طباعة هذه الصفحة

الجنوب الغربي الجزائري على موعد مع طفرة تنموية غير مسبوقة

سكــة حديدية بمواصفات عالمية.. وفتح مبـين في الأفـق

علي عويش

بين الرؤية الاقتصادية الجديدة والإرادة القوية في تنمية المنطقة، أعلنت الوكالة الوطنية للدراسات ومتابعة الاستثمارات في السكك الحديدية «أنسريف» خلال لقاء حمل العديد من الرسائل والتوجيهات، عن مخطط شبه نهائي لمسار السكة الحديدية التي ستربط منجم غار الجبيلات بولاية بشار، مروراً بولايتي تندوف وبني عباس، وهو المشروع الواعد الذي سيشكّل طفرة تنموية بكل المعايير، بحكم أنه وليد التحولات الاقتصادية التي تشهدها البلاد.. وهو المشروع الذي سيُسهم بشكل كبير في تقليص فاتورة استيراد الحديد الصلب وتقليل الاعتماد على المحروقات، من خلال تبني الجزائر لعقيدة تنموية جديدة يرافقها إنشاء بنية تحتية موثوقة لتعزيز حضورها الإقليمي والدولي في الساحة الاقتصادية.

أطلقت الجزائر مجموعة من المشاريع الهامة في مجالات متعددة بهدف تقليل الاعتماد على المحروقات، خاصة تلك المشاريع المنجمية التي أريد لها الاسهام بشكل كبير في مداخيل الخزينة العمومية وخلق بيئة ملائمة للاستثمار العمومي والخاص.
في الجنوب الغربي للوطن، فُتحت أبواب الإقلاع الاقتصادي على مصراعيه منذ فترة، فاستفاقة العملاق النائم بـ»غار جبيلات» أمام أعين الطامعين والطامحين، قابله مشروع حيوي سيغدق المال على الخزينة العمومية، ويبعث نَفَسا جديدا في المنطقة من خلال ربطها بـ»قطار الحياة» الذي سينقل خامات الحديد ويغدو محمّلاً بالتنمية.
وعن الخطوط العريضة للرؤية الجديدة، ملامحها وأهدافها، قال بوناقة محجوب رئيس المجلس الشعبي الولائي، إن مشاريع الربط بمختلف وسائل النقل تكتسي أهمية بالغة، خاصة على ولاية تندوف التي تربطها طريق واحدة بباقي ولايات الوطن، هي الطريق الوطني رقم 50، كون الشروع في انجاز خط للسكة الحديدية بين تندوف وبشار، سيساهم بشكل كبير في تقريب الولاية من مصادر التموين، وسيفتح لها آفاقاً واسعة وكبيرة للتطور والازدهار وبعث روح التنمية.
وأشار المتحدث الى أن المنطقة برمّتها مُقبلة على كثير من التّحولات الاقتصادية والاجتماعية، مذكّرا بقيمة المشروع الحيوي في فك العزلة عنها، وتحريك مياه التنمية الراكدة، وخلق فضاء أوسع ومناخ أرحب للاستثمار، قائلا: «إن مشروع السكة الحديدية الذي سيربط منجم غار الجبيلات بولاية بشار، يكتسي أهمية بالغة ووازنة محليا ودوليا؛ لأنه سيكون بمثابة شريان حياة الولاية وقلبها النابض، باعتبارها ولاية حدودية، وهو مشروع نعوّل عليه كثيرا في الرفع من وتيرة التنمية بالمنطقة، وجعلها منطقة مستقطبة للاستثمار ولحركة الأموال وللإمكانات البشرية المؤهلة لتجسيد الإقلاع الاقتصادي على أرض الواقع».

