طباعة هذه الصفحة

الانتخابات اليونانية تفرز اليسار الراديكالي

الاتحاد الأوروبي والنظام الرأسمالي العالمي على المحك

أمين بلعمري

أثبت فوز حزب ائتلاف اليسار الراديكالي اليوناني والمعروف اختصارا باسم “سيريزا” بالانتخابات التشريعية أن الأزمة الاقتصادية التي تضرب القارة الأوروبية منذ ثلاثة سنوات كان لها أثارها السياسية العميقة على الأوروبيين خاصة منهم الأكثر تضررا.

إن المتتبع للمشهد الانتخابي في أوروبا يكتشف أن اليونان أخذت منحى مغايرا تماما لما هو عليه في دول القارة الأوروبية الأخرى التي عرفت انتعاشا غير مسبوق لليمين بشكل عام واليمين المتطرف على وجه الخصوص والذي أحدث مفاجآت انتخابية في العديد من هذه الدول لاسيما فرنسا التي تعرض فيها اليسار إلى زلزال انتخابي حقيقي بسبب النتائج التي أحرزها منافسه اليميني عموما والجبهة الوطنية على وجه الخصوص التي تحصلت على نتائج تاريخية كانت بكل تأكيد أكبر مفاجأة تعرفها الانتخابات المحلية الفرنسية الأخيرة إلى درجة أن أحد كبار فيلة اليسار الفرنسي أطلق عليها “الموجة الزرقاء” في إشارة إلى اكتساح اليمين.

الهزة الإرتدادية الأولى لفوز “سيريزا”
   
إن النتائج الاقتصادية للاستحقاق السياسي اليوناني في أوروبا لم تنتظر طويلا لتنكشف للعيان أول هذه النتائج هو السقوط الحر للأورو أمام الدولار في انخفاض لم تعرفه هذه العملة الأوربية الموحدة منذ 11 سنة كاملة وهو مؤشر واضح على أن منطقة الأورو تعيش على وقع أكبر الهزات الإرتدادية للأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت بما عرف بأزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة سنة 2008، وانتقلت لاحقا إلى أوروبا التي لم يشفع لها عدم ارتباط اقتصادها بالدولار الأمريكي من البقاء في مأمن عنها وعن أثارها التي لا تزال تعصف بها كأكبر محنة تواجه الاتحاد الأوروبي منذ إنشائه، إلى درجة أن إعادة النظر في هذا الفضاء الموحد أصبح مطروحا في الشارع الأوروبي الذي ضاق ذرعا بالبطالة المتفاقمة وسياسات التقشف الخانقة والمستمرة لسنوات بعد فرضها من قبل المؤسسات النقدية الدولية والأوروبية، وهذه السياسات كانت السبب المباشر وراء فوز “اليكسيس تسيبراس” صاحب الأربعين ربيعا ورئيس تحالف اليسار الراديكالي “سيريزا” بالانتخابات التشريعية اليونانية. وللتذكير فقط يعتبر “اليكسيس تسيبراس” أصغر سياسي يوناني يتولى رئاسة الوزارة الأولى في هذا البلد الأوروبي منذ ما يناهز القرن.

