طباعة هذه الصفحة

من يُعطي المُدن صفاتها؟

بقلم الأسيرة المحرّرة: دعاء الجيوسي

 الاثنين الثالث والعشرين من مايو آيار لعام 2023، أفقنا على وقع مجزرة جديدة اقترفها العدو في مخيم بلاطة شرق نابلس استُشهِد خلالها ثلاثة شبان بعمر الورد.
وككل صباحاتنا على هذه الأرض تُغسل وجوهنا وقلوبنا بالدم عند الشروق..الحق أقول أن الكثير من ملامح مدينة نابلس التي عشت فيها سنوات النضال بدأت تتلاشى من ذهني،أسماء الشوارع والمطاعم والمربعات السكنية ذهبت جُلها أو كلها بجملة ما ذهب من ذكرياتي قبل السجن..
شيٌ واحد في نابلس لا يُمكن أن أنساه صفات الشهداء وملامحهم هو كل ما بقي عالق في رأسي حتى اللحظة..لا سنوات السجن ولا الإبعاد استطاعت أن تسلبني إياه..ربما لأن معظم الشهداء الذين عرفتهم ينحدرون من المدينة وضواحيها وربما لأن السنوات التي قضيتها فيها طالبة ومقاتلة كانت سنوات الألق للفعل الكفاحي والإستشهادي..وقد يكون السبب هو أن نابلس من المدن القليلة التي لم تُغير جلدها فظلت مدينة القتال والإستشهاد...
المهم أن ملامح شهداء المدينة الجبلية وطِباعهم لا تزال تدور في رأسي وأستطيع إن استمعت لوصية شهيد أو شاهدت تسجيلاً له أن أُميز منطقة سكناه وطريقته في القتال....
فالمُقاتلون من قُرى نابلس يُفضلون الزي العسكري ولا يميلون لتزويد بنادقهم بأي عتاد إضافي...بُندقية تُطلق النار وكفى ويفضلون دوماً إطلاق كناً غريبة على هذه البنادق....وتبدو أسماؤهم الحركية أكثر خشونة من غيرهم....أما مُقاتلو المخيمات، فمهما كان عتادهم يميلون لحمل السلاح الأبيض وتبدو أسماؤهم الحركية أكثر عصرية من غيرهم...في نابلس حياة الشهداء كمقامات الموسيقي متنوعة ولكنها تمضي في إتجاه واحد، وفيها الجدران تئن تحت وطأة الذكرى لمن مضى، في نابلس على حافة الجبل وقمته تبدو الحياة غامضة لمن لم يعش تفاصيلها، فكل صخب الدنيا تجده هناك قصص عن الحُب والفراق والهجر، وأخرى عن حركة التجارة والمال وفي إطار موازي تسير الحياة صوب الموت. إن كانت حياة الليل في كل المدن رذيلة ونقيصة، فهي في جبل النار أم الفضائل ذلك أن حياة ليلها قتال ومواجهة تُفضي لموت ملحمي، لكنةُ أهل نابلس لا تشبه لكنةَ غيرهم، معظم الحُروف تخرج من الأفواه مرقّقة وينتابها مد للكلام وإشباع لآخره بالكسرة، وهذه ربما من فضائلهم أيضاً إذ أنهم يكسّرون الكلام، وبجملته يكسرون دائرة الصمت والخنوع التي تمتد صوب البلاد.
في نابلس يكفي أن تكون فلاحاً أو إبناً لأحد المخيمات لتصبح وبالفطرة ماركسياً تفهم البُعد الطبقي لكل شيء، وعندما تصل هذه المرحلة تُدرك وبلا مقدمات أن الغزوة الصهيونية عبثت بالبُنى الاجتماعية لشعبنا، فخلطت رأس الهرم الشعبي بقاعدته، وأخرجت للوجود طبقة اجتماعية جديدة نابلسية بامتياز. طبقة تقاتل ثم تستشهد، هذه فضيلة أخرى للمدينة التي تُصر أن تعلّمنا كل يوم شيئاً جديداً. كل شباب نابلس عاشوا قصص حب عاصفة وكل بناتها كذلك، وكل شوارعها تعرف هذه المعلومة، وتعرف أيضاً أن إنتماءك الديني والسياسي وقناعاتك لا تعني لأحد شيئاً إلا بعد الاستشهاد، في نابلس يمكنك أن تتعلم لغة الياسمين والنرجس، وأن تفهم همس الحساسين والصبايا العاشقات، وكل هذا لن ينفعك لأنك ستموت عما قريب وسيظل ذكرى لمن يأتون بعدك، من أين جاءت نابلس، هل هي بنت النار مثلاً أم أنها نتاج فكرة لشاعر مجنون، هل هي شطحة صوفي في لحظة تجلي أم بيت غزل كتبه عاشق مارق. هل زارها نبيٌ ما ونحن لا نعرف أم مر بها ذات يوم ملاك فرسمها على هذا النحو..لا أعلم؛ ما أعلمه أن نابلس أعطت أهلها صفتهم، وأعطوها سماتهم فباتوا وإياها استثناء عن كل قاعدة وخرقاً لكل نظرية.