قاب قوسين أو أدنى من التغيير
يأتي مشروع السكة الحديدية التي ستربط منجم غار الجبيلات بولاية بشار كحلقة أخرى من حلقات الإقلاع الاقتصادي التي أقرّها وسعى الى تجسيدها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، تضاف الى العديد من المشاريع الإستراتيجية التي تهدف الى تنمية المناطق الحدودية وإخراجها من النفق المظلم الذي فرضته عليها الجغرافيا، الى نور التنمية، عبر إقرار جملة من المشاريع التي تعدُّ «مكملات تنموية» تندرج في إطار التكفل الأحسن بمناطق الظل، وجعلها رقما مهما في معادلة النهوض بالاقتصاد الوطني.
أشارت الأستاذة المحاضرة بكلية العلوم الاقتصادية والتجارية وعلوم التسيير بجامعة بشار، الدكتورة عبد الجبار سهيلة، إلى أن خط السكة الحديدية الرابط بين منجم غار الجبيلات ووهران على مسافة 1650 كلم، يعدُّ «مشروعا استراتيجيا»، ويندرج في إطار تعزيز الشبكة الوطنية اللوجيستية من خلال إعطائها طابعا قاريا، بالموازاة مع برمجة خطوط أخرى بين الشمال والجنوب.
وأضافت الأستاذة سهيلة أن مشروع السكة الحديدية المزمع الانطلاق في إنجازه قريبا، من شأنه التأثير على نمط وإستراتيجية التنمية الاقتصادية المحلية والوطنية التي تعتزم الدولة تحقيقها، خاصة ما تعلق بعملية التوطين الصناعي من حيث القرب من مراكز الإنتاج ومنافذ التسويق، وتسهيل وصول خامات حديد منجم غار الجبيلات إلى الأقطاب الصناعية والتجارية في كل من وهران ومستغانم، وتحويل جزء منه إلى حديد صلب، بغرض الحصول على نسيج صناعي وطني ذو غايات وطنية واضحة ومحددة مسبقاً.
وعرّجت الدكتورة سهيلة للحديث عن مزايا مشروع سكة حديد غار الجبيلات – بشار، والذي اعتبرته «دعامة قوية» للوحدات الاقتصادية والسياسية للدولة عن طريق القضاء على عامل البعد الجغرافي بين الوحدات الصناعية في البلاد، مشيرة الى أن مشروع «قطار الحياة» سيعمل على تسهيل وصول أدوات التنمية إلى أبعد الأماكن، خاصة تلك المناطق الحدودية المتاخمة لمسار القطار، كما سيعمل على تدعيم علاقات الترابط والتكامل الاقتصادي، سواء بين الصناعات المختلفة داخل القطاع الواحد، أو فيما بين القطاعات الاقتصادية المختلفة في البلاد، الى جانب توفير فرص عمل مؤهلة لتسيير المشروع.
وجدّدت الدكتورة عبد الجبار التأكيد على أن مشروع خط السكة الحديدية الذي سيربط منجم غار الجبيلات بولاية بشار الذي حُدّد مساره النهائي، سيعمل على «دعم مبدأ التخصص وتقسيم العمل على الصعيد الجغرافي»، وإدخال منطقة الجنوب الغربي للوطن في سلسلة الإنتاج الوطني، لتتحول بذلك ولايات تندوف، بني عباس وبشار إلى ولايات منتجة قادرة على تسويق منتجاتها المحلية، وجلب احتياجاتها من السلع والبضائع، وهي عوامل  - تضيف المتحدثة - تدخل في جوهر مساعي الدولة إلى التنويع الاقتصادي خارج قطاع المحروقات لضمان إقلاع اقتصادي قوي وناجع.         

مُكمّلات تنموية

مؤشرات قوية لإقلاع اقتصادي اتضحت معالمه الأولى، ووُضعت أولى قاطراته على مسارها الصحيح، فلضمان ديمومة نمو الاقتصاد الوطني وتنويعه، سيُشرع قريبا في إنجاز الطريق التي ستربط تندوف بالزويرات الموريتانية على مسافة 775 كلم، وهو مشروع آخر سيجعل من ولاية تندوف قطبا استراتيجيا للتبادل التجاري مع دول غرب إفريقيا.
وتشير الإحصائيات الرسمية الى تسجيل منحى تصاعديا في عمليات التصدير التي تمت عبر المعبر الحدودي البري مصطفى بن بولعيد، الرابط بين الجزائر وموريتانيا، وقد شملت المواد المصدّرة منتجات زراعية، صناعية وغيرها بقيمة مالية بلغت 9.5 مليون أورو.
وكشّفت الأرقام المعلن عنها عن وجود انتعاش ملحوظ في المبادلات التجارية بين الجزائر وموريتانيا خلال سنة 2022، مسجلةً بذلك رقما قياسيا في حجم وقيمة السلع المصدّرة منذ افتتاحه، حيث بلغت عمليات التصدير التي تمت خلال السنة الماضية ما مجموعه 721 عملية، بقيمة مالية ناهزت 9.5 مليون أورو مقارنة بـ 440 عملية تصدير مكنت من تصدير أزيد من 14 ألف طن من السلع الجزائرية بلغت قيمتها المالية 7.5 مليون أورو سنة 2021.
تتوقع الدكتورة سهيلة ارتفاع كبير في حجم الصادرات الجزائرية إلى دول غرب إفريقيا بعد دخول قطار بشار تندوف حيز الخدمة، مشيرة الى أن خط السكة الحديدية سيكون قيمة مضافة ومكسب هام بالنسبة للمتعاملين الاقتصاديين، وسيمكنهم من نقل السلع والبضائع المراد تصديرها إلى ولاية تندوف ومن ثمّة إلى المعبر الحدودي، فضلاً عن تنويع المنتجات المتوجهة نحو التصدير عبر خط السكة الحديدية الذي سيضمن للمتعاملين الاقتصاديين الأمان والحماية ونقص التكلفة.
في معرض حديثها لـ»الشعب» أكدت الدكتورة عبد الجبار سهيلة أن منطقة الجنوب الغربي للبلاد على أعتاب نهضة تنموية حقيقية، فـ»توسيع البنى التحتية للنقل من خلال خط السكة الحديدية، سيؤدي الى ظهور تجمعات سكنية جديدة على طول مسار القطار، وسيسهم في إحداث تهيئة عمرانية حديثة، وهو ما سيؤدي بدوره الى تنمية النشاطات وجلب الاستثمارات وإنشاء مواقع اقتصادية جديدة في المنطقة، وبالتالي، فإن مشروع خط السكة الحديدية الرابط بين بشار وغار الجبيلات، سيكون قيمة مضافة في التنمية الاقتصادية وحتى الاجتماعية بالمنطقة».
بالموازاة مع إنجاز الطريق الرابطة بين تندوف والزويرات، واستحداث خط السكة الحديدية بين تندوف وبشار، دعت الدكتورة سهيلة الى ضرورة التفكير في استحداث خط جوي دولي بإحدى مطارات الجنوب الغربي، والذي من شأنه تعزيز قدرات وتطوير وزيادة الطاقة الاستيعابية بالمطارات لاستقطاب حركة العبور في المنطقة، تسهيل حركة السلع وزيادة حجم المبادلات التجارية، خلق ديناميكية اقتصادية، امتصاص البطالة وخلق مناطق لوجستية، ناهيك عن التنمية السياحية وغيرها، مشيرة الى أن الاستثمار في البنى التحتية للنقل يحفّز النمو الاقتصادي الإجمالي على المستوى الوطني، ويؤدي إلى تحقيق التنمية الاقتصادية في المناطق التي تستفيد من هذه البنى التحتية.

