طباعة هذه الصفحة

استنزاف مقدّرات المستعمر خلال ثورة التحرير المباركة

المعركة الاقتصادية.. طبيعتها.. أساليبها وأهدافها

رضا بن عتو

ثبّت النظام الاستعماري الفرنسي نفوذه في الجزائر من خلال تقوية مركزه الاستيطاني من الناحية السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية في الفترة الممتدة من بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر 1830م إلى غاية الفترة المعاصرة لثورة التحرير الجزائرية، ومع اندلاع ثورة التحرير الجزائرية التي جاءت من أجل هدم النظام الاستعماري بكل أوجهه، وضعت كل ما حرب التحرير وبالخصوص تلك المنشآت القاعدية والتي تشكّل الركيزة الأساسية للاقتصاد الفرنسي بالجزائر، فرفعت بالتالي معركة عرفت تاريخيا بـ«المعركة الاقتصادية”..


حرب الاستنزاف هي تلك الحرب التي تأتي نتيجة للظروف السياسية والإستراتيجية، أي عندما لا تتوفر القدرة العسكرية الشاملة أو في ظلّ ظروف قد تسبّب تأخير العمل العسكري المباشر، بحيث تقوم هذه الحرب على إستراتيجية عسكرية محدّدة، وهو الأمر الذي يتفق مع طبيعة الحرب والوصول إلى أهداف محدّدة سواء كانت هجومية (احتلال أرض) أو دفاعية (حماية أرض الوطن)، وذلك بإكراه الخصم على الخضوع بالتأثير على نفسية العدو وقواه المعنوية، مع استخدام كل الوسائل المتوفرة وعدم الاكتفاء بالمعركة فقط.
والإستراتيجية هي التصور الكلي للنظريات والمبادئ التي تطبق خلال الحرب، وكذلك هي فن حشد الوسائل المختلفة الأشكال وقيادة وتوجيه مجمل العمليات العسكرية للحرب الكلية لتحقيق الهدف، أو هي خلق الظروف الملائمة للقيام بالمعركة لتكون الخسائر أقل والنتائج أفضل.
إن تعريف الاستراتيجية يؤكد على ضرورة حشد الوسائل المختلفة لتحقيق الهدف إما بالعمل العسكري أو من خلال توسيع وتكثيف حالة اللاأمن في كل مكان لزعزعة معنويات العدو، وكذا إضعاف اقتصاده.
وكان من أهداف جبهة التحرير الوطني، تحطيم نظام الاستعمار الفرنسي، وأول شيء قامت به الجبهة من أجل تحقيق ذلك، دراسة معمقة لهوية هذا النظام وأبعاد وجوده، وخرجت في الأخير بأنه احتلال عسكري واستعمار استيطاني يحاول الحفاظ على مركزه والحفاظ على مصالحه الأساسية، ومن أجل الوصول إلى أهداف المعركة الاقتصادية، نشرت جريدة “المقاومة” في عددها الصادر يوم 20 ماي 1957م، مقالا تحدثت فيه عن هذه الحرب، وتطرّقت إلى أهم هدفين وهما: إضعاف الجيش الفرنسي - إتلاف الاقتصاد الاستعماري على نطاق واسع بعمليات التخريب بحيث تصبح إدارة البلاد متعذرة.
وتفصيلا للنقطة الثانية من أهداف الحرب، ذكر المقال أن جيش التحرير الوطني جيش منظم يقود حربا تهدف إلى استرجاع السيادة الوطنية، وهو في هذا يعمل على إتلاف الاقتصاد الاستعماري بما يقوم به رجاله الأبطال من تخريب الطرق والسكك الحديدية والمزارع الأوروبية وفلاحة المعمرين، وانطلاقا من كل هذا، فإن جيش التحرير الوطني وضع الوسائل الاقتصادية للكولون هدفا لعملياته العسكرية، فقد كان الهدف الأساسي لجيش التحرير الوطني من استهدافه للوسائل الاقتصادية بالدرجة الأولى زرع الاضطراب والهلع والخوف في نفوس الكولون، ما يسمح بالقول إن الحرب التي تستهدف الوسائل الاقتصادية تسمى “المعركة الاقتصادية” وتتمثل في توجيه الضربات القاسية إلى الإمكانات الاقتصادية التي يملكها العدو، وفق ما قالت جريدة المجاهد عام 1960، وذكرت أنها تقوم على نقطتين أساسيتين:

