في قرية فلسطينية عابقة بزيت الزيتون وصوت الأذان ودفء الأمهات، تُدعى كفر نعمة، وُلد محمد أحمد الديك يوم 7 جوان 1980، طفلًا بسيطًا وسط عائلة عرفت النضال قبل أن تعرف الاستقرار.
ترعرع محمد بين التلال، يطارد عصافير البرية، ويزرع في قلبه حب الأرض قبل أن يتعلم نطق حروفها. كان طفلاً عندما اندلعت الانتفاضة الأولى، لكنها تركت فيه بصمة لا تُنسى، ليس بسبب مشاهد الدبابات، بل بسبب مشاهد الوداع…وداع إخوته كلما اعتقلهم الاحتلال، ووداع الطفولة على عتبة بيت يقتحمه الجنود بلا رحمة.
في مطلع شبابه، حين اندلعت انتفاضة الأقصى، لم يقف محمد على الهامش. قرر أن يخط اسمه بين من لبّوا نداء الوطن. ومع رفاقه، كوّنوا مجموعة مقاومة، خرجوا ذات ليلة من ليالي جانفي عام 2004 إلى الطريق الفاصل بين كفر نعمة ورأس كركر، واشتبكوا مع قوات الاحتلال في عملية جريئة سقط خلالها ضابط من جنود الاحتلال وأُصيب ثلاثة آخرون. العملية لم تمر دون ثمن. اعتُقل محمد لاحقًا، وعُرض على المحاكم العسكرية التي حكمت عليه بالسجن المؤبد و25 عامًا إضافية.
السجن ليس فقط جدرانًا
في الأسر، عايش محمد كل أنواع القمع، من الزنازين الضيقة إلى الإضرابات الطويلة، ومن عتمة العزل إلى حرمان الزيارة. لكنه لم يستسلم. تعلّم، ناقش، شارك، وصمد. لم يكن يكتب الشعر، لكن حياته كانت قصيدة طويلة من التضحية. داخل السجن، التقى بـعلاء غنيم، ابن شقيقته، وصاحب الوجع المشترك. كثيرًا ما جمعتهما الزنازين، ثم تفرّقهما إدارة السجون. لكن الشوق ظلّ رابطًا، وحكايات الوطن كانت سلاحهما الأول لمواجهة العزلة.
المنفى…سجنٌ بلا قضبان
بعد 22 عامًا خلف القضبان، لم يُفرَج عن محمد إلى حضن والدته أو بيت طفولته في كفر نعمة. بل فُرِض عليه الإبعاد إلى مصر، ليكتمل وجعه في منفى قاسٍ، لا يُشبه الحرية، بل يُشبه نوعًا آخر من الأسر.
قال محمد ذات يوم: “الأبعاد مثل وردة بتخلعيها من الجبل وبتزرعيها في حوض بالبيت، مهما اعتنيتي فيها، ما رح تكون مثل ما كانت.” كلمات تختصر وجعه. فالغربة تُبعدك عن رائحة التراب، عن قبلة أم على جبينك، عن بابٍ كان يُفتح كل مساء ليحتضنك دون شروط.
اللقاء في المنفى…بعد عمر من الفُرقة
اليوم، محمد وعلاء يجتمعان أخيرًا في مصر. بعد أن فرّقتهم سجون الاحتلال، جمعهم المنفى من جديد. لكن ما أشبه اللقاء بالوجع، حين يكون الوطن غائبًا، والأمهات بعيدات، والصوت الوحيد الذي لا يغيب هو صوت الحنين. يتقاسم محمد وعلاء الشوق ذاته، يسكنان تحت سقف واحد، لكن في داخلهما وطنان يتصارعان: وطن غائب يشتاقان إليه، ومنفى حاضر لا يشبههما.
الأم…وطنٌ آخر
إن أكثر ما يُوجع محمد اليوم ليس السجن السابق، ولا المنفى الحاضر، بل ألم الغياب عن أمّه التي ما زالت على قيد الحياة، تحمل على كتفيها سنوات الانتظار، ولا تزال تفتح نوافذ البيت صباحًا علّ الهواء يحمل لها رائحة ابنها. ورغم قسوة المنفى، كانت لحظة استثنائية حين زارت أم محمد ابنها في مصر، بعد أن حُرمت من لمسه لعقود. احتضنته بعد 22 عامًا من الانتظار، ثم عادت إلى فلسطين، تاركة في قلب محمد دفئًا لا يشبه أي لقاء.
كتب محمد:
«الأبعادُ سجنٌ لا يُقفلُ بأغلال الحديد، لكنه يُحكمُ ببوابةِ الحنين، حيثُ تُقيدُ الروحُ بعذوبةِ الوداع، ويصبحُ البُعدُ عقابًا رقيقًا، يسكنُه الصمتُ والحُرقة.” كل لحظة تمرّ عليه في أرض الغربة، يكتبها محمد بدمعةٍ في القلب، وبحسرة لا صوت لها. يتذكّر أمّه وهي تُصلّي لأجله، ثم يخذله الاحتلال بالأبعاد، فيصبح اللقاء حلمًا آخر يُرحَّل. محمد أحمد الديك اليوم ليس فقط أسيرًا سابقًا، بل إنسانًا يعيش في المنفى بجسدٍ تحرر، لكن قلبه ما زال في كفر نعمة. بين الشوق والحنين، بين الأم والوطن، تظل قصته شاهدًا حيًا على وجع الأسر، وظلم الإبعاد، وقسوة الغربة.