طباعة هذه الصفحة

تمثــل مكوّنا أساسيـا مـن مكوّنات الهوية الوطنية..

هـذا مسـار التّمكين لـ ”اللّغـة العربيّة” بالجزائـر..

أسامة إفراح

 الاستعمــار الغــــاشم استهـــدف الجزائـريين في لغتهم لطمس هويتهم

 صالح بلعيد: القوى الوطنية لم تأل جهدا في مواجهة مساعي الاستعمار


لم تتوان الجزائر عن خدمة اللّغة العربية بشتى الطرق والوسائل، بما في ذلك التأكيد على أنّ اللّغة العربية مكوّن رئيسي من مكوّنات الهوية الوطنية. ولكن أبسط المساعي لترقية اللّغة العربية بالجزائر لم يكن ممكنا لولا تضحيات أبطال الوطن وشرفائه الذين قاوموا الاستعمار بشتّى الطرق والوسائل، للوقوف أمام محاولات طمس الهوية الوطنية، بما في ذلك اللّغة العربية.
استرجاع السيادة اللّغوية
وفي هذا الصدد، يلخّص البروفيسور صالح بلعيد، في مجموعة نقاط، سياسة الاستعمار في القضاء على اللّغة العربية، فقد أقام المستعمر الفرنسي إدارة جديدة على أنقاض الإدارة الجزائرية التي كانت جميع شؤونها تتم باللّغة العربية قبل الاحتلال، والتي قضت عليها بعـد الاحتلال بقليـل. ثـم “فـرنسـت” الإدارة الاستعمارية المحيط الاجتماعي؛ بحيث تحوّلت أسماء الشوارع، والساحات العامة، والمعالم الأثرية، وأسماء المدن، وأسماء القرى من أسمائها العربية الجزائرية إلى أسماء فرنسية؛ فمدينة الجزائر أصبحت “ألجي” ومدينـة وهران أصبحت “أوران”، وهكذا دواليك، إلى جانب فرنسة الإدارة ووسائل الإعلام والثقافـة بغرض صبغ البلاد بصبغة فرنسية خالصة في كلّ صغيرة وكبيرة.
كما استولت فرنسا على أهم المدارس، والمعاهد العلمية، والزوايا والمساجد الكبرى التي كانت مخصّصة للعلم والتعليم، وحولت لغـة التعـلـيـم مـن العربية إلى الفرنسية، وطبقت النظام التعليمي الموجود في فرنسا على النظام التعليمي الموجود في الجزائر، وتمّ تقسيم اللّغة العربية على ثلاث لغات: عربية عامية، وعربية فصحى، وعربية حديثة، واعتبارها جميعا غير صالحة للتعليم. وتمّ اضطهاد المعلّمين الأحرار في سلك التعليم الحرّ، وسجنهم وتغريمهم بقصد صرفهم عن العمل في نشر التعليم العربي بين الجزائريين.
ولم تألُ القوى الوطنية الجزائرية جهدا في مواجهة المساعي الاستعمارية. ومن هذه القوى، - يذكر البروفيسور بلعيد - جمعية العلماء المسلمين، مشيرا إلى جهودها في الحفاظ على اللّغة العربية، يقول: “اللّغة العربية هي الركن الثاني من أركان الشخصية الجزائرية التي تكفلت جمعية العلماء المسلمين بإحيائها وحمايتها؛ لكونها الرباط الوثيق الذي يربط الشعب الجزائري بدينه، وتاريخه وثقافته، ويربطـه بـأجزاء الوطن العربي المختلفة، فهي “لغة الدين، لغة الجنس، لغة القومية، ولغة الوطنية المغروسة، إنّها وحدها الرابطة بيننا وبين ماضينا، وهي وحدها المقياس الذي نقيس به أرواحنا بأرواح أسلافنا، وبها يقيس من يأتي بعدنا من أبنائنا وأحفادنا الغر الميامين أرواحهم بأرواحنا”.
ويضيف بلعيد: “وإدراكا من الجمعية لمكانة اللّغة العربية في حفظ كيان الشعب الجزائري، فقـد أولتهـا اهتماما كبيرا ورأت أنّـه مـن الضرورة الإلزامية أن تكون اللّغة العربيـة مـن إحـدى المبادئ المهمـة الـتي تحارب عنها من خلال مشروعها الإصلاحي والتغييري وهذا؛ لكون العربية بكلّ ما تحويه من حضارة وثقافة، ولغة وقرآن كريم تمثـل سـدّا حـائلا بين فرنسا، وبين تحقيق سياستها في فرض الفرنسة والتغريب على الشعب الجزائري، فسعت من خلالها إلى إفشال مشاريع الاستعمار الفرنسي التي يهدف بها إلى إشاعة ثقافة العرقية ليمزّق بها وحدة الصفّ الجزائري، ويعزّز وجوده وتسلّطه”.
