طباعة هذه الصفحة

«الشعب» عنوان للوفاء والاستمرارية

من قيم نوفمبر إلى المصالحة والتنمية

فضيلة بودريش

تمر الذكرى ال53 على ميلاد عميدة الصحف الجزائرية الناطقة باللغة العربية، التي واكبت مسار بناء الدولة الجزائرية الحديثة بعد الاستقلال بأقلام من صنعوا الثورة وشاركوا في معركة الحرية، وبقيت وفية لصوت الشعب الجزائري تلامس اهتماماته وتؤرخ للتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي شهدتها الجزائر بجميع ايجابياتها وسلبياتها في جميع المراحل، حاملة اسمه تقديرا لشعب رائد في مواجهة الظلم واستعادة أرضه بدماء وأرواح أبنائه..أقلام «الشعب» بقي حبرها يضيء يوميات الجزائري، يتقصى انشغالاته، ويتأثر بالانتكاسات التي تكبدها والظروف السوداء التي عصفت برهاناته، تنكمش لكن يبقى صوتها يسطع وسط تعدد العناوين الإعلامية.
ليس غريبا أن يحضر الأجانب من الإعلاميين والمثقفين وهم يحملون شغف الوقوف على إرث الثورة الجزائرية المنتصرة على أعتى إمبراطورية أوروبية في ثورة مريرة، مرددين عبارة «إنه حلم أن نقف على الجريدة التي أسسها من صنعوا ثورة الحرية للجزائر»، ورغم ما تعرضت إليه الجريدة من تحديات مصيرية بقية حية تدافع عن مكانها وسط ساحة إعلامية يحتدم فيها التنافس بين عشرات العناوين التي تتسابق لطرح مادة إعلامية مغرية. دون شك إنها الجريدة التي رغم تداول أربعة أجيال على قاعات تحريرها، إلا أنها بقيت محافظة على خطها الوطني لا تحيد عن الدفاع عن مصلحة الوطن والشعب تقاسمه الفرحة ولا تغيب عن أحزانه، تنتقد النقائص بعيدا عن أي تجريح وتثمن المكاسب لتعزيزها والحفاظ على كل إضافة تحقق.
الأرشيف.. ذاكرة اعلامية    
وجد العديد من طلبة الماجستير والدكتوراه مادة بحوثهم المتنوعة بين صفحات مجلدات الجريدة التي تنفرد دون غيرها بكونها رائدة في التأريخ لجزائر ما بعد الاستقلال، وحتى بالنسبة لتلك الصور النادرة للرؤساء  والفنانين والمثقفين والعباقرة وأصدقاء الجزائر، مازالت تشهد على عراقة الجريدة التي تعد الأكثر عطاء من حيث عمر مسارها وتكوينها لأقلام صحفية لامعة أطرت فيما بعد عدة قطاعات. يمكن الوقوف في البداية على أول عدد لجريدة ناطقة بالعربية بعد أن كانت جميع الصحف الصادرة إبان الاستعمار باللغة الفرنسية ما عدا «الشهاب» التابعة لجمعية العلماء المسلمين، العدد الذي أعده مجاهدون بعد أشهر قليلة من افتكاك الاستقلال حمل طموحات الثوار وتطلعات الشعب، منطلقة من رصيد انتصار كاسح وبعد قطيعة مع زمن الاستعمار، ويتضمن العدد الأول صورة أول رئيس للدولة الجزائرية «أحمد بن بلة» رحمه الله وبقي فريق العمل الذي كان يعد على أصابع اليد محتفظا ومتشبثا بقيم الحرية وعنفوان الثورة، يخوض مغامرة إعلامية جديدة تحمل في جوهرها التضحية والتفاني في خدمة الوطن رغم افتقاده للخبرة والتجربة وأمام قلة الأقلام التي تتقن لغة الضاد، إذا الجريدة تحمل في ذاكرتها جزءا معتبرا من الرصيد الثوري والكثير من العرفان لشجاعة مثقفي الجزائر الذين عملوا بجد والتزام متجاوزين جميع العراقيل وقلة الإمكانيات رافقت القرار السياسي والاقتصادي للدولة في مختلف مراحله مواكبة كل المحطات والتحولات مع الحرص على الاستماتة في الدفاع عن السيادة الوطنية والهوية والمكاسب الاجتماعية والاقتصادية بما في ذلك التصدي للإعلام الخارجي المغرض الذي استهدف الجزائر بسبب مواقفها الدولية الثابتة المرتكزة على الدفاع عن القضايا العادلة للشعوب والإشكاليات الإنسانية والأمنية. ويرصد أرشيف الجريدة طيلة أزيد من خمسة عقود كاملة كل كبيرة وصغيرة عن الجزائر لذا يمكن أن يخصص مركز لأرشيف «الشعب» عمره نصف قرن ويضع في متناول الطلبة والباحثين وحتى المواطنين المهتمين بما مر من أحداث لوطنهم والراغبين في العودة إلى تقصي أحداث محلية أو وطنية.
