طباعة هذه الصفحة

نورهان عواد: استئناف الحياة..من دون هديل

بقلم: هند شريدة / كاتبة مقدسية

 



 للصدفة المحضة، أتمّت الأسيرة نورهان عواد ثمانية أعوام في الأسر، بالتمام والكمال. دخلت طالبة في الصف العاشر، لا يتعدى عالمها كمشة أسرار توشوشها لابنة عمها وصديقتها المفضلة: هديل، وها هي اليوم تخرج صبية في الرابعة والعشرين من عمرها، تحمل آثار ثلاث رصاصات اخترقت ظهرها ورجلها وبطنها، استقرّت واحدة منها في الكبد تلازمها حتى اللحظة، وبعض الشظايا التي تموضعت وشماً على ساعدها، تظل تلسعها أيام البرد.
لديها الكثير من الأسرار التي تكدّست أكواماً في قلبها كل هذه السنوات، لكنها لن تجد هديل لتخبرها ماذا حلّ بها. لعلّ نورهان ستتوجّه إلى المقبرة، أولاً، لتقرأ الفاتحة على روح ابنة عمها الشهيدة، التي كانت ترافقها يوم اعتقالها. ستظل تذكر هاك اليوم 23/11/2015، كيف صوّب شرطي صهيوني عليهما السلاح في القدس المحتلة، فأردى هديل قتيلة، ونورهان جريحة ومعتقلة معاً. حُكِمَ على نورهان بالسجن 13 عاماً ونصف العام، وغرامة قدرها ثلاثة آلاف شيكل؛ خُفّض الحكم بعد الاستئناف إلى 10 سنوات، وتأتي صفقة التبادل اليوم لتعجّل من تحريرها سنتين، لتقضيهما مع سنين أُخرى رغيدة في كنف عائلتها.
ستعود نورهان إلى ترتيبها الأسري كونها لرقم 2 في عائلة كبيرة مكوّنة من تسعة إخوة وأخوات تسكن مخيم قلنديا. جاء اليوم الذي سنقرن فيه اسمها بـ«المحررة”، فالطفلة المقدسية غدت اليوم صبية. لم تعد نورهان الفتاة الصغيرة ابنة 15 عاماً؛ فقد اكتسبت خبرة مختلفة عن تلك مرت بها قريناتها، كمعرفتها بإذاعات الأثير، وجدولة برامجها، وأوقات البث، وتفضيلات الأسيرات للبرامج التي تنقل أشواق عائلاتهنّ، وأهم ما في الأمر مواعيد فقرات أغاني الزمن الجميل، أم كلثوم وأسمهان وعبد الحليم، فطفلتنا الكبيرة مزيج بين العصرية والدقة القديمة!
لدى نورهان موهبة فريدة للغاية، فهي ضليعة بفك شيفرة الكلام عن طريق قراءة الشفاه، وهي فطنة اكتسبتها من لوعة الزيارة وفرط الاشتياق لأخبار الأهل والعائلة، بعد تقطيع السجان المتعمّد لهواتف الزيارة بقصد التلذذ والتشويش. كان لديها أيضاً الوقت الكافي لإتقان خطّ الرقعة، ونَفَسُها طيّب على الأكل، وتحضر كوب “النسكافيه” الصباحي بمقادير مركزة تزيد من لذته، ومن فعاليته في تعديل الدماغ في إسطبل حيوانات غير آدمي، تقبع فيه الأسيرات والأشبال أعلى الكرمل، يدعى سجن الدامون.
بارعة في الأشغال اليدوية، وهي من تشرف على هندام الأسيرات قبل موعد الزيارة، فتسرّح لهن شعرهنّ وتصففه بإتقان الكوافيرة، كما تحرص على تنسيق ألوان ملابسهن، واختيار الأنسب لكل منهنّ، فالجميع ينتظر استحسانها وتوكيدها على مظهرهن مسبقاً، كي يخرجن إلى الزيارة بأبهى حلّة. وفي جانب آخر، هي معروفة بتحضيرها أقصوصات أمنيات مع قطع شوكولاتة للأسيرات بعد رحلة المحاكم الشاقة، وتنقلهنّ بالبوسطة لأيام. تتجسّد المقاومة في الأسر في أن تشيع الأمل مدّاً ثورياً خارج حدود السجن وبطشه، كأن تخترق المستحيل، وتفك شيفرة المُحكَم، وسط كل التحديات التي لا تنفك بالدوران أمامك كالمتاهة المغلقة. وجدت نورهان خيطها عندما قررت تحرير شعرها وتهريبه خارج حدود السجن، فقصّت بعضاً منه تذكاراً لأمها، وضمّت جدائلها السميكة، وحصدت من السبلات ما يكفي، لتهبه عربون استمرارية ونبض حياة إلى مريضات السرطان خارجاً.
تقول إحدى الأسيرات المحررات والمقربات من نورهان: “غريبة عجيبة هالنورهان..قريبة عالقلب بتدخله متل الفراشة..الكل بحبها، وفي عليها إجماع كبير، بتشيع جوّ فرح وين ما بتكون ومستمرة بالعطاء”، وتكمل: “لمّا تطلع نورهان، محضرالها هدية من الهدايا اللي كانت تحلم فيها: طابة بلورية مليانة تلج..بالزبط متل الأفلام..هيك نورهان..ورومانسيتها الطاغية على شخصيتها”. ستخرج نورهان أو بعد سويعات من الآن. ستكمل حلمها، وربما ستسجل لإكمال بكالوريوس آخر في جامعة بيرزيت، بعد أن كانت قد أكملت الثانوية العامة وأنهت بكالوريوس أول في السجن. ستخرج نورهان، وستصبح غرفة رقم 11 من الماضي. لن تنساها، طبعاً، ففيها شكلت وعيها المقاوِم لظلامية السجن والسجان. لن تنسى نورهان ممر المطبخ عندما كانت تتربع على الأرض، وتناقش قراءات كتب متنوعة، وتحليل نصوص من الأدب العربي، أو شطحاتها في كتب فراس السواح، وغوصها في ملحمة غلغامش وأساطير الميثولوجيا. لن تنسى حصص الرياضيات التي كانت تعطيها للأسيرات، ولا تلاوتها للقرآن وفطنتها في أحكام التجويد. فنورهان لا تستكين أبداً، لكنها وصلت للتو إلى نهاية حقبة ستجمعها في دولاب الذكريات، ستظل تكررها كلما اجتمعت مع رفيقات عمر اكتسبتهنّ في مرحلة الاكتواء بالنار، وربما ستتجاوز حدود الكتمان لتشارك أهلها مكنونات قلبها في الأسر، وكل ما رغبت في البوح به ولم تستطع عبر هواتف الزيارة الباردة. ستبدأ نورهان حقبة جديدة مليئة بالآمال والطموحات الواعدة، لكنها ستظل تحتفظ بمساحة سرية من الذاكرة لن تشاركها مع أحد، سوى مع ابنة عمها وصديقتها المفضلة: هديل؛ مَن استشهد أول الطريق، وخاضت لأجله الرحلة.