طباعة هذه الصفحة

من شكاك السّفسطائيين إلى الارتيابية الجديدة..

“الشـك”.. أداة بنـــاءٍ وعِلـــم أمْ حجّــة عَـــدَاءٍ وهــدم؟!

أسامة إفراح

يسلط د.محمد جديدي الضوء على “عودة الشك” خاصة منذ جائحة كوفيد19. ويثير أستاذ الفلسفة بجامعة قسنطينة نقطة قد نتجاهلها، وإن كنا نعيشها يوميا، وهي تأثير الشك على المستوى الجزئي، أي الفرد وسلوكه وعلاقاته وطموحاته، وعلى المستوى الكلي، أي صيرورة الأمم وعلاقات الدول ببعضها، والتي قد تصل حدّ النزاعات والحروب. كما يشير جديدي إلى الدور الذي يلعبه الإعلام، والمثقف، في بيئة “الشك” هذه.
يرى الدكتور محمد جديدي، أستاذ الفلسفة بجامعة قسنطينة، أن اليقينيات والدوغمائيات تراجعت منذ جائحة كوفيد19، فاسحة المجال أمام عودة الشك، وباتت المخاوف التي ينام ويستيقظ عليها الإنسان حجة لكل أفكاره وسلوكاته.
عودة الشك
وعودة الشك بالنسبة لجديدي هي “فقدان الأمل والنزوع العبثي في تفسير الحياة، وفي غد مشرق ظن الإنسان بسذاجة وبإفراط أنه قادم، فتعلق به حد الوهن والوهم كما يتعلق الغريق بقشة، بيد أنه استفاق على وقع الحروب والأوبئة والأزمات تحاصره من كل جانب”. صحيح أن الشك يتوارى ويتلاشى، لكنه يعاود الظهور وكأنه طبيعة في الإنسان (فهل الشك من طبيعة الإنسان وجبلته؟) حتى وإن دفعته إليه ظروف الارتباك واللااستقرار والخطأ والوباء والفوضى.
وللشك تاريخ طويل في الفلسفة، ممتد منذ السفسطائيين إلى الشكاك الجدد وعلى رأسهم الفيلسوف الأمريكي ستانلي كافيل Stanley Cavell، مرورا بالشكاك اليونان والرومان والغزالي وديكارت ومونتاني وهيوم، وآخرين يعج بهم تاريخ الفكر البشري. “ليس المقام هنا للحديث عنهم وعن مناقبهم”، يقول جديدي، “إنما سؤال الشك حينما يتسرب ويتغلغل إلى علاقاتنا وواقعنا هنا يغدو جانبه السلوكي واضحا. ولئن كان الشك في أساسه معرفيا (إبستمولوجياً) فإن استتباعاته ليست فقط معرفية واعتقادية بل إن لها أبعادا أخرى اجتماعية وأخلاقية بالتحديد”.
لعبة الظلام والنور
ويرى جديدي أن هناك بين الشك والاعتقاد لعبة الحضور والغياب، لعبة الظلام والنور، إذا غاب أحدهما وانتفى حل محله الآخر. في الاعتقاد هناك يقين وثقة تترتب على هذا الموقف الإبستيمي يكون فيها المرء أقرب إلى الوقوف على أرض ثابتة صلبة، أما إذا انعدمت هذه الثقة سيكون الشعور بأقدام على أرض رخوة رملية، على حد تعبير ديكارت، لا ثقة معها. كذلك هو الشك والارتياب الذي يكون فيه الإنسان مترددا غير قادر على اتخاذ قرار أو حكم، وهو إلى موقف المرتقب والمنتظر، فاقد للقدرة على تحديد رأي بل إنه عاجز عن البت في قضية أو فكرة أو معلومة أو حتى في بناء صلة مع إنسان آخر.