هل بدأ مسار تفكيك الاتحاد الأوروبي؟

من السابق لأوانه التكهن بمستقبل الاتحاد الأوروبي الذي يظل تجربة رائدة في أكبر عملية اندماجية متعددة الأبعاد تمت عبر مسارات متدرجة
ومتوازنة أملتها إرادة سياسية قوية لقادة أوروبيين آمنوا بتوحيد القارة الأوروبية التي وجدت نفسها مجبرة على الوحدة لمواجهة المعطيات الجيوسياسية والجيواقتصادية التي أفرزتها نهاية الحرب العالمية الثانية
والتي أدت إلى انهيار القوى التقليدية لصالح القوتين العظمتين وهما الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية اللتان أنقذتا أوروبا نفسها من ألمانيا النازية.
إن إخراج أوروبا الغربية من تحت المظلة الأمريكية شكل أحد أكبر هواجس أبرز القادة الأوروبيين الذين استشعروا أن الولايات الامريكية تريد أن تستغلهم كنقطة متقدمة لمواجهة المد الشيوعي السوفياتي في القارة الأوروبية التي تحولت لاحقا إلى حلبة للمواجهة بين ايديولوجيتين مختلفتين وكان آثار هذا الصدام واضحا على القارة الأوروبية التي وجدت نفسها مقسمة إلى شرقية وغربية يفصل بينها ما عرف حينها بـ “الستار الحديدي”بل حتى المانيا نفسها التي خلّصتها من النازية تم اقتسامها كغنيمة في إطار الحرب الباردة.  
إن الولايات المتحدة الأمريكية يزعجها بكل تأكيد أن تتحول أوروبا التي انعشتها بمشروع مارشال العملاق من خلال إنفاق الملايير من الدولارات من مجرد محور لتنفيذ سياساتها واستراتجياتها الرامية إلى الهيمنة على العالم إلى كتلة منافسة لها اقتصاديا، نقديا وعسكريا لهذا فإن الولايات المتحدة ستكون أكبر المستفيدين من انفراط عقد الوحدة الأوروبية إلى درجة أن بعض المحللين ذهبوا إلى حد اعتبار أن الولايات المتحدة هي من عملت على تصدير الأزمة المالية إلى أوروبا لضرب الاقتصاد ومن ثمة ضرب الاتحاد الأوروبي ذاته.
تعطي تصريحات المستشارة الألمانية انغيلا ميركل -التي تعتبر بلادها أهم قاطرة في مسار الوحدة الأوروبية إلى جانب فرنسا- أنها لا تمانع انسحاب اليونان من الاتحاد الاوروبي، الانطباع بأن هذا البلد أصبح يشكل عبئا كبيرا على الاتحاد الأوروبي أو بعبارة أخرى هو الحمولة التي يجب التخلي عنها حتى لا تغرق السفينة الأوروبية بأكملها، من ناحيته اعتبر رئيس الوزراء اليوناني الجديد أن السياسات المالية والاقتصادية التي يفرضها الاتحاد على بلاده قاسية ولا تعكس سياسة تضامن حقيقية يجب أن يبديها الاتحاد الأوروبي مع بلاده لمواجهة الإفلاس وهذا يعني أن الاتحاد الأوروبي في ورطة حقيقية، فإما الاستجابة لمطالب الحكومة الجديدة هناك التي لا تريد التخلي عن دورها الاجتماعي كدولة وتسعى علنا إلى التمرد على سياسات التقشف القاتلة المفروضة عليها واستبدالها بأخرى تكون أقل وقعا على الشعب اليوناني مثل خفض المديونية واطلاق الاستثمارات في البلاد...الخ وهي شروط قد لا تجد صداها لدى دول الاتحاد الأوروبي الأخرى التي تعاني بدورها من هزات اقتصادية وإما عدم الرضوخ لهذه المطالب وهو ما يعني انسحاب اليونان من الاتحاد
ومن كل الالتزامات المرافقة لذلك ويبدأ بذلك دومينو مسار تفكيك الاتحاد الاوربي وانتهاء العملة الأوروبية الموحدة خاصة وأن هذه الأخيرة منذ اعتمادها قلصت القدرة الشرائية للمواطن الأوروبي خاصة في الدول التي كانت لديها اقتصادات ضعيفة ووجدت نفسها مجبرة على التعامل بـ “الاورو”، كما أن هناك توجه يزداد انتشارا منذ بداية الأزمة في منطقة الاورو - خصوصا في الدول الأكثر تضررا- يدعو إلى الانسحاب من الاتحاد الأوروبي وقد تكون نتائج الانتخابات اليونانية هذه أكبر مؤشر على ذلك كما علاوة على أنها تعتبر ضربة كبيرة للنظام الراسمالي العالمي الذي أثبت عجزه عن التنبؤ بوقوع الأزمات والفشل في مواجهتها بل أكثر من ذلك أصبح آلية منتجة للأزمات الاقتصادية والمالية بشكل دوري.