 المقاطعة المختلفة لإدارة الاحتلال ومؤسساته الاقتصادية.
تخریب قدرات العدو المختلفة وتدميرها بالحرق والقطع والقلع

ركّزت هذه الحرب على ضرب الروح المعنوية للكولون من خلال تبديد مقدراتهم، وكذا عرقلة سير الطرقات، وفي هذا الصدد بذكر كريم بلقاسم في جريدة المجاهد جانبا من هذه الحرب، فيقول: “من واجبات جيش التحرير الوطني أن يقوم بالهجمات القوية التي تحطم العدو، إلا أن جيش التحرير لا يمكن أن يوجه ضرباته إلى الجيش الفرنسي فقط لأنه لو فعل ذلك لفقد صفة الجيش الثوري وطابعه، ومعنى ذلك تجاهل الوضع الذي خلقه النظام الاجتماعي والاقتصادي، وأن ضرب المعمرين لا يكون إلا من خلال ضرب مصالحهم الحيوية”..
لقد كانت إستراتيجية التخريب التي اعتمدها جيش التحرير الوطني ضد مصالح النظام الاستعماري مدروسة ومخططا لها، من حيث الكثافة ومن حيث الكيفية من منطقة إلى أخرى، وقد تنوعت هذه العمليات على حسب تنوّع النشاط الاقتصادي الممارس في تلك المنطقة، فعلى سبيل المثال، وفي الشرق الجزائري استهدفت المناجم والنقل بمختلف أنواعه، بينما في الناحية الغربية طالت العمليات التخريبية بالدرجة الأولى المزارع. وسكك الحديد المخصصة للنقل التجاري، وأقبية صنع الخمور، وبشكل خاص زراعة الكروم، إضافة إلى استهداف المحاصيل الزراعية.
وفي السياق نفسه، يذكر عمر أو صديق في جريدة المجاهد أن ميدان الحرب الاقتصادية اتسع فتجاوز الهاتف والكهرباء ومخازن المياه والمزارع، إلى الجهاز الاقتصادي الاستعماري بأكمله ووسائله المختلفة، كما استعملت الألغام وظهرت منظمات جديدة مثل متطوعي التخريب الذين تخصّصوا في المعركة الاقتصادية، وتدعيما لهذه الحرب، يذكر الصحفي الإيطالي دانتي كوشي الذي دخل أحد معسكرات جيش التحرير الوطني أن قادة الجيش وضعوا دروسا خاصة بالتخريب.
المعركة الاقتصادية خلال الثورة الجزائريـــــة
حدّد مؤتمر الصومام الوسائل المادية والبشرية للحرب الاقتصادية، حيث عمل قادة الثورة على حصر كل المعلومات المتعلقة بالتركيبة العسكرية والإدارية والاقتصادية للعدو، ومن ثمّ توجيه الضربات إلى النقاط الأهم، ومن أجل تحقيق هذا الهدف، أسست جبهة التحرير الوطني فرقا خاصة مهمتها الأساسية استهداف منشآت الكولون الاقتصادية، ويتجلى دورها في تقصي الحقائق وجمع المعلومات بكل دقة عن تحركات العدو وإحصاء عدد قواته وكذا تتبع خطوات الخونة والمتعاونين مع الإدارة الاستعمارية، كما يتوفر هذا الجهاز على مجموعة تقنية تقوم بتدريب الشباب المجنّد على استعمال الأسلحة والمتفجرات والألغام وفن التخريب الذي ركّز الجهاز عليه بتدريب المجاهدين على تخريب منشآت العدو وقطع الطرق والأعمدة الهاتفية، تحطيم الجسور وتحطيم قضبان السكك الحديدية.
فـــرق الكومانــــدوس