نهاية النفق

إن الشروع الفعلي في استغلال منجم الحديد بمنطقة غار الجبيلات، وتجسيد استراتيجية صناعية شاملة تأخذ بعين الاعتبار كافة مؤشرات وإمكانات المشروع من الناحية الصناعية، من شأنه تحقيق تنمية وطنية شاملة تلقي بظلالها على منطقة الجنوب الغربي، وتمتد آثارها التنموية إلى كافة ربوع الوطن.
من المتوقع أن يوفر المشروع كمرحلة أولى حوالي 03 آلاف منصب عمل ميداني، و1.000 منصب عمل آخر على مستوى الميناء والمهن الحرفية الأخرى ذات الصلة بالمشروع، على أن يتم توفير فرص عمل مستقبلا بعد الشروع في الاستغلال الفعلي للمنجم قد تصل إلى 15 آلف منصب عمل من مجموع 20 ألف منصب عمل متوقع، وسيساهم إلى حد كبير في القضاء على البطالة وخلق ديناميكية للتشغيل بالمنطقة، والأكثر من ذلك، سيساهم في توفير مناصب شغل سواء مباشرة أو غير مباشرة لسكان ولايات الجنوب الغربي.
احتياط المنجم من الحديد والمقدر بـ3.5 مليار طن، سيعزز من قدرة البلاد في استغلال مؤهلاتها الطبيعية وتوظيفها للنهوض بالصناعات الثقيلة، وبالتالي، ضمان العبور الآمن الى مصاف الدول المصدرة للمواد المحوّلة، بتكنولوجيات أكثر نجاعة وبقيمة مضافة أقوى.
استغلال منجم غار الجبيلات للحديد هو قليلٌ من كثير، فالبلاد مقبلة على إقلاع اقتصادي قوي يؤسس لمرحلة مقبلة عنوانها العريض اقتصادٌ قويّ بعيد عن الريع البترولي.
ملامح التحول الاقتصادي تبرز جلياً للعيان من خلال وضع اللبنات الأولى لـ»قطار الحياة» الذي سينقل خامات الحديد من منجم غار الجبيلات إلى مراكز التصنيع والتصدير بولايات الشمال على مسافة تفوق 1.600 كلم.
يعد تطوير قطاع المناجم خيارا استراتيجيا، لما تزخر به بلادنا من ثروات طبيعية وموارد معدنية جد معتبرة، وذلك في إطار تثمين هذه الموارد والبحث المستمر عن القيمة المضافة وتوفير المواد الأولية لضمان سيرورة الصناعة المحلية وتقليص فاتورة الاستيراد.
دخول منجم غار الجبيلات كثالث احتياطي عالمي من مادة الحديد مرحلة جديدة من الاستغلال الحقيقي بعد مرور 50 سنة منذ اكتشافه، سيتعزز وجوده أكثر في قاطرة التنمية الوطنية من خلال مشروع قطار غار الجبيلات – بشار الذي سيربطه بمراكز التصنيع والتصدير.
ومن مسار «قطار الحياة»، نقرأ أن الجنوب الغربي للوطن، كمثل الوطن ككل، مقبل على تحولات اقتصادية وطفرة تنموية ستقلب معادلة التوازنات الاقتصادية في العالم، وستضع الجزائر في مصاف الكبار، وسيحدث هزّة تنموية تصل ارتداداتها الى دول الجوار.