حماية دستورية وقانونية
يشدّد الدستور الجزائري (2020) على كون العروبة (وبالتالي اللّغة العربية) من المكوّنات الأساسية لهوية الجزائر، ونقرأ في ديباجة الدستور أنّ أول نوفمبر 1954 وبيانه المؤسّس كانا نقطتيْ تحوّل فاصلة “في تقرير مصيرها وتتويجا عظيما لمقاومة ضروس، واجهت بها مختلف الاعتداءات على ثقافتها، وقيمها، والمكوّنات الأساسية لهويتها، وهي الإسلام والعروبة والأمازيغية التي تعمل الدولة دوما لترقية وتطوير كلّ واحدة منها، وتمتد جذور نضـالـهـا الـيـوم في شتى الميادين في ماضي أمتها المجيد”، وهو ما يؤكّد ما سبق ذكره في هذا الصدد. وتضيف الديباجة ذاتها: “لقد تجنّد الشعب الجزائري وتوحّد في ظلّ الحركة الوطنية، ثم انضوى تحت لواء جبهة التحرير الوطني التاريخية، وقدّم تضحيات جسـام من أجل أن يتكفل بمصيره الجماعي في كنف الحرية والهوية الثقافية الوطنية المستعادتين، ويشيد مؤسساته الدستورية الشعبية الأصيلة”.
وتنصّ المـادة الثالثة من الدستور على أنّ “اللّغة العربية هي اللّغة الوطنية والرسمية”. ونقرأ في ذات المادة: “تظلّ العربية اللّغة الرسمية للدولة. يُحدث لدى رئيس الجمهورية مجلس أعلى للّغة العربية. يكلّف المجلس الأعلى للّغة العربية على الخصوص بالعمل على ازدهار اللّغة العربية وتعميم استعمالها في الميادين العلمية والتكنولوجية والتشجيع على الترجمة إليها لهذه الغاية”.
ودائما في مجال النصوص القانونية المتعلّقة باللّغة العربية، نذكر القانون 91-05 المؤرخ في 16 جانفي 1991، الخاص بـ«تعميم استعمال اللّغة العربية”، والذي “يحدّد القواعد العامة لاستعمال اللّغة العربية في مختلف ميادين الحياة الوطنية، وترقيتها، وحمايتها” (المادة 01)، وينصّ القانون على أنّ “اللّغة العربية من مقوّمات الشخصية الوطنية الراسخة، وثابت من ثوابت الأمة، يجسّد العمل بها مظهرا من مظاهر السيادة، واستعمالها من النظام العام” (المادة 02)، كما “يجب على كلّ المؤسّسات أن تعمل لترقية اللّغة العربية، وحمايتها، والسهر على سلامتها، وحسن استعمالها” (المادة 03).
كما نذكر المادة 08 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الصادر في 2008، التي لم تكتف بإلزام استعمال اللّغة العربية في جميع مراحل التقاضي فحسب، بل نصّت على عدم قبول الوثائق والمستندات بغير اللّغة العربية أو مصحوبة بترجمة إلى هذه اللّغة.
وفي هذا الصدد، يعتبر د.محمد بومدين (جامعة أدرار) أنّ هذه المادة جسّدت “نصّ المادة الثالثة من الدستور المتضمّن اعتبار اللّغة العربية هي اللّغة الوطنية والرسمية للجمهورية الجزائرية”، ويضيف: “فرغم النص في الدساتير الجزائرية المتعاقبة على اللّغة العربية كلغة رسمية، ورغم صدور قانون 91-05 المتضمّن تعميم استعمال اللّغة العربية، فإنّ نص المادة 08 (...) جسد السيادة الوطنية في مدلولها اللّغوي الرسمي بشكل قاطع وشامل في المرفق القضائي”.
مؤسّسات اللّغة العربية
ومن بين المؤسسات التي تسهر على ترقية اللّغة العربية بالجزائر، نذكر المجلس الأعلى للّغة العربية، وهو هيئة استشارية تحت إشراف رئيس الجمهورية، أُنشئ بموجب المادة الخامسة من الأمر رقم 96-30 المؤرّخ في 21 ديسمبر 1996 والمعدل للقانون 91-05 المؤرخ في 16 جانفي 1991، وحدّدت صلاحياته وتنظيمه وعمله بموجب المرسوم الرئاسي 98-226، المؤرّخ في 11 جويلية 1998. وكما سبق ذكره، فقد حدّد دستور 2020 في مادته الثالثة المهام الرئيسية للمجلس.