صمود وتضحية
رغم الانتكاسات خاصة في عقد التسعينات بقي العنوان صامدا وضحى من أجله مجددا أبناء «الشعب « حتى يستمر العنوان بالصدور وصوته في الانتشار، فبعد أن غدرت يد الإرهاب الوحشية بعدة عمال ينتسبون إلى الجريدة، وجدت نفسها مرة ثانية تضحي طواعية بعدة أقلام صحفية خلال أزمة تسريح العمال عام 1997حيث تعرض أكثر من النصف لمختلف أنواع التسريح حتى لا تغلق الجريدة أبوابها، علما أنه في بداية عقد التسعينات فضل عدد من الصحافيين البقاء في العنوان رغم صعوبة الظرف وشدة المخاطرة التي خاضوها، في حين البعض الآخر انجذب نحو الانفتاح الإعلامي وتوجه إلى تأسيس عناوين وصفت بالمستقلة آنذاك، وأبرز الإعلاميين الذين أسسوا للعناوين الخاصة ممن تمرسوا في أقسام تحرير يومية «الشعب»، وبقيت هذه الجريدة تتدفق بالعطاء وتكدح بجدها صانعة العصر الذهبي للإعلام محتضنة للمواهب، فأكبر أدباء الجزائر عبروا جسر الإبداع من خلال هذا العنوان الذي بقي ملازما ووفيا لأجيال عديدة ويتسع لمختلف الأفكار، ومتنفسا لطرح المواقف الجريئة ضمن قواعد أخلاقيات وقيم المهنة، وعلى سبيل المثال الروائي واسيني الأعرج نشر أول قصة له على صفحات الجريدة، ولا يزال الكاتب أمين الزاوي يحمل ذكريات جميلة عن «الشعب الثقافي» ملحق الجريدة عندما شارك بقلمه إلى جانب الأديب الجزائري الكبير الطاهر وطار رحمه الله وكوكبة من المبدعين والأدباء، وحتى أحلام مستغانمي عبرت إلى الشهرة بعد أن تمرست في الجريدة وتوجهت فيما بعد إلى العمل الروائي. ونجد من الأقلام التي نضجت على صفحات «الشعب» شخصيات تبوأت مناصبا سامية وحملت حقائب وزارية وبقيت معتزة لم تتنكر معترفة بفضل صقل   لقدراتها.
تصحيح المعادلة
وكانت الجريدة في الموعد كلما تعلق الأمر بالقضايا المصيرية على غرار كشف وإسقاط الأقنعة للظاهرة الإرهابية عن طريق تقفي آثار القواعد الخلفية للإرهاب من خلال سلسلة من اكبر الربورتاجات في عدة عواصم أروبية نذكر منها لندن وبروكسل وباريس والعاصمة الألمانية آنذاك، حيث سلطت تلك الأعمال المتميزة الضوء على نقاط الظل التي كان يرتكز عليها الإرهاب من تمويل ودعاية إعلامية مفضوحة وإرساء المصالحة جاء المنعرج الحاسم والقطيعة مع آلة الموت والتخريب لإحراج الوطن إلى بر الأمان وتركيز الطاقات للتنمية والنهوض بالإنسان باعتباره رأس مال ينبض من خلال الصحة والتعليم والتكوين والحق في الإعلام. ورغم أن المصالحة أرست السلم وفتحت أبواب التنمية أعادت الاعتبار للكلمة ومن خلالها نهضت بالإعلام الوطني بجميع توجهاته.
ولكن اليوم وفي ظل الحراك الإعلامي المطرد والمهم على صعيد تنمية الحوار داخل المجتمع مازال الصحافي حتى في القطاع العمومي يواجه وضعا صعبا رغم القرار السياسي للدولة المنفتح والذي أعطى ضمانات للسير بعيدا في حرية التعبير، إلا أن بعض الدوائر المتدخلة في الشأن لا تزال متأخرة عن تلك القيمة بالنظر لبعض الممارسات التي تجاوزها الزمن لجزائر صارت حرية التعبير فيها مكسب قوة مستمد من قيم أول نوفمبر وليس مصدر خطر. يذكر أن الصحافي الذي يخدم العنوان ملزم في حالة محاكمته بتسديد أي غرامة مالية تفرض عليه حيث يجد نفسه وحيدا داخل أسوار المحاكم ينتظر في أروقتها مع اللصوص والمجرمين بسبب أداء المهنة وليس لخطأ في سلوك شخصي علما أن حساسية وخصوصية مهنة المتاعب تدمج أحيانا بين متطلبات العمل من جهة والذاتية من جهة أخرى، في انتظار تأسي سلطة ضبط الصحافة المكتوبة التي يعول عليها في تصحيح المعادلة من خلال تكفل هذه الهيئة بالقضايا المصنفة جنحا إعلامية، وينتظر أن تقلص هذه السلطة الأدبية والمعنوية والمهنية من العبء على الجهاز القضائي ليتفرغ لمواجهة الجريمة والفساد.