طباعة هذه الصفحة

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

عصر الترجمة..دراسة في الأصول المعرفية بالعصر العباسي

 

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب عصر الترجمة: دراسة في الأصول المعرفية لحركة الترجمة في العصر العباسي، من تأليف عدنان خالد عبد الله، ويقع في 299 صفحة، متضمّنًا ملخصًا تنفيذيًا، ومقدمة نقدية، وتسعة فصول، وخاتمة، وملاحق، ومراجع، وفهرسًا عامًا.
يستعرض الكتاب حركة الترجمة الكبرى في العصر العباسي (800–1150م)، بوصفها ظاهرة معرفية واجتماعية شديدة التعقيد، شكّلت ملامح الفكر العربي والإسلامي طوال ثلاثة قرون. ففي بداياتها، ركّز العباسيون على ترجمة العلوم ذات الطابع النفعي، كالطب والهندسة، لكن سرعان ما انفتحوا على المعارف النظرية كالمنطق والفلسفة والتنجيم...إلخ، وهذا عكس انتقال الدولة من الحاجة العملية إلى التفاعل الحضاري الشامل. يبحث الكتاب في الدوافع العميقة التي غذّت هذه الحركة، والآثار البعيدة التي تركتها في بنية الفكر والدين والمجتمع.
الترجمة في العصر العباسي: فعل ثقافي لا لغوي
يتناول الكتاب جذور حركة الترجمة في العصر العباسي، وسياقاتها المعرفية والسياسية والدينية، من أجل إبراز الوجه الثقافي لحضارةٍ نهلت من الآخر ولم تذُب فيه، بل صاغته على صورتها وأدخلته في نسيجها الحيوي. ولئن بدت الترجمة فعلًا لغويًا محضًا في الظاهر، فإنها في الجوهر عملية مركّبة، يتقاطع فيها اللغوي مع الديني، والسياسي مع الفلسفي، والجمالي مع الاجتماعي، بحيث لا يعود المترجم ناقلًا بسيطًا، بل فاعلًا ثقافيًا يعيد إنتاج المعنى داخل سياق مختلف. وقد وعى المؤلّف هذا، فتعمّق في تفاصيل التجربة العباسية في الترجمة، مستقصيًا دوافعها، ومحاولًا فكّ شفرات التحول الذي طرأ على العقل العربي حين واجه المعارف الأجنبية، خصوصًا الفارسية واليونانية، وراح يهضمها، ثم يعيد تشكيلها بأسلوبه الخاص، حتى باتت جزءًا من مكوّنه الذاتي، لا ملحقًا به.
­من الشعوبية إلى محنة التفكير
يكشف الكتاب ملامح تجربة ثقافية ناضجة، كان للترجمة فيها دور محوري في نشوء العلوم وازدهارها، لكنها لم تكن معزولة عن الجدل الفكري والديني والسياسي، بل جاءت ضمن صراعات حامية، مثل الشعوبية، والزندقة التي راجت بدعوى الانفتاح على شرائع غير إسلامية، وصولًا إلى محنة خلق القرآن التي فجّرها المعتزلة بقيادة الخليفة المأمون، وجعلت من الدولة راعية لعقيدة فكرية لا تقبل المخالِف. وإذا كانت بعض هذه الصراعات عرَضية، فإنها في الحصيلة كانت نتيجة مباشرة لحركة الترجمة نفسها؛ لأنها طرحت على العقل العربي أسئلة جديدة، وفرضت عليه أن يتعامل مع معارف لم يألفها من قبل. وهكذا، لم تكن الترجمة مجرّد عملية نقل، بل صارت محفّزًا على الجدل، ومنطلقًا لإعادة بناء التصوّرات والأسس المعرفية.
خزائن الكتب وبيوت الحكمة وارتقاء العقل
كان من ثمار حركة الترجمة نشوء «خزائن الكتب» أو «بيوت الحكمة»، التي كانت في بداياتها مخازن تُحفظ فيها الكتب النادرة، لتتحوّل لاحقًا إلى مؤسسات معرفية تؤسّس لمفهوم المكتبة العامة ومراكز البحوث كما نعرفها اليوم. ولم تكن هذه البيوت مجرد مخازن للورق، بل محاضن للفكر، تستقطب المترجمين والعلماء، وتؤسّس لثقافة تُعلي شأن المعرفة. ويبدو أنها لم تبدأ مع العباسيين، فقد وُجدت إرهاصاتها منذ عهد الأمويين، لكنّ المأمون هو الذي منحها بُعدًا مؤسسيًا، وربطها بمشروع سياسي وفكري كبير؛ فقد كان شخصيةً مثيرة للجدل، جمعت بين شغف المعرفة وشراسة السلطة، وهو الذي أعطى وزن الكتاب المترجَم ذهبًا، واستبدل بفدية الأسرى مخطوطات يونانية، وجعل من الترجمة سلاحًا في صراعه مع الآخر ومع الداخل على حدٍّ سواء.