وحسب رئيس المجلس الأعلى للّغة العربية، البروفيسور صالح بلعيد، فإنّ المجلس، باعتباره هيئة استشارية لدى رئيس الجمهورية، يعمل على تقديم أفكار بخصوص اللّغة العربية في مقامها الحاضر، ومآلاتها المستقبلية، بما نصّ عليه الدستور من مهام “العمل على ازدهار اللّغة العربية وتعميم استعمالها في العلوم والتكنولوجية والترجمة” لتحقيق الأهداف والمرامي التي أُنشئ من أجلها. وبذا، يعمل المجلس على الاستمرارية المتجدّدة التي استقاها من المرجعيات العلمية والحضارية والوطنية؛ من أجل إعلاء اللّغة العربية لتنال مواقع عالمة أمام لغات الكون، ويكون لها الصدى الإيجابي والعلمي كما كان ماضيها مغدقا، وحاضرها مشرقا، ومستقبلها مفلقا. ولهذه المهام، فإنّ المجلس يحمل خريطة طريق موزّعة على الآماد الثلاث، يروم من خلالها تطبيق منهجيات تحقيق مآلات اللّغة العربية عن طريق تحبيبها والترغيب فيها، وخدمتها في ظلّ العولمة التي يقع فيها التنافس اللّغوي في لغات (الإسپرنتو) التي يقع فيها ربح معركة البقاء للّغات الحاملة للمكانز والمتون اللّغوية وللّغات التي تتماهى في التقانات المعاصرة لتحقيق الذكاء الصناعي؛ وفاء للانتشار والأمن اللغوي، وهذه هي الخريطة التي يطبقها المجلس الأعلى للّغة العربية من خلال المشاريع التي أنجزها تحقيقا للازدهار والتقدّم الذي لا يكون إلا باللّغة الأم.
كما نذكر المجمع الجزائري للّغة العربية، وهو هيئة ذات طابع علمي وثقافي، ويتمتّع بالشخصية المعنوية، والاستقلال المالي، تحت وصاية رئاسة الجمهورية.
تأسس المجمع أواسط الثمانينات من القرن الماضي بموجب القانون رقم 86-10 مؤرّخ في 19 أوت 1986 بهدف خدمة اللّغة العربية وتأكيدا على ما جاء في الدستور الجزائري.
وتعاقب على المجلس عدد من الرؤساء، نذكر منهم التيجاني هدام، الذي توفي سنة 2000، أي بعد تعيينه بسنة. وفي سنة 2001 عين أستاذ اللسانيات الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح رئيسًا للمجمع، وظلّ على رأس المجمع 16 سنة إلى وفاته سنة 2017، وكان المجمع الجزائري للّغة العربية سبّاقا إلى تحقيق وإنجاز “مشروع الذخيرة اللّغوية العربية”. وفي الفاتح من فيفري من السنة الجارية 2023 نُصّب الدكتور الشريف مريبعي رئيسا للمجمع.
ويهدف المجمع إلى: خدمة اللّغة العربية، بالسعي لإثرائها وتنميتها وتطويرها، والمحافظة على سلامة اللّغة الوطنية، والسهر على مواكبتها للعصر، والمساهمة في إشعاع اللّغة العربية، باعتبارها أداة إبداع في الآداب والفنون والعلوم، وإحياء استعمال المصطلحات الموجودة في التراث العربي الإسلامي، واعتماد المصطلحات الجديدة التي أقرّها اتحاد مجامع اللّغة العربية، والتي يقرّها في المستقبل، ونحت مصطلحات جديدة بالقياس والاشتقاق، وترجمة وتعريب المصطلحات، ونشر جميع المصطلحات في أوساط الأجهزة التربوية والتكوينية والتعليمية والإدارية.
كما يعمل المجمع على وضع قاموس حديث شامل للمصطلحات العلمية والتقنية في مختلف المجالات، ونشر الدراسات والبحوث المتعلّقة باللّغة العربية، وآدابها، وفنونها، وتراثها، ومستجداتها، إلى جانب الإشراف العلمي على مشاريع وطنية وقومية تخصّ اللّغة العربية، كمشروع الذخيرة اللّغوية، ودعمها بكلّ الوسائل المادية والبشرية.
ولعلّنا نضيف إلى هاتين المؤسّستين العديد من المؤسّسات الأخرى التي تسهر على ترقية اللّغة العربية في الجزائر، دون أن ننسى ما تقدّمه الجامعات والمعاهد، بمخابرها وفرقها البحثية، وحتى الأفراد من مبدعين وأدباء وشعراء، من خدمات للّغة العربية، ما يؤكد أنّ ترقية هذه الأخيرة هي مهمة الجميع دون استثناء.