هي فرق خاصة أو فرق التدخل السريع، يحدّد مهامها المجاهد بالي بلحسن وكان ضمن أحد فرق الكوماندوس بتلمسان.. يقول: “هي تعين مكانها بنصب الكمين بالليل عادة أو في آخر النهار، وذلك اعتمادا على الظلمة ومنع الطائرات من اكتشافها، تكون متكونة من 33 مجاهدا تتحرك فرق الكوماندوس على شكل سريّات لا على شكل خطوط، يحترم الفرد داخلها مسافة الخمس أمتار بينه وبين الفرد الثاني، إن الكوماندوس مدعوة لتنفيذ الهجمات والغارات ضد العدو، متبوعة برجوع حسب قواعد الحرب الخاطفة”، وانطلاقا من هذا، يتعين على الكوماندوس أن يقوم بالعديد من العمليات الهجومية والكمائن والحملات والغارات ضد الأهداف الإستراتيجية، بمساعدة المدنيين أو المسبلين إذن، فرق الكوماندوس أسندت إليها مهام نصب الكمائن وتخريب الأهداف العسكرية والاقتصادية من مزارع المعمرين والمراكز الكهربائية والسكك الحديدية.
الفدائـــــيون
تعني كلمة فداء في مصطلح الثورة التحريرية فداء النفس وتقديمها ضحية، كلمة فدائي كانت تطلقها الجبهة على المناضل الذي تكلفه بالقيام بمهمة صعبة وخطيرة، وهو جندي من نوع خاص؛ لأنه يتمركز وسط العدو وفي وسط مراكزه ولا يقتصر دوره على مهام محدّدة، فأحيانا يكلف بتصفية خائن وأحيانا منشأة عسكرية، وأحيانا أخرى منشأة اقتصادية.
كل فدائي لا يذهب إلى ميادين القتال إلا بعد أن يتلقى تعليمات عسكرية لتنفيذ مهمته على أكمل وجه ممكن، فلا يد له أن تتوفر فيه بعض المؤهلات البدنية، من مميزات الفدائي أنه يرتدي اللباس المدني وكانت مراكز نشاطهم في المدن والقرى، ومهمتهم الأساسية تتمثل في بث الرعب في أوساط الإدارة الاستعمارية، وكان سلاح الفدائي غالبا المسدس، إذا كانت مهمته تصفية خائن أو معمّر، أما عند الهجوم على منشأة اقتصادية أو بناية، فكان الفدائيون يصنعون القنابل اليدوية.
وكان على الفدائي أن يعرف مهمته بأدقّ تفاصيلها، مهما تكن العملية.. إتلاف وتخريب حيث يجب عليه أن يعرف مهمة الدور الذي تلعبه المؤسسة الاقتصادية المستهدفة في النظام الاستعماري والدواعي التي حملت الثورة على اتخاذ هذا الموقف إزائها.
ويمكن حصر دور الفدائي في الحرب الاقتصادية في النقاط التالية:
تنفيذ العمليات الفدائية في المدن والقرى وتوجيه الضربات الهادفة إلى المصالح الاقتصادية والمرافق الحيوية للعدو.
إرغام قوات العدو على تخصيص عدد كبير من جنودها لحماية المستوطنين في المدن والقرى وحماية مصالحها الاقتصادية مما يزيد في إرهاقها بزيادة النفقات العسكرية واستنزاف اقتصادها.
- إنهاك قوات العدو ماديا ومعنويا وبث الرعب في صفوف المستوطنين
المسبلــــون
عرفهم العربي بن مهيدي في جريدة المجاهد بأنهم “أفراد يتفرعون لعمل من الأعمال بكامل إخلاص ونزاهة وتضحية، هم رجال لا يمشون باللباس العسكري، وهم في جبهة التحرير وجيش التحرير بمثابة العين والأذن، وبالرغم من أنهم ليسوا إلا مساعدين لمجاهدي جيش التحرير، فهم كذلك يساهمون بفضل بنادق الصيد التي يحملونها بصفة فعّالة في الحرب ضد رعاع الجنود الفرنسيين”.
