طباعة هذه الصفحة

إضـاءة:

حكــايـة الأديـب مـع زوجــتــه الـراقـصة

بقلم: محمد شريم المنسق العام لمنبر أدباء بلاد الشام.

اتفق أحد الأدباء مع إحدى الراقصات على الزواج، وقد اشترط عليها أن تكف عن ممارسة مهنتها تلك. وبعد بضعة شهور من الزواج، حنت الراقصة إلى ما نشأت عليه في حانات المدينة، فعارضها زوجها الأديب مذكرا إياها بالاتفاق الذي كان بينهما، فطلبت منه الطلاق، فقال لها: ألا تصونين ما أنعمه الله عليك؟! فسألته: عن أية نعمة تتحدث؟ فقال لها: أن تكوني زوجة أديب ذي شأن! فقالت له: صحيح أنك أديب، ولكن، هل أنت متأكد أن الأديب في مدينتنا ذو شأن؟ فقال لها: نعم، ولن أطلقك قبل أن تعرفي شأني. فسألته: وكيف سأعرف شأنك؟ فأجاب: نتجول معا بين الناس، ونرى من يكون موضع اهتمامهم. فسألت الراقصة: وكيف يكون ذلك؟ فأجاب الأديب: كل منا يتقدم منفردا بطلب إلى واحد من كبراء المدينة للاجتماع به، دون أن نخبر أيا منهم أننا زوجان، فإذا وافق الواحد منهم على الاجتماع بأحدنا يعترض الآخر طالبا أن يكون الاجتماع به هو في  الزمان عينه بحجة أنه على وشك السفر، وأن ذلك الموعد هو الذي يناسبه، فوافقت الراقصة على ذلك.
فذهب الأديب وزوجته الراقصة، كل منهما على انفراد، لتقديم طلب لمقابلة حاكم المدينة أولا، فوصل الأديب في اليوم التالي إشعار بالموافقة على طلبه، يتضمن موعد اللقاء، وبعد ساعتين وصل الأديب إشعار آخر بتأجيل اللقاء إلى موعد لاحق للموعد الأول، وما كاد الرسول ينصرف حتى عاد ومعه موافقة الحاكم على مقابلة الراقصة، في الوقت نفسه الذي كان مخصصا لمقابلة زوجها قبل التأجيل، فذهبت الراقصة في موعدها لمقابلة الحاكم، وعادت فرحة مرحة وقد أهداها الحاكم كساء من الحرير.
 وبعد تردّد - لأن الغرض من الزيارة لم يعد قائما - قرّر الأديب زيارة الحاكم في الموعد المحدد له، وذلك لسبب وحيد، وهو أن يسأل الحاكم عن سبب تأجيل اللقاء بعد أن تقرّر في المرة الأولى، فقال له الحاكم: بعد أن حددنا الموعد للقائك، وصل طلب من راقصة المدينة لمقابلتي، وأحببت أن أتخلص من لقائها الثقيل للاستمتاع بلقائك الطيب أيها الأديب. وفي نهاية اللقاء أهدى الحاكم الأديب جبة من الصوف.
عاد الأديب إلى بيته من قصر الحاكم متفكر العقل متعكر المزاج، وعندما أخبر زوجته الراقصة بما قاله الحاكم، ضحكت وقالت: إن كان هذا ما يقوله الحاكم فليس هذا ما تقوله الهدية! فلنذهب إلى رجل آخر من كبراء المدينة، فاقترح الأديب أن يذهب كل منهما لتقديم طلب لمقابلة شاهبندر التجار، فحدّد الشاهبندر موعدا لمقابلة الراقصة قبل موعد مقابلة الأديب، فطلب الأديب من معاون الشاهبندر أن يقرب موعد مقابلته، ليكون في الموعد المحدد للقاء الراقصة بحجة أنه على وشك السفر، فأتى الرد من الشاهبندر بأن لا مشكلة في تأجيل المقابلة حتى يعود الأديب من سفره، إن كان موعدها المحدد لا يناسبه، لأنه ـ أي الشاهبندر - يريد التعجيل بلقاء الراقصة للاتفاق معها على الترويج لبعض الثياب والحلي والعطور التي يتاجر بها بعض كبار التجار، بسبب قرب حلول الموسم الذي يكثر فيه البحث عنها، وذلك بأن تظهر بها هذه الراقصة وتستعملها في حفلاتها.
