنمية المتعددة الأطراف بالجزائر العاصمة، منذ أسبوع أو يزيد، أكد رئيس المجموعة المالية محمد سليمان الجاسر أن إطار التعاون الموقع بين البنك والجزائر يتضمن خدمات تمويلية وتأمينية لصالح بلادنا بقيمة تصل 3 مليارات دولار خلال الفترة بين 2025 و2027، نافيا أن يكون ذلك بمثابة قرض أو استدانة خارجية.
ورغم الشراكات الواسعة - شدّد هباش - فإنّ الجزائر لا تلجأ إلى الاستدانة، لا من هذه المؤسسات ولا من غيرها، وهو ما أصبح بمثابة عقيدة راسخة في سياستها الاقتصادية، حيث يؤكد رئيس الجمهورية، في كل مناسبة واجتماع ولقاء، رفضه القاطع للاستدانة الخارجية التي يعتبرها تهديدا للسيادة الوطنية واستقلالية القرار الوطني.

إنّ توسع الجزائر في المساهمة بالبنوك التنموية الكبرى - يقول هباش - لا يعد مجرد خيار اقتصادي، بل يمثل استراتيجية سيادية شاملة، فالجزائر لم تعد تكتفي بدور المتلقي، بل تسعى إلى ترسيخ موقعها بوصفها مساهما فعالا يمتلك صوتا في توجيه التمويل وصنع القرار.
وأشار هباش إلى أنّ انخراط الجزائر في هذه المؤسسات يمكنها من التأثير على أولويات المشاريع وسياسات التمويل، بما يتماشى مع مصالحها الوطنية، مضيفا أنّ هذا التموقع يفتح أمام الجزائر آفاقا لتعزيز شراكات إستراتيجية مع دول الجنوب، والترويج لمشاريع تنموية كبرى في مجالات المياه والطاقة والنقل، ما ينعكس إيجابا على الاستقرار والتنمية الإقليمية، ويمهد لدور جزائري أكثر حضورا وتأثيرا في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.

حضور إقليمي فاعل وفعّال

 وفق فارس هباش، فإنّ الجزائر تراهن على هذه المنصات البنكية لتكريس موقعها كقوة فاعلة في الجنوب، فمن خلال مشاركتها في الحوارات التنموية، تسعى إلى توجيه التمويل نحو مناطق تتقاطع معها مصالحها السياسية والاقتصادية، والدفع نحو تشكيل نظام مالي عالمي أكثر توازنا وعدالة.
ولقد أوضح البروفيسور هباش أنّ الجزائر ستحقّق من هذه المساهمات عائدات مالية واستثمارية من خلال المساهمة في مشاريع تنموية واقتصادية مربحة، وتوقع أن تواصل الجزائر تعزيز استثماراتها في هذه المؤسسات لمواكبة تطورات الاقتصاد العالمي، والتركيز على تمويل مشاريع مستدامة تندرج ضمن أهداف التنمية المستدامة آفاق 2030، مشيرا إلى أنّ عضوية الجزائر في البنوك التنموية الدولية تمثل “أداة من أدوات الدبلوماسية الاقتصادية”، ولا تعني بالضرورة رغبتها في الاقتراض، بل تعد خطوة لتوسيع خياراتها الإستراتيجية مع الحفاظ على سيادتها المالية، حيث أنّ امتناع الجزائر عن الاقتراض من هذه المؤسّسات يعود إلى توفر بدائل تمويلية تجعلها في موقف مريح، وعلى رأسها احتياطي الصرف الذي تجاوز 70 مليار دولار، إلى جانب احتياطات الذهب التي تتخطى 80 مليار دولار، وهي احتياطات مريحة تغني عن اللجوء لخيارات غير الاستثمار، بالإضافة إلى أنّ الجزائر حقّقت معدّلات نمو مهمة في السنوات الأخيرة، حيث بلغ معدل النمو لسنة 2024، 4.2 بالمائة.
وختم هباش بالقول إنّ “الاستقلال المالي ليس شعارا سياسيا بل خيار إستراتيجي نابع من دروس الماضي، ويستند إلى رؤية تنموية قائمة على تعبئة الإمكانات الوطنية وتجنب أي تبعية خارجية”.