 إن كلمة مسبل تعني الشخص الذي يكرّس حياته للعمل من أجل نجاح الثورة بكل إخلاص، وهم أفواج من المجندين وجدوا في الثورة منذ أول نوفمبر، والمسيلون كان أغلبهم من الفلاحين، حيث يتميزون بقدرتهم على التحمّل ويعرفون تضاريس المنطقة ومعروفين بشجاعتهم، يكلفون بالدخول إلى المدن والقيام بالعمليات الفدائية، وهم أكثر من يقلقون جيش العدو
بدأ تنظيم فرق المسبلين أواخر 1956م، أي بعد مؤتمر الصومام، وهذا يعني أنهم كانوا موجودين قبل 1956م وأن مؤتمر الصومام قام بتنظيمهم فقط، وكانوا ينتظمون على شكل مجموعات تسمى الفرقة والفرع، ولكل واحدة منها رئيسها، ويكون المسبل في العادة معينا للفدائي لدى قيامه بالعملية الفدائية أو يستطلع له الأخبار.
 ويمكن حصر دور المسبل في الحرب الاقتصادية في النقاط التالية:
- مضايقة العدو وإشعاره بتواجد الثورة في كل شبر من تراب الوطن وهذا من خلال تخريب الطرقات ونسف الجسور وتحطيم السكك الحديدية، فضلا عن تعطيل الخطوط الهاتفية والكهرباء.
- تدمير المنشآت الفنية والاقتصادية التي تؤدي إلى إضعاف العدو وتحطيمه من الناحية الاقتصادية.
- تخريب مزارع المعمرين الذين يظهرون عداءهم للثورة.
بعض مظاهر المعركة الاقتصادية
شكّل الموقف العام للثورة الجزائرية من النشاط الزراعي للكولون، أولى اهتمامات كتائب جيش التحرير الوطني، وبما أن البنية الاقتصادية للمجتمع الجزائري هي بنية فلاحية، فإن الأرض الزراعية سوف تكون أولى اهتمامات المعركة الاقتصادية، حرب المزارع (حرق المزارع) هو ميدان من ميادين الحرب الاقتصادية التي رفعها جيش التحرير الوطني، تتمثل هذه الحرب في استهداف مزارع المعمرين والممتلكات المرتبطة بها.
تركزت هذه الحرب في مناطق الريف، حيث استهدفت - بالدرجة الأولى - المصالح الكولونيالية التي كانت ترتبط بالمصالح الرأسمالية الزراعية، وهذا ما يمكننا من فهم تلك الحدة والإصرار في استهداف المزارع والمخازن والمصانع التي كان لها ارتباط وثيق بالإنتاج الزراعي كالأقبية ومصانع الخمور وكذا مصانع التبغ والفلين والحلفاء ومعاصر الزيت ومستودعات العتاد الفلاحي.. إذن، فإن حرب المزارع لم تقتصر على الهجمات التي استهدفت مزارع المعمرين فقط، بل تجاوزت ذلك لتشمل هجمات المجاهدين على وسائل العتاد الفلاحي وكذا المخازن الخاصة بتخزين الخمور وكذا مصانع الحلفاء والفلين وغيرها.
وصفت التقارير الفرنسية إستراتيجية حرق المزارع بالضربات الإرهابية من النوع القديم القائم على رسائل التهديد بالقتل الموجّهة لملاك المزارع الهجمات العشوائية ومحاولة الحرق، استهداف المزارع وتفريغها من العمال، وهو ما سجلته النقابات الزراعية الفرنسية في اجتماعها المنعقد يوم 11 أفريل 1956م.
يمكن القول، إن حرب المزارع كما وصفتها صحيفة صدى وهران، جاءت من أجل تفريغ الريف والقرى من الفلاحين الأكثر نشاطا لتدمير البنية الاقتصادية والاجتماعية ونشر البطالة والمجاعة”.
الحلقة الأولى