تتأسس علاقاتنا البشرية في أغلبها على أخلاق الثقة (Confiance) حتى تستقيم وتتواصل باستمرار غير أن الشك باعتباره (Méfiance) هو أيضا مسلك أخلاقي، ينتعش إذا انتفت العلامات الدالة على الثقة لتترك مكانها لمؤشرات يتخذ منها الفرد أمارات محفزة على الشك وبالتالي يضع الثقة على المحك فتغدو كل صور ولحظات أي علاقة عرضة للمراجعة (La remise en cause).
في ظل أزمة كورورنا، ارتفعت وتيرة الشك وعادت بقوة، ذلك أن الخطر المتربص بكل واحد منا يحثنا على أخذ الحيطة والحذر حتى من أقرب الناس إلينا، وعليه فقدت الثقة وأصبح كل ذي ثقة مغامرا ومخاطرا بحياته. ودائما في ظل الأزمة الصحية الاستثنائية، تولدت لدى معظم الناس أزمة ثقة (التي غالبا ما تكون سياسية بين الحاكم والمحكوم) ما تزال بعض آثارها ماثلة إلى اليوم.
الشك المفيد..
يصبح الشك مفيدا، يقول جديدي، عندما يتجاوز الإنسان الثقة المفرطة، والتي غالبا ما يقف على نتائجها السلبية بعد فوات الآوان، ويسير بمقتضاه كسلوك شبه دائم يتصرف على منواله دوما حتى وإن وجد فيه تعذرا واستحالة، بيد أن مآلاته تبدو أقل ضررا من الثقة الزائدة، والندم معه ضئيل.       
«ما من شك في أن للشك فوائد لخصها أبو حامد: “من لم يشك لم ينظر...” إلى آخر مقولته، والتي لا تبقى في حدود المعرفة والنظر، بل تتعداها إلى السلوك والعلاقات والصداقات وجميع مناحي الحياة”، يقول جديدي، مضيفا: “إذا كان الشك في جزئيته مفيدا للعلوم وتقدمها ولتطور المعارف والتقنيات، فإنه يبدو في كليته مدمرا للحياة ومعناها”.
من الشك.. إلى الحرب
سألنا الدكتور جديدي عمّا تعرفه العلاقات الدولية من حالة شك وتوجس. ومن المتعارف عليه أن أصل الأزمات، سياسية كانت أو اقتصادية أو حتى أمنية، هو بيئة الشك واللايقين، فهل يمكن لهذا الأخير أن يفسر ما يعيشه النظام الدولي اليوم؟ وهل هو حالة نفسية عابرة، أم أنه أساس النظام الدولي كما حاجج هوبز وأمثاله فيما سبق؟
وأجابنا د.جديدي بأن الشك تكثر معانيه، ومنها خاصة التردد بين طرفين وتعليق الحكم والاستعداد الدائم والتوقع وعدم الترجيح، بحيث تتكافأ معه الرهانات، وتصبح مفتوحة على كل الاحتمالات. في هذا المعنى الأخير يمثل الشك موقفا واستراتيجية، يتأهب معها الفرد كما الدولة على سيناريوهات عدة، يكون فيها التأهب الدائم لكل طارئ وفجائي تصورا وسلوكا، مصدره الشك وعدم الركون إلى المألوف والمعتاد، كما يحدث في تمارين معينة يقوم بها رجال الحماية أو الأمن استعدادا لطوارئ أو حوادث محتملة كالزلازل أو العمليات الإجرامية، وما إلى ذلك.
إذن، فالشك موقف يقره الفرد وتتبناه الدولة في عملها، وليس وليد بيئة ما، وإن كانت البيئة، لا سيما المتسمة بالفوضى والغموض والتدهور، تضاعف من حدته، وبالتالي فهو يخلق بيئة من الالتباس والارتياب يكون من نتائجها الوخيمة مظاهرها السياسية، أي فقدان الثقة بين الحكام والمحكومين على المستوى الداخلي؛ فيحدث بذلك توترا وعدم استقرار، تماما كما يمكن أن يكون على المستوى الخارجي أي في علاقات الدول ببعضها، إذ تحتاج هذه العلاقات إلى قدر من الثقة المتبادلة، لكن في حالة ضعفها أو فقدانها تتأثر العلاقات الدولية بشكل سلبي. وقد تفضي حالات كهذه إلى النزاعات والحروب، عندما يطغى الشك والتشكيك ويصبح هو العملة السائدة لدى كل طرف.