فعادت الراقصة من دار الشاهبندر إلى المنزل على متن عربة يجرها اثنان من الخيل ومعها ثلاث حقائب فيها من الألبسة والحلي والعطور ما لم يخطر للأديب على بال، فامتعض الأديب امتعاضا شديدا، وقال في نفسه: لم تعد بي حاجة لمقابلة هذا الشاهبندر، ولكنني الآن يجب أن أحسن اختيار العنوان الذي يليه، سأقترح عليها أن نقدم طلبين لمقابلة مفتي المدينة، فهو رجل شديد التدين ظاهر الورَع، فما حاجته في مقابلة راقصة مع ما يمكن أن تتسبب به هذه المقابلة له من الحرج، وكم كانت مفاجأة الأديب كبيرة عندما لمس ترحيب المفتي الشديد بزيارة الراقصة، ورفضه أي تأجيل لتلك الزيارة، وعندما سأل الأديب معاون المفتي عن السبب في رفض التأجيل قال: يريد المفتي أن يستبق الخيرات، بأن يقدم موعظة للراقصة على أمل أن يقنعها بالإقلاع عما هي فيه دون تأخير، وهل يطمح المؤمن في شيء أكثر من ثواب الله لأنه أنقذ عاصيا من معصية؟! ولما أخبر الأديب الراقصة بما قاله المفتي، قالت: فليقل ما يقول، لا حاجة بي لزيارته. فقال الأديب: بل هو الذي أشجعك على زيارته، حتى لو فضلك علي، فقد تحظين عنده بالكلمة الطيبة وترين فيه الأسوة الحسنة. فقالت الراقصة: لا تقلق يا عزيزي، قد أزوره ولكن بعد سن الثمانين!
وهنا، قرر الأديب أن يضرب ما رأى أنها الضربة القاضية، فاقترح أن يتقدما بطلبين لمقابلة رئيس ديوان المراسم في قصر الحاكم، فالرجل مثقف واع وأديب معروف محب للأدب والأدباء. فحدث أن تسلم الأديب موعدا للقاء رئيس الديوان قبل موعد لقاء الراقصة، فذهبت الراقصة وفق الاتفاقية لتطلب تقديم موعد مقابلتها، فلم تفلح، فعادت إلى منزلهما خائبة، وقالت لا حاجة لي بزيارة هذا الشخص بعد! فسر الأديب وقال للراقصة: أرأيت؟ مثل هذا الرجل من يقدر الأدب والأدباء ويرفع من شأنهم!
ثم ذهب الأديب لمقابلة رئيس ديوان المراسم في الموعد المحدد، وكم كانت مفاجأة الراقصة عظيمة حينما تأخر الأديب عن العودة إلى المنزل لتصلها منه ورقة تتضمن شهادة طلاقهما! فتساءلت عن السبب الذي دعاه إلى أن يطلقها في لحظة انتصاره، فأعادت التفكير بموقفها، وقررت الذهاب إلى رئيس ديوان المراسم في الوقت المحدد، لعلها تعرف ما جرى مع الأديب، فاستقبلها الرجل أعظم استقبال، وعندما رأت ما أحيطت به من الحفاوة توفر لديها من الشجاعة ما سمح لها بأن تعاتبه على رفضه تقديم موعد مقابلتها، فقال: لو تعرفين السبب لما عتبت علينا.. فسألت: وما هو السبب؟ فقال: ما أن قررنا الموافقة على مقابلتك وأرسلنا إليك من يخبرك بموعدها حتى اطلعنا على طلب لزيارتنا في الديوان من أحد الأدباء، فقررنا أن نقدم موعد زيارته تكريما لك. فقالت مستغربة: أتكرمونني بأن قدمتموه علي؟! فقال: نعم. فقد قررنا أن تقدمي عددا من الرقصات في الحفل السنوي المقبل، وأخرنا موعد مقابلتك حتى نتم الترتيبات المتعلقة بهذا القرار قبل أن نعرض عليك الأمر. فقالت: وما هي هذه الترتيبات؟ قال: لقد عرضنا على الأديب الذي قدمنا زيارته أن ينظم قصيدة يثني فيها على أدائك في الرقص، ليلقيها بعد أن تقدمي رقصاتك في الحفل المذكور، وذلك لإثارة اهتمام الحضور. فقالت الراقصة: وماذا قال الأديب؟ فأجابها رئيس ديوان المراسم: قال: نعم، سأنظم قصيدة في مدح هذه السيدة، ولكن بعد أن تبلغ سن الثمانين! ثم غادر دون أن يضيف شيئا!

وعندما علم شاعر المدينة وحكيمها بحكاية اللأديب والراقصة قال:

يبقى الأماجد شامخين بمجدهم
وإن استهان بشأنهــم خلطـــاءُ
لا يفقـد الذهـب الأصيـل بريقـه
إن يرتبك في وصفه الجهـلاء!