مفارقات الترجمة..من الصراع العقائدي إلى الابتكار المعرفي
يبيّن الكتاب أنّ الترجمة رافقت انتشارًا للمعارف الطبية التي تلقّاها الناس بلا حرج؛ إذ فُصل الطب عن العقيدة، وتُرجم من دون حساسية دينية، وهذا أتاح له الانتشار والعمل الحر. وهكذا أصبحت مدرسة جنديسابور نموذجًا حيًا لتلاقح الثقافات، وبرزت شخصيات تشبه الحارث بن كلدة، ولم تقتصر الترجمة على الطب، بل تعدّته إلى الفلسفة، حيث شهد العصر العباسي المبكّر، حتى في عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، أولى الترجمات الفلسفية، بخاصة كتابات أرسطوطاليس، وهذا يكشف أن التفاعل مع الفكر الإغريقي بدأ باكرًا، وبلغ ذروته مع العباسيين.
لكنّ الترجمة لم تمرّ بسلاسة دائمًا؛ فحين دخلت حقل التنجيم أثارت جدلًا واسعًا حول مشروعيتها؛ إذ عُدّت ضربًا من التنبؤ بالغيب، وهذا يتناقض مع جوهر العقيدة الإسلامية. بيد أن هذا الرفض لم يُغلق الباب أمام تطور علمي موازٍ؛ هو علم الهيئة الذي اعتمد على الرياضيات والفلك، ونأى بنفسه عن الخرافة. ويوضّح هذا المثال أنّ الترجمة شكّلت حافزًا لولادة علوم جديدة، وليست وسيلة نقل للمعرفة فحسب. كما أدت النقاشات التي أثارها الزنادقة حول الأديان القديمة إلى دفع المسلمين نحو البحث والترجمة للرد عليها؛ وهذا يعني أن الثقافة العربية الإسلامية لم تكن سلبية في استقبالها، بل كانت تفاعلية، تقاوم الصدمة وتعيد إنتاج المعنى.
في هذا المشهد، لم يبرز «الكاتب» العباسي، بوصفه موظفًا بيروقراطيًا، بل فاعلًا ثقافيًا ساهم في تعريب المصطلحات، وتطوير أساليب التعبير، وجعل اللغة العربية أداةً قادرةً على حمل الفلسفة والطب والمنطق. فقد اشترطت الدولة في الكاتب مهارات عالية، مثل حسن الخط وإجادة اللغات ومعرفة الحساب والقدرة على التحرير والتأليف. وثمّة مَن كان كاتبًا ومترجمًا في آن معًا، مثل عبد الحميد الكاتب، الذي ارتبط اسمه بترجمة رسائل أرسطو. وبناء عليه، لم يتطور النثر الفني العربي بفعل الشعراء أو الأدباء فحسب، بل أيضًا بفعل الكُتّاب والمترجمين الذين منحوه دقة المصطلح وصرامة المنطق.
وقد تجلّت العلاقة بين الترجمة والفنون البصرية في أنهما يمثّلان نقلًا وتحويرًا وإعادة تشكيل؛ فالمترجم كالفنان، لا يقدّم صورة طبق الأصل، بل يعيد بناء المعنى من داخل ثقافته، ويصوغه في ضوء حساسيته. والمبدع، سواء أكان رسّامًا أم مترجمًا أم شاعرًا، لا يستطيع تكرار أثره؛ لأنه لا يستطيع تكرار لحظة الإبداع نفسها، فكل عمل إبداعي هو لحظة متفرّدة، لا تُستعاد ولا تُستنسخ. لذا، كانت الترجمة فعلًا فنيًا لا يقل شأنًا عن الرسم أو الشعر أو التأليف.
كان العصر العباسي نموذجًا فريدًا في التاريخ الإسلامي؛ إذ تلاقت فيه الترجمة والمعرفة والسياسة والدين والفن، كما شهد انفتاحًا واسعًا على الثقافات الأخرى، وهذا جعل الترجمة فعلًا حضاريًا بامتياز، وساهم في بروز نخب علمية متخصصة، وتعميق المفاهيم، وتوسيع المدارك. ولكن حين بدأ صوت المترجم يخفت، وساد الجهل، دخلت الدولة العباسية مرحلة التراجع والانحدار. فقد ارتبط ازدهار العصر العباسي بازدهار حركة الترجمة، وحين تراجعت كان ذلك إيذانًا بغياب العقل وانطفاء نور المعرفة. فكما ارتبطت النهضة العباسية بولادة الترجمة، اقترن أفولها بإهمال هذا الفعل المعرفي.