الإعلام.. وتجارة الشك
طرحنا سؤالا آخرا على الدكتور جديدي: في خضم حالة الشك السائدة، قد يلعب الإعلام دورا معاكسا لرسالته الأصلية، حيث نجد منابر عديدة قد تحوّلت إلى أدوات بروباغندا، ومنصات لنشر الأخبار الكاذبة، ونفس الشيء بالنسبة لوسائل التواصل الاجتماعي وما اصطلح على تسميته بالإعلام الجديد. فكيف التعامل مع هذه الظاهرة؟
وفي جوابه على هذا السؤال، اعتبر جديدي أن الإعلام، بوصفه سلطة موجهة (بفتح “جيم” موجهة وكسرها) يلعب دورا كبيرا في إشاعة مناخ الشك والريبة، بحيث يعمل على إرباك الوضع الداخلي أو الخارجي بغية تحقيق مآرب مادية، ذلك أن أجواء التوترات والشكوك تجد لها صناعها وتجارها من الإعلاميين المتحالفين مع رجال المال والانتهازيين والساسة من أجل مصالحهم.
فغالبا ما يتخذ الإعلام بأنواعه المختلفة قنوات يسخرها لأهدافه غير المعلنة، والتي يسعى لتحقيقها عبر مسلكه في إذاعة أخبار مغلوطة أو تقديم صور مفبركة ومعطيات خاطئة، الغرض من ورائها التشكيك فيما هو متداول عبر جهاز الدولة كالقنوات الرسمية مثلا، وبثّ، عوضا عنه، أخبار أخرى تكون بديلا. في هذه الحالة يكون الشك وسيلة وليس غاية، خلافا لما يكون موقفا وجوديا عبثيا وإبستمولوجيا نافيا لكل معرفة، وليس كل شك كذلك، ومن الشك أنواع.
المثقف.. مرّة أخرى
«ما هو دور المثقف في كل هذا؟” السؤال الذي يفرض نفسه، في كل موقف، والذي وجهناه للدكتور جديدي، فأجاب بأن “الشك أيضا غير منفصل عن النقد، وكثيرا ما كان مصدرا لتصحيح رؤى وبرامج أعدت دون تمحيص وتدبر. فالمفكر الذي يهادن واقعه وتاريخه ولا يسائل ما يقرأ ويسمع من زاوية شكّية، سيدفع بمجتمعه إلى الركود والامتثالية والخنوع، بينما من يكون ديدنه الشك ستنفتح عيناه على المختلف والمتعدد والمغاير، أي على الحقيقة المتنوعة”.
وذكّر جديدي بأنه، في تاريخ الأفكار، أمكن لشك المثقفين والعلماء أن يكون مثمرا ومفيدا للبشر، وغالبا ما كانت الاكتشافات العلمية، خاصة في مجال العلوم التجريبية والطبية منها بشكل أخص، ثمرة لمنهج الشك تبناه الباحثون ولولاه ما برزت النظريات والأفكار الجديدة.
أما بشأن دور المثقف إزاء وضعية اجتماعية أو سياسية أو غيرها تتسم بالشكوك، فإن دوره، حسب جديدي، يتمحور في موقفين: موقف أول يرى أن من واجبه التصدي لكل ما من شأنه أن يغرق في الشكوك، فيكون في خط الواجهة الطليعية المدافعة عن المجتمع ضد كل ما شأنه أن يفضي إلى اللااستقرار والفوضى. بينما يرى فريق آخر أن المثقف عليه يقع قول الحقيقة مهما كانت، وحتى وإن كان مصدرها الشك. “وشخصيا أراه صاحب ذهن وقاد يقظ شاك إلى كل ما من شأنه التمييز بين المعطيات والمواقف والتي لن تتحقق له إلا بالشك”، يخلص جديدي.